إمبراطورية روما .. من روما الى بغداد
إمبراطورية روما
إن إدارة مناطق بهذا الاتساع بمجتمعاتها المكونة من العبيد والمواطنين والعامة والقرويين - وبجيش قوي على أهبة الاستعداد - كانت تمثل جهدا كبيرا على نظام الحكم الجمهوري. وقد أدى الجهد المبذول للاستقرار والمركزية إلى دكتاتورية يوليوس قيصر في سنة 40 (ق.م) ومنذ تلك اللحظة كان تتابع الأباطرة الرومان تاريخا أخاذا من البطولة والفسوق والعبقرية والحماقة، مع كل المدى من التألق والانحلال في السلوك الإنساني. لكن مع كل ذلك، فقد كان للأباطرة شيء واحد مشترك: كان عملهم الرئيسي هو الإدارة.
كان كل إمبراطور يتعامل مع أكوام فوقها أكوام من الأوراق كل يوم. وكان من حق كل مواطن أن يقدم عريضة، وهو ما كانوا يفعلونه بشكل روتيني. كان لابد من قراءة القوانين والمراسيم والمواعيد، والتصرف فيها . وكان لابد من توزيع الجيوش وإقامة حصون لها وإمدادها بالمؤن، وقد نفع كل هذا الكابوس الإداري الذي كان يتم من دون آلات الفاكس أو لقاءات التليفون الرومان للتسجيل، وكذلك تم الاحتفاظ بسجلات تنويرية عن التقنية.
وكأناس عمليين، استخدم الرومان طاقاتهم في الأنظمة السياسية والعسكرية ولم ينفقوا إلا وقتا قليلا في تأمل أسرار الطبيعة. وقد استوردوا معارفهم الكيميائية من اليونان والمناطق التي فتحوها ، ولم يضيفوا الكثير من إبداعهم. لكنهم مع ذلك قاموا بعمل رائع هو تصنيف هذه المعارف : وقد ظلت دوائر المعارف والخلاصات الوافية التي جمعوها معترفا بها في أوروبا حتى القرن السابع عشر.
كان المؤلفي هذه الكتب ميزة امتلاك مناطق شاسعة، وسكان مختلفون ليأخذوا عنهم. فمثلا ارتحل ديوسكوريدس (مواطن إغريقي في الواقع كجراح مع جيوش نيرون، وكتب قائمة أدوية تضم حوالي ألف دواء بسيط بما في ذلك الأفيون واللفاح اللذين استخدما كمخدرين في الجراحة.
والتحضيرات غير العضوية مثل الزئبق وخلات الرصاص وهيدروكسيد الكالسيوم وأكسيد النحاس. ويمثل هذا النوع من الكتابات «التاريخ الطبيعي» ذو الأجزاء السبعة والثلاثين، والذي زعم مؤلفه، بليني، أنه يحتوي على 20 ألف حقيقة مهمة مستقاة من 2000 كتاب لمائة مؤلف . وينسب لبليني أصل كلمة دائرة المعارف «إنسيكلوبيديا » بسبب محاولته جمع شتات المواد التي تنتمي للسكان بشكل عام، أو إنكيكليوس بيديا». وقد جعلت مجهودات بليني منه المرجع الواقعي في الأمور العلمية حتى حلول العصور الوسطى الأوروبية.
بليني
عاش بليني في القرن الأول الميلادي، في عهد نيرون نفسه تقريبا . ولد في الغال (فرنسا)، وقدم إلى قبرص في الحملة العسكرية على ألمانيا، ثم درس القانون وكرس نفسه بعد ذلك للدراسات العلمية والكتابه . وقد ذهب بليني إلى روما بموافقة الإمبراطور فيسباسيان الذي خدم معه في ألمانيا وتقلد مناصب رسمية متنوعة.
ومع أن بليني كتب كتبا كثيرة، إلا أن كتابه «التاريخ الطبيعي هو الوحيد الذي احتفظ به وسجل بليني في هذا العمل كل المعلومات التي قابلها، ولأنه لم يكن يملك آلية التحقق من صدق كل شيء، فقد سجل معظم الأشياء دون تحقق . ومن الأمثلة المعروفة جيدا وصفه لوحيد القرن والعنقاء (الفونيكس) فقد كتب عنها بالحماس نفسه الذي وصف به الأسود والنسور. وقد قيم البعض ذلك كخطأ من جانبه - يكاد يكون كسلا - لكننا نعتقد أن ظروف وفاته تدحض ذلك فقد استسلم للأبخرة المتصاعدة من انفجار بركان فيزوف الذي قضى على مدينة بومبي، لأنه ذهب إلى الشاطئ للملاحظة المباشرة.
وقد يكون ذنب بليني هو السذاجة التي يمكن أن نغفرها له، فقد رأى بكل تأكيد ما يكفي في حياته ليجعله يصدق أن أي شيء ممكن. كذلك مع المهمة الموسوعية المملة، لابد أن نغفر له تفضيله للشروح المبهجة. كان بليني بعد كل ذلك نتاج زمانه . وقد ألف سينيكا - الفيلسوف الرواقي الذي قتل نفسه بأمر من نيرون - موسوعة لا تزيد على موسوعة بليني أهمية. وكتب سيلسيوس (اسم) سنسمع به مرة ثانية)، رسالة شاملة في الطب قام بجمعها سماعيا إن لم يكن ترجمها مباشرة عن الإغريقية. وعندما نقرأ في التواريخ الحديثة كيف استخدم هانيبال الخل في تحطيم الصخور، فإن ذلك يقلل من نقدنا لبليني.
وتعكس تقارير بليني رحلاته في بعض الأحيان. فقد كان يتحدث عن أبخرة خطرة من منجم للفضة في إسبانيا، وبالذات خطرة على الكلاب قد يكون ثاني أكسيد الكربون هو المذنب. ومع أننا لا نعتقد عادة في أنه غاز سام، إلا أن كثافته قد تتسبب في تراكمه قرب الأرض حيث مجال تنفس الكلاب التي يمكن أن تختنق) . يقرر بليني كذلك أن الغاليين - مواطني أوروبا الشمالية الأصليين - كانوا يصبغون شعرهم باللون الأحمر بواسطة الصابون. قد يكون كل ما فعله الصابون هو إزالة القذارة عن أناس حمر الشعر طبيعيا) . وقد ناضل بليني ليكون شاملا ، فقد سجل عمليات تتضمن الفلزات والأملاح والكبريت والزجاج، والهاون والسناج والرماد، وتشكيلة متنوعة من الطباشير والتربة والأحجار. وقد وصف إنتاج الفحم، وتزويد التربة بالجير والرماد والتسميد، وإنتاج الأنبذة والخل، ومختلف المياه المعدنية، والنباتات ذات الأهمية الطبية والكيميائية، وأنواع الرخام والجواهر والأحجار الكريمة. وهو يناقش بعض التفاعلات الكيميائية البسيطة مثل تحضير الرصاص وكبريتات النحاس، واستخدام الملح لتكوين كلوريد الفضة. ويعرض ورقة دليل بدائية مكونة من شريط من البردي مشبع بمستخلص من عقصة شجرة بلوط انتفاخ على جذع الشجرة يتكون من الفطر، يتغير لونها حال غمرها في محلول من الزاج الأزرق كبريتات النحاس المشوبة بالحديد.
وتبين تقارير بليني كذلك أن كل عناصر السيمياء تقريبا يمكن أن توجد في تقنية روما . عرفوا الزئبق ومملغم الزئبق مع الذهب المستخدم لاستخلاص الذهب من رماد الملابس الموشحة بخيوط من الذهب ، وكانوا يعرفون الذهب الزائف باستخدام البرونز المصبوغ بمرارة الثور للاستعمال في تيجان المسرح. لكن بليني ناقش الاختبارات التي تفرق بين الذهب
الحقيقي والصناعي، ولم يكن يستخدم التعاويذ الطرق الصوفية - الباطنية) أو ادعاء إنتاج ذهب أصلي. وتبين تقارير بليني كذلك أن الرومان كانوا يمتلكون ويستخدمون العديد من الصبغات العضوية وغير العضوية. وحيث كان السكندريون يتخذون من وجود الصبغات دليلا على التحول، فإن بليني كان يذكرها كحقيقة واقعة ولا يستخلص من ذلك أي استنتاج. وقد أشار إلى استخدام ألوان النيلة والأرجوان والأبيض والبرتقالي والأخضر والأحمر والأسود بمختلف درجاتها ، ويقرر أن هذه الألوان كانت تستخدم في الصور الجدارية الجداريات والتماثيل والسفن وفي المحارق الجنائزية للمصارعين.
وعندما كان يسجل الأمور الطبية، فإن حاجة بليني للمعرفة وحسن التمييز كانت تقف عائقا . فهو لم يكتف بتسجيل كل وسيلة ممكنة للمداواة فالصداع يشفى إذا لمست خرطوم فيل برأسك، ويصبح العلاج فعالا إذا كان الفيل يعطس ) لكنه كان ينصح باستعمال كل طريقة ممكنة لعلاج المرض نفسه، وكل علاج كان يبدو ذا قوة إحياء شاملة . مثلا كان يقال إن القار القار الطبيعي الخام يوقف النزيف ، ويبرئ الجروح، ويطرد الثعابين ويشفي من إعتام عدسة العين (كتاراكت وكثافة القرنية، وبقع الجذام الحرشفية والحكة والنقرس والحمى ويفرد أهداب الجفن التي تضايق العين (1) وإذا حك البيتومين (القار) بالصودا ، فإنه يهدئ وجع الأسنان وإذا شرب مع النبيذ فهو يسكن الكحة المزمنة، ويريح من اللهاث ضيق التنفس ويوقف الإسهال. ويقال إن البيتومين مع الخل يذيب تجلط الدم ويريح من القطان ألم في أسفل الظهر والروماتيزم. وتستخدم كمادة من القار مع دقيق الشعير لعلاج تمزق العضلات. أما القار المحترق فإنه يكشف عن الصرع، وأما التبخير بالقار فإنه يرفع الدوالي.
وقد يكون لبعض هذه المزاعم أساس، مثل استخدام القار لوقف النزيف أو إغلاق الجروح. أما تناول القار مع النبيذ، فيمكن أن يكون النبيذ نفسه هو العامل الفعال. وحين يقال إن القار يقضي على احتقان الرحم [و] يسرع من الطمث (2)، وهو ما يشير إلى استخدامه كوسيلة إجهاض (ترجع فعاليته إلى التسمم العام الذي يسببه) . لكن في معظم الأمور الطبية لم يكن بليني على المستوى. وقد جمع مؤلف عريض (شامل) عن فنون الطب بعد ذلك بقليل على يد اليوناني جالينوس .
جالينوس
كان جالينوس البرجاموسي الذي عاش حوالى سنة 150 ميلادية، ابنا المهندس معماري، لكن يبدو أنه لم يكن لديه خيار سوى أن يمتهن حرفة الطب. فالمدينة التي ولد فيها كان بها مزار مقدس لآلهة الشفاء. وكان الكاهن الأكبر لهذا المزار يحتفظ بجثث المصارعين، وهو الأمر الذي أعطى جالينوس متسعا من الوقت ليختبر الجروح ويحكم على تأثير العلاج الطبي فيها . وقد مَوَّل والده دراسته في آسيا الصغرى وكورينثة والإسكندرية وعندما عاد تقلد منصب كبير الأطباء للمصارعين، وقد زاد ذلك من معارفه العملية.
بعد فترة وجيزة، ومثل باقي الإغريق الطموحين، ارتحل جالينوس إلى روما، وسرعان ما اكتسب سمعة في العلاج المبتكر، حيث لا يستطيع الآخرون. ولم يكن جالينوس متواضعا إزاء هذه النجاحات. وغادر روما عندما دخلها الطاعون زاعما أنه إنما يفر من خطب أعدائه الحسودين، وليس من الوباء. وبعد انتهاء الوباء عاد جالينوس وتقلد منصب طبيب كومودوس، ولي العهد . وقد منحته هذه الوظيفة المريحة وقتا للكتابة، وهو ما فعله.
كتب جالينوس عن دراساته في التشريح، والتي كانت على أساس الرئيسيات (رتبة) من الثدييات تشمل الإنسان والقرد، لأن تشريح الجسم البشري كان مخالفا للقانون في ذلك الوقت. كان التشريح قريبا للإنسان مع وجود استثناءات مهمة تسبب البلبلة للأجيال اللاحقة من الأتباع . كذلك كتب جالينوس عن فلسفته الطبية، فقد كان يعتقد أن الصحة الجيدة تتطلب توازنا بين الأخلاط الأربعة : البلغم، والمرارة السوداء، والمرارة الصفراء والدم. وقد درس وظائف الشرايين والأوردة، واقترب كثيرا من التوصل إلى نظرية عن الدورة الدموية. كان لجالينوس تأثير قوي في الطب على مدى الـ 1400 سنة» التالية، وفي نهاية هذه الفترة سنعود لنسمع عنه مرة أخرى.
كان جالينوس يعتقد كذلك أن الطبيب لابد أن يكون فيلسوفا، وقد قام في كتاباته بالتعليق على تأثير اليهودية والمسيحية في الحياة الرومانية ونقد ذلك. وكان قلقه مفهوما ، فقد بدأ هذا التأثير يصبح محسوسا في ذلك الوقت.
إمبراطورية روما
إن إدارة مناطق بهذا الاتساع بمجتمعاتها المكونة من العبيد والمواطنين والعامة والقرويين - وبجيش قوي على أهبة الاستعداد - كانت تمثل جهدا كبيرا على نظام الحكم الجمهوري. وقد أدى الجهد المبذول للاستقرار والمركزية إلى دكتاتورية يوليوس قيصر في سنة 40 (ق.م) ومنذ تلك اللحظة كان تتابع الأباطرة الرومان تاريخا أخاذا من البطولة والفسوق والعبقرية والحماقة، مع كل المدى من التألق والانحلال في السلوك الإنساني. لكن مع كل ذلك، فقد كان للأباطرة شيء واحد مشترك: كان عملهم الرئيسي هو الإدارة.
كان كل إمبراطور يتعامل مع أكوام فوقها أكوام من الأوراق كل يوم. وكان من حق كل مواطن أن يقدم عريضة، وهو ما كانوا يفعلونه بشكل روتيني. كان لابد من قراءة القوانين والمراسيم والمواعيد، والتصرف فيها . وكان لابد من توزيع الجيوش وإقامة حصون لها وإمدادها بالمؤن، وقد نفع كل هذا الكابوس الإداري الذي كان يتم من دون آلات الفاكس أو لقاءات التليفون الرومان للتسجيل، وكذلك تم الاحتفاظ بسجلات تنويرية عن التقنية.
وكأناس عمليين، استخدم الرومان طاقاتهم في الأنظمة السياسية والعسكرية ولم ينفقوا إلا وقتا قليلا في تأمل أسرار الطبيعة. وقد استوردوا معارفهم الكيميائية من اليونان والمناطق التي فتحوها ، ولم يضيفوا الكثير من إبداعهم. لكنهم مع ذلك قاموا بعمل رائع هو تصنيف هذه المعارف : وقد ظلت دوائر المعارف والخلاصات الوافية التي جمعوها معترفا بها في أوروبا حتى القرن السابع عشر.
كان المؤلفي هذه الكتب ميزة امتلاك مناطق شاسعة، وسكان مختلفون ليأخذوا عنهم. فمثلا ارتحل ديوسكوريدس (مواطن إغريقي في الواقع كجراح مع جيوش نيرون، وكتب قائمة أدوية تضم حوالي ألف دواء بسيط بما في ذلك الأفيون واللفاح اللذين استخدما كمخدرين في الجراحة.
والتحضيرات غير العضوية مثل الزئبق وخلات الرصاص وهيدروكسيد الكالسيوم وأكسيد النحاس. ويمثل هذا النوع من الكتابات «التاريخ الطبيعي» ذو الأجزاء السبعة والثلاثين، والذي زعم مؤلفه، بليني، أنه يحتوي على 20 ألف حقيقة مهمة مستقاة من 2000 كتاب لمائة مؤلف . وينسب لبليني أصل كلمة دائرة المعارف «إنسيكلوبيديا » بسبب محاولته جمع شتات المواد التي تنتمي للسكان بشكل عام، أو إنكيكليوس بيديا». وقد جعلت مجهودات بليني منه المرجع الواقعي في الأمور العلمية حتى حلول العصور الوسطى الأوروبية.
بليني
عاش بليني في القرن الأول الميلادي، في عهد نيرون نفسه تقريبا . ولد في الغال (فرنسا)، وقدم إلى قبرص في الحملة العسكرية على ألمانيا، ثم درس القانون وكرس نفسه بعد ذلك للدراسات العلمية والكتابه . وقد ذهب بليني إلى روما بموافقة الإمبراطور فيسباسيان الذي خدم معه في ألمانيا وتقلد مناصب رسمية متنوعة.
ومع أن بليني كتب كتبا كثيرة، إلا أن كتابه «التاريخ الطبيعي هو الوحيد الذي احتفظ به وسجل بليني في هذا العمل كل المعلومات التي قابلها، ولأنه لم يكن يملك آلية التحقق من صدق كل شيء، فقد سجل معظم الأشياء دون تحقق . ومن الأمثلة المعروفة جيدا وصفه لوحيد القرن والعنقاء (الفونيكس) فقد كتب عنها بالحماس نفسه الذي وصف به الأسود والنسور. وقد قيم البعض ذلك كخطأ من جانبه - يكاد يكون كسلا - لكننا نعتقد أن ظروف وفاته تدحض ذلك فقد استسلم للأبخرة المتصاعدة من انفجار بركان فيزوف الذي قضى على مدينة بومبي، لأنه ذهب إلى الشاطئ للملاحظة المباشرة.
وقد يكون ذنب بليني هو السذاجة التي يمكن أن نغفرها له، فقد رأى بكل تأكيد ما يكفي في حياته ليجعله يصدق أن أي شيء ممكن. كذلك مع المهمة الموسوعية المملة، لابد أن نغفر له تفضيله للشروح المبهجة. كان بليني بعد كل ذلك نتاج زمانه . وقد ألف سينيكا - الفيلسوف الرواقي الذي قتل نفسه بأمر من نيرون - موسوعة لا تزيد على موسوعة بليني أهمية. وكتب سيلسيوس (اسم) سنسمع به مرة ثانية)، رسالة شاملة في الطب قام بجمعها سماعيا إن لم يكن ترجمها مباشرة عن الإغريقية. وعندما نقرأ في التواريخ الحديثة كيف استخدم هانيبال الخل في تحطيم الصخور، فإن ذلك يقلل من نقدنا لبليني.
وتعكس تقارير بليني رحلاته في بعض الأحيان. فقد كان يتحدث عن أبخرة خطرة من منجم للفضة في إسبانيا، وبالذات خطرة على الكلاب قد يكون ثاني أكسيد الكربون هو المذنب. ومع أننا لا نعتقد عادة في أنه غاز سام، إلا أن كثافته قد تتسبب في تراكمه قرب الأرض حيث مجال تنفس الكلاب التي يمكن أن تختنق) . يقرر بليني كذلك أن الغاليين - مواطني أوروبا الشمالية الأصليين - كانوا يصبغون شعرهم باللون الأحمر بواسطة الصابون. قد يكون كل ما فعله الصابون هو إزالة القذارة عن أناس حمر الشعر طبيعيا) . وقد ناضل بليني ليكون شاملا ، فقد سجل عمليات تتضمن الفلزات والأملاح والكبريت والزجاج، والهاون والسناج والرماد، وتشكيلة متنوعة من الطباشير والتربة والأحجار. وقد وصف إنتاج الفحم، وتزويد التربة بالجير والرماد والتسميد، وإنتاج الأنبذة والخل، ومختلف المياه المعدنية، والنباتات ذات الأهمية الطبية والكيميائية، وأنواع الرخام والجواهر والأحجار الكريمة. وهو يناقش بعض التفاعلات الكيميائية البسيطة مثل تحضير الرصاص وكبريتات النحاس، واستخدام الملح لتكوين كلوريد الفضة. ويعرض ورقة دليل بدائية مكونة من شريط من البردي مشبع بمستخلص من عقصة شجرة بلوط انتفاخ على جذع الشجرة يتكون من الفطر، يتغير لونها حال غمرها في محلول من الزاج الأزرق كبريتات النحاس المشوبة بالحديد.
وتبين تقارير بليني كذلك أن كل عناصر السيمياء تقريبا يمكن أن توجد في تقنية روما . عرفوا الزئبق ومملغم الزئبق مع الذهب المستخدم لاستخلاص الذهب من رماد الملابس الموشحة بخيوط من الذهب ، وكانوا يعرفون الذهب الزائف باستخدام البرونز المصبوغ بمرارة الثور للاستعمال في تيجان المسرح. لكن بليني ناقش الاختبارات التي تفرق بين الذهب
الحقيقي والصناعي، ولم يكن يستخدم التعاويذ الطرق الصوفية - الباطنية) أو ادعاء إنتاج ذهب أصلي. وتبين تقارير بليني كذلك أن الرومان كانوا يمتلكون ويستخدمون العديد من الصبغات العضوية وغير العضوية. وحيث كان السكندريون يتخذون من وجود الصبغات دليلا على التحول، فإن بليني كان يذكرها كحقيقة واقعة ولا يستخلص من ذلك أي استنتاج. وقد أشار إلى استخدام ألوان النيلة والأرجوان والأبيض والبرتقالي والأخضر والأحمر والأسود بمختلف درجاتها ، ويقرر أن هذه الألوان كانت تستخدم في الصور الجدارية الجداريات والتماثيل والسفن وفي المحارق الجنائزية للمصارعين.
وعندما كان يسجل الأمور الطبية، فإن حاجة بليني للمعرفة وحسن التمييز كانت تقف عائقا . فهو لم يكتف بتسجيل كل وسيلة ممكنة للمداواة فالصداع يشفى إذا لمست خرطوم فيل برأسك، ويصبح العلاج فعالا إذا كان الفيل يعطس ) لكنه كان ينصح باستعمال كل طريقة ممكنة لعلاج المرض نفسه، وكل علاج كان يبدو ذا قوة إحياء شاملة . مثلا كان يقال إن القار القار الطبيعي الخام يوقف النزيف ، ويبرئ الجروح، ويطرد الثعابين ويشفي من إعتام عدسة العين (كتاراكت وكثافة القرنية، وبقع الجذام الحرشفية والحكة والنقرس والحمى ويفرد أهداب الجفن التي تضايق العين (1) وإذا حك البيتومين (القار) بالصودا ، فإنه يهدئ وجع الأسنان وإذا شرب مع النبيذ فهو يسكن الكحة المزمنة، ويريح من اللهاث ضيق التنفس ويوقف الإسهال. ويقال إن البيتومين مع الخل يذيب تجلط الدم ويريح من القطان ألم في أسفل الظهر والروماتيزم. وتستخدم كمادة من القار مع دقيق الشعير لعلاج تمزق العضلات. أما القار المحترق فإنه يكشف عن الصرع، وأما التبخير بالقار فإنه يرفع الدوالي.
وقد يكون لبعض هذه المزاعم أساس، مثل استخدام القار لوقف النزيف أو إغلاق الجروح. أما تناول القار مع النبيذ، فيمكن أن يكون النبيذ نفسه هو العامل الفعال. وحين يقال إن القار يقضي على احتقان الرحم [و] يسرع من الطمث (2)، وهو ما يشير إلى استخدامه كوسيلة إجهاض (ترجع فعاليته إلى التسمم العام الذي يسببه) . لكن في معظم الأمور الطبية لم يكن بليني على المستوى. وقد جمع مؤلف عريض (شامل) عن فنون الطب بعد ذلك بقليل على يد اليوناني جالينوس .
جالينوس
كان جالينوس البرجاموسي الذي عاش حوالى سنة 150 ميلادية، ابنا المهندس معماري، لكن يبدو أنه لم يكن لديه خيار سوى أن يمتهن حرفة الطب. فالمدينة التي ولد فيها كان بها مزار مقدس لآلهة الشفاء. وكان الكاهن الأكبر لهذا المزار يحتفظ بجثث المصارعين، وهو الأمر الذي أعطى جالينوس متسعا من الوقت ليختبر الجروح ويحكم على تأثير العلاج الطبي فيها . وقد مَوَّل والده دراسته في آسيا الصغرى وكورينثة والإسكندرية وعندما عاد تقلد منصب كبير الأطباء للمصارعين، وقد زاد ذلك من معارفه العملية.
بعد فترة وجيزة، ومثل باقي الإغريق الطموحين، ارتحل جالينوس إلى روما، وسرعان ما اكتسب سمعة في العلاج المبتكر، حيث لا يستطيع الآخرون. ولم يكن جالينوس متواضعا إزاء هذه النجاحات. وغادر روما عندما دخلها الطاعون زاعما أنه إنما يفر من خطب أعدائه الحسودين، وليس من الوباء. وبعد انتهاء الوباء عاد جالينوس وتقلد منصب طبيب كومودوس، ولي العهد . وقد منحته هذه الوظيفة المريحة وقتا للكتابة، وهو ما فعله.
كتب جالينوس عن دراساته في التشريح، والتي كانت على أساس الرئيسيات (رتبة) من الثدييات تشمل الإنسان والقرد، لأن تشريح الجسم البشري كان مخالفا للقانون في ذلك الوقت. كان التشريح قريبا للإنسان مع وجود استثناءات مهمة تسبب البلبلة للأجيال اللاحقة من الأتباع . كذلك كتب جالينوس عن فلسفته الطبية، فقد كان يعتقد أن الصحة الجيدة تتطلب توازنا بين الأخلاط الأربعة : البلغم، والمرارة السوداء، والمرارة الصفراء والدم. وقد درس وظائف الشرايين والأوردة، واقترب كثيرا من التوصل إلى نظرية عن الدورة الدموية. كان لجالينوس تأثير قوي في الطب على مدى الـ 1400 سنة» التالية، وفي نهاية هذه الفترة سنعود لنسمع عنه مرة أخرى.
كان جالينوس يعتقد كذلك أن الطبيب لابد أن يكون فيلسوفا، وقد قام في كتاباته بالتعليق على تأثير اليهودية والمسيحية في الحياة الرومانية ونقد ذلك. وكان قلقه مفهوما ، فقد بدأ هذا التأثير يصبح محسوسا في ذلك الوقت.
تعليق