"يوم آخر للقتل" صرخة في مواجهة الخرافة وظلم النساء
حالات غرق واختفاء لفتيات القرية تكشف رعب مجتمع الدجالين.
الاثنين 2025/02/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook

ما زال عالم المرأة قاسيا في الريف (لوحة للفنان محمود سعيد)
تناولت الكثير من الروايات والقصص حياة الريف في مصر، قصص كثيرة تداولتها الدراما والأفلام أيضا، حتى أصبحت نوافذ مشرعة على العوالم تلك المخفية بعاداتها وأساطيرها وخرافاتها وقسوتها وجمالها. اقتحام عالم الريف لاستنطاقه مرة أخرى يبدو مغامرة مثيرة، وهذا ما تخوضه الكاتبة المصرية هناء متولي في روايتها “يوم آخر للقتل”.
القاهرة - لم يعد الريف في مصر كما في السابق. اعترته تغيرات عديدة فرضت نفسها. لعبت فيها مواقع التواصل الاجتماعي والأخلاقيات المصاحبة لها أحد أدوار البطولة. انفتح الكل على شتى الأصقاع ليس في مصر وحدها إنما في مختلف بقاع الأرض. انفتح الكل لكن دون وعي. زادت التطلعات واتسعت رقعة المقارنات دون سبيلٍ موضوعي للترقي إنما هي فقط المشاهدات والأرباح والأحلام.
ملـمح مهم تقدمه رواية “يوم آخر للقتل” للكاتبة المصرية هناء متولي، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، وتدور حول حياة الريف التي تغيرت، وما لم يتغير وكشفته الرواية انتشار الخرافة وغبن حقوق النساء.
المرأة في القرية
أنات حقيقية تنقلها الكاتبة إلى القارئ من خلال الرواية
تدور أحداث الرواية في قرية تحمل اسم “كوم الديبة” بمحافظة الدقهلية (شمال مصر)، والاسم وحده دال على ما يشهده القارئ من قصص وحكايات وأحداث تعكس طبيعة المكان، الذي يبدو مثل كومة من الذئاب المجتمعة، المستعدة للنهش وإشاعة الخوف والقتل، لاسيما ضد المرأة.
تبدأ الرواية من السطر الأول بما اختارت أن تعكسه أحداثها ككل، أو ربما رسالتها، إذ يقول الراوي العليم “أنَّاتٌ خفيضةٌ وآسرة، لا تنقطع، تملك عقول نساء قرية كوم الديبة بأكملها، لا تفرق بين عجوزٍ أو رضيعة، تسير في كل اتجاه،” لتأتي حكايات بطلات
الرواية في المجمل بمنزلة أنَّات حقيقية تريد الكاتبة أن تنقلها إلى قارئها دون انقطاع، ودون وجود ما يشير إلى نهايتها، وفقا لآخر كلمتين في الرواية “لا نهاية”.
وتحدد من البداية كذلك، من الفقرة الأولى، خصمها الذي تشهر سلاحها نحوه، فهذه الأنَّات، أو الأصوات الليلية الغامضة، بالرغم من أن كل نساء القرية يسمعنها حتى كأنهن يرينها، إلا أن “الصوت لا يصل إلى آذان الرجال أبدًا، كأن موجاته تنكسر على حواف مسامعهم.”
هذه الأصوات التي ترسم الرواية ملامحها وانعكاساتها في أجواء غرائبية تبدو كأنين ليلي تطلقه الفتيات والسيدات الغارقات في القرية التي اشتهرت بكثرة حوادث غرق النساء فيها بشكل غامض، ولذلك فإن كل نساء القرية يستجبن له عندما يسمعنه فهو كما تقول الرواية “يهيج أعصابهن، وينفذ إلى أرواحهن، يملكهن، ويسلبهن أية مقاومة، يفصل الروح عن الجسد؛ فتنعزل النساء عن الحياة، ويتحولن إلى مسوخ شاحبة.”
وإثر ذلك ينسَبن من أسِرّتهن كالماء، يصعدن إلى أسطح المنازل، بثياب سوداء، حاسرات الرؤوس، “يصعدن إلى الأعلى حيث لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواءً لم يختلط بعد بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرًا غاضبًا، يمزِّقن جلابيبهن حتى تصير صدورهن حرة من دون خوف.”
كل شيء واضح، لا يحتاج إلى تفسير، تحتاج النساء إلى الحرية، يرفضن الوصاية، ينشدن العدالة في النظرة إليهن كبشر، لذا فإن أولئك النسوة الصاعدات إلى أسطح المنازل “حيث لا حجاب بينهن وبين السماء” يبدأن في صراخ وعويل ينهش القلوب، “ويُفزع كلَّ الموجودات، الطيور والحيوانات تهجر أعشاشها ومضاجعها الدافئة وتشاركهن صراخًا لا يفتر حتى طلوع الفجر، بينما الرجال يغطون في نومٍ ثقيلٍ حتى الصباح.”
ويبدو الرجل منذ السطور الأولى خصمًا، عدوًّا، وحشًا كاسرًا لا يعي أو يسمع أوجاع النساء، حتى الطيور والحيوانات تشعر وهو لا يشعر.
هذه هي الرؤية التي تميز ما يعرف بالأدب النسائي بشكل عام، إن كان من الجائز أصلًا تصنيف الأدب على هذا النحو، ونحن لا نميل إلى التعاطي معها أو اعتبارها رؤية فكرية قابلة للمناقشة؛ رفضًا أو اتفاقًا، إنما هي صرخات وجع تريح صاحباتها فحسب، لكن هذا لا ينطبق تمام الانطباق على رواية الكاتبة هناء متولي لأسباب عدة.
أحداث الرواية تدور في مجتمع الريف بعاداته وتقاليده حيث تغيب حقوق المرأة في الميراث والحب واختيار المصير
أهم هذه الأسباب هو أن رواية “يوم آخر للقتل” تدور في مجتمع الريف بعاداته وتقاليده الموروثة التي يطيح الكثير منها فعلا بحقوق المرأة في الميراث والحب واختيار شريك الحياة، وتوضع النساء وفقًا لها تحت الوصاية في كل
شيء، بل إن حياة المرأة ذاتها إن غرقت أو اختفت لا يكون البحث فيها موضوعًا ذا بال، ويمكن التواطؤ لتفسير الغياب من أبواب الخرافة، سعيا إلى التستر على الفضيحة، وليس كشف الحقيقة.
كما أن الرواية لم تبرئ ساحة النساء تمام البراءة، فالأحداث حافلة بالاختيارات الخاطئة لشريك العمر من جانب البطلات، اللائي هرب بعضهن مع أحبائهن ثم عُدن ليكتشفن سوء اختياراتهن لرجال عاطلين أو مدمنين. وهناك “مسعودة” الدجالة شريكة عصابة التنقيب عن الآثار من الرجال.
وهناك “فاطمة القتَّالة” المرأة المليحة البيضاء بارزة التضاريس التي تعددت علاقاتها بالغرباء في غياب زوجها، حتى رأتها يومًا طفلة بالصدفة مع أحدهم فما كان منها إلا أن كتمت أنفاسها ثم قطعت ساقيها وذراعيها بمنجل، ووضعتها في طست كبير وفوقها كومة من التبن، أشعلت فيها النيران، قامت بشيِّها.
وهكذا فالشر لا جنس له، والجريمة ليست حكرًا على الرجال، لكن يبقى أن الرجل في مجتمعاتا العربية، وفي الأرياف بالتحديد، يسهل عليه أن يجد جدرانًا عالية من التقاليد والموروثات يمكن أن يحتمي بها في مواجهة المرأة لابتلاع حقوقها أو اعتبارها مصدرًا للعار، ليغيب عندئذ ميزان العدل، وتتم محاسبتها إن أخطأت أشد الحساب ولو بإزهاق روحها، بينما لا يُحاسَب الرجال. وهذا حقٌ لا مراء فيه، وواقعٌ لا يمكن إنكاره، لكن ما أسبابه؟
صرخة ضد الخرافة
هناء متولي تكتب عن نساء يرفضن الوصاية رواية شديدة الإيلام ومفعمة كمثال لروايات الديستوبيا باليأس من المستقبل
تقول الخالة للبطلة سارة التي يتقاطع اسمها مع أسماء باقي بطلات الرواية، أسما وسمية، في حروف مشتركة، مثل همومهن المتشابهة، “ومن يومها يا سارة وقد تُركت القرية لتحكُّم الدجالين والمشعوذين.”
تلك هي المسألة، الخرافة والدجل، وتحكم سلطة تحول بين المرء، رجلا كان أم امرأة، وبين السماء، ما عبرت عنه الرواية من خلال شخصية “إبراهيم توكل” مدير الجمعية الشرعية في القرية، الرجل ذي اللحية الذي لا يعلم أحد مصدر أمواله التي تراكمت لدى عائلته البسيطة بعد سفره إلى الخارج لفترة قصيرة، ثم عاد ليقود عصابة للتنقيب عن الآثار في القرية أسفل البيوت، بالدجل وتقديم القرابين للجن وإن يكن عبر قتل الصغار.
لذلك كان طبيعيا أن تصبح قرية كوم الديبة وكرًا للقتل والجريمة، وموئلًا للخارجين عن القانون لتنعزل بالتالي عن محيطها ويخشاها الآخرون من أبناء القرى المجاورة، مثلما انعزلت مجتمعاتنا العربية بالكامل عن العالم، وانحرفت عن مسار مجرى التاريخ، بعد أن فقد الإنسان حقوقه، وقبلها قيمته.
ذلك هو السرطان الحقيقي، الذي أصاب صدر البطلة، واضطرها إلى استئصال ثديها لعلها تنجو، لكن لا نجاة في مجتمع تسوده الخرافة، تحكمه وتتحكم فيه، ولذلك فالبطلة عندما عثرت أخيرًا على ابنها الغائب زياد، رمز المستقبل، وجدت أنه قد صار “مطرب مهرجانات”، ولم يحن إليها أو يتعاطف معها، وجاءت النتيجة الأخيرة للرحلة متمثلة في الجنون والغرق.
يا له من ألم. تبدو الرواية شديدة الإيلام، مفعمة كمثال لروايات الديستوبيا باليأس من المستقبل. ولا عجب، فهي كحال نساء قرية كوم الديبة مسرح الأحداث؛ قررت أن تطلق صرخة عالية تفزع كل الموجودات، لعل فجرًا يطلع، لعل أحدًا يلتفت.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد شعير
كاتب مصري
حالات غرق واختفاء لفتيات القرية تكشف رعب مجتمع الدجالين.
الاثنين 2025/02/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook

ما زال عالم المرأة قاسيا في الريف (لوحة للفنان محمود سعيد)
تناولت الكثير من الروايات والقصص حياة الريف في مصر، قصص كثيرة تداولتها الدراما والأفلام أيضا، حتى أصبحت نوافذ مشرعة على العوالم تلك المخفية بعاداتها وأساطيرها وخرافاتها وقسوتها وجمالها. اقتحام عالم الريف لاستنطاقه مرة أخرى يبدو مغامرة مثيرة، وهذا ما تخوضه الكاتبة المصرية هناء متولي في روايتها “يوم آخر للقتل”.
القاهرة - لم يعد الريف في مصر كما في السابق. اعترته تغيرات عديدة فرضت نفسها. لعبت فيها مواقع التواصل الاجتماعي والأخلاقيات المصاحبة لها أحد أدوار البطولة. انفتح الكل على شتى الأصقاع ليس في مصر وحدها إنما في مختلف بقاع الأرض. انفتح الكل لكن دون وعي. زادت التطلعات واتسعت رقعة المقارنات دون سبيلٍ موضوعي للترقي إنما هي فقط المشاهدات والأرباح والأحلام.
ملـمح مهم تقدمه رواية “يوم آخر للقتل” للكاتبة المصرية هناء متولي، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، وتدور حول حياة الريف التي تغيرت، وما لم يتغير وكشفته الرواية انتشار الخرافة وغبن حقوق النساء.
المرأة في القرية

تدور أحداث الرواية في قرية تحمل اسم “كوم الديبة” بمحافظة الدقهلية (شمال مصر)، والاسم وحده دال على ما يشهده القارئ من قصص وحكايات وأحداث تعكس طبيعة المكان، الذي يبدو مثل كومة من الذئاب المجتمعة، المستعدة للنهش وإشاعة الخوف والقتل، لاسيما ضد المرأة.
تبدأ الرواية من السطر الأول بما اختارت أن تعكسه أحداثها ككل، أو ربما رسالتها، إذ يقول الراوي العليم “أنَّاتٌ خفيضةٌ وآسرة، لا تنقطع، تملك عقول نساء قرية كوم الديبة بأكملها، لا تفرق بين عجوزٍ أو رضيعة، تسير في كل اتجاه،” لتأتي حكايات بطلات
الرواية في المجمل بمنزلة أنَّات حقيقية تريد الكاتبة أن تنقلها إلى قارئها دون انقطاع، ودون وجود ما يشير إلى نهايتها، وفقا لآخر كلمتين في الرواية “لا نهاية”.
وتحدد من البداية كذلك، من الفقرة الأولى، خصمها الذي تشهر سلاحها نحوه، فهذه الأنَّات، أو الأصوات الليلية الغامضة، بالرغم من أن كل نساء القرية يسمعنها حتى كأنهن يرينها، إلا أن “الصوت لا يصل إلى آذان الرجال أبدًا، كأن موجاته تنكسر على حواف مسامعهم.”
هذه الأصوات التي ترسم الرواية ملامحها وانعكاساتها في أجواء غرائبية تبدو كأنين ليلي تطلقه الفتيات والسيدات الغارقات في القرية التي اشتهرت بكثرة حوادث غرق النساء فيها بشكل غامض، ولذلك فإن كل نساء القرية يستجبن له عندما يسمعنه فهو كما تقول الرواية “يهيج أعصابهن، وينفذ إلى أرواحهن، يملكهن، ويسلبهن أية مقاومة، يفصل الروح عن الجسد؛ فتنعزل النساء عن الحياة، ويتحولن إلى مسوخ شاحبة.”
وإثر ذلك ينسَبن من أسِرّتهن كالماء، يصعدن إلى أسطح المنازل، بثياب سوداء، حاسرات الرؤوس، “يصعدن إلى الأعلى حيث لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواءً لم يختلط بعد بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرًا غاضبًا، يمزِّقن جلابيبهن حتى تصير صدورهن حرة من دون خوف.”
كل شيء واضح، لا يحتاج إلى تفسير، تحتاج النساء إلى الحرية، يرفضن الوصاية، ينشدن العدالة في النظرة إليهن كبشر، لذا فإن أولئك النسوة الصاعدات إلى أسطح المنازل “حيث لا حجاب بينهن وبين السماء” يبدأن في صراخ وعويل ينهش القلوب، “ويُفزع كلَّ الموجودات، الطيور والحيوانات تهجر أعشاشها ومضاجعها الدافئة وتشاركهن صراخًا لا يفتر حتى طلوع الفجر، بينما الرجال يغطون في نومٍ ثقيلٍ حتى الصباح.”
ويبدو الرجل منذ السطور الأولى خصمًا، عدوًّا، وحشًا كاسرًا لا يعي أو يسمع أوجاع النساء، حتى الطيور والحيوانات تشعر وهو لا يشعر.
هذه هي الرؤية التي تميز ما يعرف بالأدب النسائي بشكل عام، إن كان من الجائز أصلًا تصنيف الأدب على هذا النحو، ونحن لا نميل إلى التعاطي معها أو اعتبارها رؤية فكرية قابلة للمناقشة؛ رفضًا أو اتفاقًا، إنما هي صرخات وجع تريح صاحباتها فحسب، لكن هذا لا ينطبق تمام الانطباق على رواية الكاتبة هناء متولي لأسباب عدة.
أحداث الرواية تدور في مجتمع الريف بعاداته وتقاليده حيث تغيب حقوق المرأة في الميراث والحب واختيار المصير
أهم هذه الأسباب هو أن رواية “يوم آخر للقتل” تدور في مجتمع الريف بعاداته وتقاليده الموروثة التي يطيح الكثير منها فعلا بحقوق المرأة في الميراث والحب واختيار شريك الحياة، وتوضع النساء وفقًا لها تحت الوصاية في كل
شيء، بل إن حياة المرأة ذاتها إن غرقت أو اختفت لا يكون البحث فيها موضوعًا ذا بال، ويمكن التواطؤ لتفسير الغياب من أبواب الخرافة، سعيا إلى التستر على الفضيحة، وليس كشف الحقيقة.
كما أن الرواية لم تبرئ ساحة النساء تمام البراءة، فالأحداث حافلة بالاختيارات الخاطئة لشريك العمر من جانب البطلات، اللائي هرب بعضهن مع أحبائهن ثم عُدن ليكتشفن سوء اختياراتهن لرجال عاطلين أو مدمنين. وهناك “مسعودة” الدجالة شريكة عصابة التنقيب عن الآثار من الرجال.
وهناك “فاطمة القتَّالة” المرأة المليحة البيضاء بارزة التضاريس التي تعددت علاقاتها بالغرباء في غياب زوجها، حتى رأتها يومًا طفلة بالصدفة مع أحدهم فما كان منها إلا أن كتمت أنفاسها ثم قطعت ساقيها وذراعيها بمنجل، ووضعتها في طست كبير وفوقها كومة من التبن، أشعلت فيها النيران، قامت بشيِّها.
وهكذا فالشر لا جنس له، والجريمة ليست حكرًا على الرجال، لكن يبقى أن الرجل في مجتمعاتا العربية، وفي الأرياف بالتحديد، يسهل عليه أن يجد جدرانًا عالية من التقاليد والموروثات يمكن أن يحتمي بها في مواجهة المرأة لابتلاع حقوقها أو اعتبارها مصدرًا للعار، ليغيب عندئذ ميزان العدل، وتتم محاسبتها إن أخطأت أشد الحساب ولو بإزهاق روحها، بينما لا يُحاسَب الرجال. وهذا حقٌ لا مراء فيه، وواقعٌ لا يمكن إنكاره، لكن ما أسبابه؟
صرخة ضد الخرافة

تقول الخالة للبطلة سارة التي يتقاطع اسمها مع أسماء باقي بطلات الرواية، أسما وسمية، في حروف مشتركة، مثل همومهن المتشابهة، “ومن يومها يا سارة وقد تُركت القرية لتحكُّم الدجالين والمشعوذين.”
تلك هي المسألة، الخرافة والدجل، وتحكم سلطة تحول بين المرء، رجلا كان أم امرأة، وبين السماء، ما عبرت عنه الرواية من خلال شخصية “إبراهيم توكل” مدير الجمعية الشرعية في القرية، الرجل ذي اللحية الذي لا يعلم أحد مصدر أمواله التي تراكمت لدى عائلته البسيطة بعد سفره إلى الخارج لفترة قصيرة، ثم عاد ليقود عصابة للتنقيب عن الآثار في القرية أسفل البيوت، بالدجل وتقديم القرابين للجن وإن يكن عبر قتل الصغار.
لذلك كان طبيعيا أن تصبح قرية كوم الديبة وكرًا للقتل والجريمة، وموئلًا للخارجين عن القانون لتنعزل بالتالي عن محيطها ويخشاها الآخرون من أبناء القرى المجاورة، مثلما انعزلت مجتمعاتنا العربية بالكامل عن العالم، وانحرفت عن مسار مجرى التاريخ، بعد أن فقد الإنسان حقوقه، وقبلها قيمته.
ذلك هو السرطان الحقيقي، الذي أصاب صدر البطلة، واضطرها إلى استئصال ثديها لعلها تنجو، لكن لا نجاة في مجتمع تسوده الخرافة، تحكمه وتتحكم فيه، ولذلك فالبطلة عندما عثرت أخيرًا على ابنها الغائب زياد، رمز المستقبل، وجدت أنه قد صار “مطرب مهرجانات”، ولم يحن إليها أو يتعاطف معها، وجاءت النتيجة الأخيرة للرحلة متمثلة في الجنون والغرق.
يا له من ألم. تبدو الرواية شديدة الإيلام، مفعمة كمثال لروايات الديستوبيا باليأس من المستقبل. ولا عجب، فهي كحال نساء قرية كوم الديبة مسرح الأحداث؛ قررت أن تطلق صرخة عالية تفزع كل الموجودات، لعل فجرًا يطلع، لعل أحدًا يلتفت.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد شعير
كاتب مصري