كيف حققت "قواعد العشق الأربعون" نجاحها العالمي
إليف شافاق تكتب الرواية بهندسة متقنة وبرؤى غير أحادية.
الأحد 2025/02/09
ShareWhatsAppTwitterFacebook

كاتبة بارعة في التلاعب بتقنياتها
إن كتابة الرواية في الأساس تقنية قبل كل شيء، وهذا ما يظهر في روايات عالمية كثيرة ساهمت تقنية كتابتها في نجاحها الكبير، وفي تحولها إلى آثار نعود إليها دائما لاستجلاء معالم الكتابة الروائية وطرق تشكيل العمل السردي، ومن هذه الأعمال الرواية المهمة للكاتبة التركية إليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" التي تعتبر مثالا مميزا لكتابة رواية ناجحة.
ثلاثة وتسعون فصلا روائيا، هي مجمل فصول رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية إليف شافاق، كان العدد الأكبر منها لـ “إيلا روينشتاين” التي احتلت خمسة وعشرين فصلا، (ما يقرب من ربع الرواية) يليها شمس التبريزي الذي احتل أربعة عشر فصلا، بينما احتل جلال الدين الرومي سبعة فصول، يليه كيميا (التي تزوجها شمس) ستة فصول، واحتل كل من البغي وردة الصحراء، وسليمان السكران، وعلاء الدين (ابن جلال الدين الرومي)، وكيرا (زوجة جلال الدين الرومي)، وسلطان ولد (ابن الرومي) خمسة فصول لكل منهم.
تكشف هذه الأرقام، أن التقنية التي اعتمدتها الكاتبة التركية في روايتها، هي تقنية الرواية البلوفونية، أو الرواية متعددة الأصوات، أو متعددة الألحان، التي تفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد، ولا تعتمد فحسب على وجهة نظر وحيدة.
رؤية متعددة الزوايا
لا تهدف شافاق إلى سرد رؤية واحدة، بل تذهب أبعد من مجرد وصف حالات من زوايا مختلفة. ويصبح الواقع بداخلها أمرًا معقدًا للغاية، وتصبح الرواية عملا كونيًّا، يحتوي على كل ما هو ملحمي وغنائي وتراجيدي وكوميدي ونثري وشعري وحواري وخطابي وخرافي وفلسفي وأسطوري، كما يرى الفيلسوف اللغوي الروسي ميخائيل باختين، استنادًا إلى مفهوم تعدد الأصوات الموسيقية، حيث قام بتطبيق رؤاه على روايات دستويفسكي، وخاصة “الأخوة كارامازوف”. وهو ما وجدناه أيضا في روايات “ميرامار” و”حديث الصباح والمساء” و”الكرنك” لنجيب محفوظ ولكن بنسب أقل.
ومثلما تعددت الأصوات في رواية إليف شافاق، تعددت الأماكن أيضا، فاحتلت قونية (في تركيا) نصيب الأسد في هذه الأماكن بمعدل ستة وخمسين فصلا، بينما احتلت مدينة نورثامبتون التي تقع في مقاطعة هامبشاير بولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة، وتعيش فيها إيلا وأسرتها، اثنين وعشرين فصلا، تليها بغداد (تسعة فصول) بينما احتلت سمرقند وبوسطن فصلين، واحتلت الإسكندرية ودمشق فصلا واحدا.
التقنية التي اعتمدتها الكاتبة في روايتها، هي تقنية الرواية البلوفونية، أو متعددة الأصوات، لتفسر الواقع من عدة وجهات نظر
وكما تنوعت الأصوات أو الشخصيات والأماكن، تنوعت أيضا الأزمنة والأحداث، فنحن أمام زمنين، زمن حديث تدور معظم أحداثه في نورثامبتون الأميركية ما بين عامي 2008 و2009، وزمن قديم تدور أحداثه في الفترة ما بين 1242 و1260.
وكما تنوعت الأصوات والأماكن والأزمنة، تنوعت الديانات ما بين الإسلام والمسيحية واليهودية، داخل الرواية، وانقسم التفسير الإسلامي ما بين الصوفي أو الباطني، والظاهري أو الشرعي، لينتصر الظاهري ظاهريًّا بمقتل شمس التبريزي، ولكن تعيش أفكاره ويتحول الشيخ جلال الدين الرومي من خطيب ديني وفقيه شرعي إلى متصوف أو عرفاني كبير وتصبح شهرته “مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي”.
وبالإضافة إلى تقنية تعدد الأصوات التي لجأت إليها الكاتبة، سنجد تقنية أخرى هي الرواية داخل الرواية، أو الرواية عن الرواية أو الميتارواية أو الرواية المزدوجة التي تتمتع بأبعاد ثقافية وسوسيولوجية. فنحن أمام رواية “الكفر الحلو” التي تقرأها إيلا باعتبارها فاحصة كتب لدى إحدى الوكالات الأدبية في بوسطن، وتعد تقريرًا شاملا عن العمل الذي تقرأه، وهو أول عمل يُحال إليها في وظيفتها الجديدة. إنه رواية “الكفر الحلو”، وهي رواية عرفانية تاريخية تتحدث عن العلاقة التي تربط بين جلال الدين الرومي الشاعر والزعيم الروحي، وشمس التبريزي الدرويش المجهول المليء بالفضائح والمفاجآت، بقلم كاتب أوروبي غير معروف، اسمه أ. ز. زاهارا، ويختصر إلى عزيز.
بالإضافة إلى تقنية تعدد الأصوات التي لجأت إليها الكاتبة، سنجد تقنية أخرى هي الرواية داخل الرواية أو الميتارواية
نحن إذن يمكننا إضافة حكاية عزيز أيضا إلى حكايات إيلا عن نفسها وعن أسرتها، وحكاية العلاقة بين الرومي والتبريزي، لنكون أمام ثلاث حبكات كبرى في “قواعد العشق الأربعون”.
ومن هنا يأتي تعقيد الرواية وكثرة شخصياتها وأماكنها وأحداثها وأزمنتها، ولكن الكاتبة تستطيع بمهارة فك هذا التعقيد من خلال سحر الحكي وانسيابه ورشاقة تنقلاته الزمنية والمكانية، وغوصها في أعماق الشخصيات الرئيسية التي ذكرناها من قبل، والشخصيات الثانوية المتمثلة في أسرة إيلا: زوجها ديفيد طبيب الأسنان الناجح وأبناؤها جانيت الفتاة الجامعية، وآفي وأورلي والعمة أستر، وميشيل الوكيل الأدبي التي أحالت رواية “الكفر الحلو” لإيلا لفحصها وكتابة تقرير عنها.
ونلاحظ وجود حبكة فرعية في أول الرواية تتعلق بإعلان الابنة جانيت زواجها بأحد أصدقائها دون الرجوع إلى الأبوين، فتعلق الأم قائلة بأن الزواج من شخص ينتمي إلى خلفية مختلفة (كونها عائلة يهودية) مقامرة كبيرة، وأنا وأبوك نريد أن نتأكد من أنك اخترت الرجل المناسب. لكن الفتاة تضرب بآراء أبويها عرض الحائط، وتتزوج من صديقها المسيحي، ولكنهما سرعان ما ينفصلان بعد الزواج، ليصدق قول أمها الأربعينية إن الحب إحساس جميل يأتي لكنه سرعان ما يتلاشى.
رواية في رواية

تبدأ الرواية بمقولة لشمس التبريزي: “عندما كنتُ طفلا/ رأيتُ الله/ رأيتُ الملائكة/ رأيتُ أسرار العالَمين العلوي والسفلي/ ظننتُ أن جميع الرجال رأوا ما رأيته/ لكن سرعان ما أدركتُ أنهم لم يروا.”
ثم الاستهلال أو التمهيد الذي يدخلنا إلى أجواء العمل، ويشوقنا لعالمه ومعماره وخاصة بعد قول الذات الراوية: “دهم الحب إيلا وبعنف كما لو أن أحدا ألقى حجرا من مكان ما في بركة حياتها الساكنة.” إنه مخطوط رواية تاريخية عن حياة الشاعر الصوفي المعروف جلال الدين الرومي الذي عُرف أيضا أنه شكسبير العالم الإسلامي.
وتعرب إيلا (المرأة الأربعينية) عن سعادتها لأنها أول شخص يقرأ رواية لكاتب مغمور لم تنشر بعد، وأن يكون لها دور، مهما كان صغيرا، في تقرير مصير هذا الكاتب الذي سوف ترتبط بعلاقة عشقية معه، فتترك أسرتها والعالم كله من أجله، كما سيتضح من أحداث الرواية فيما بعد. إن هذا المخطوط سيغير حياة إيلا تغييرًا كليًّا خاصة بعد أن بدأت تكتب رسائل إلكترونية للمؤلف أ. ز. زاهارا (عزيز) بعد أن بحثت عنه في شبكة الإنترنت واستطاعت الوصول إليه.
إن إيلا لم تكن تعرف أن هذا الكتاب “الكفر الحلو” – الذي تفحصه – سيغير حياتها، وأنه عندما تقرأه سيعيد كتابة قصة حياتها. ويبدو أن هذا قدرها الذي لا مفر منه، لأنها عندما أُرسلت إليها هذه الرواية لم تكن مهتمة بالرواية التاريخية ولا بالرومي، وكان الموضوع لا يزال غريبًا عليها، وطلبت من ميشيل أن تحيل إليها رواية أخرى أكثر ارتباطًا بها.
وكان على الكاتبة أن تبدأ بمقدمة تاريخية لإضاءة تلك الفترة التاريخية العصيبة في القرن الثالث عشر المفعم بالصراعات الدينية والنزاعات السياسية والصراعات اللانهائية على السلطة. إنها فترة مضطربة في منطقة الأناضول، وما حولها شرقًا وغربًا ووسطًا. كانت فترة من الفوضى لم يسبق لها مثيل، ولكن سيكون لها مثيل في وقتنا الحاضر. فحيثما ولَّى المرء وجهه كان هناك اقتتال وألم وخوف شديد لما يمكن أن يحدث بعد ذلك.
شافاق لا تهدف إلى سرد رؤية واحدة، بل تذهب أبعد من مجرد وصف حالات من زوايا مختلفة
في خضم هذه الفوضى يعيش عالِمٌ إسلامي جليل يعرف باسم جلال الدين الرومي ويلقب بـ”مولانا” كان يعتبر منارة للمسلمين جميعا، ولكن بلقائه الدرويش الجوَّال شمس التبريزي يتغير كل شيء، وتتغير حياة كل منهما، فلقاؤهما كان أشبه باتحاد محيطين اثنين، ويتم ابتداع رقصة الدراويش أو المولوية أو التنورة، وتبرز فكرة الجهاد الداخلي بدلا من الحروب والتعصب والنزاعات الدينية. ولكن بعد مضي ثلاث سنوات من اللقاء بين الرومي والتبريزي يصبحان نهبًا للشائعات والافتراءات والتهجمات، وأُسيء فهمهما وأصبحا موضع حسد وذم وحط الناس من قدرهما وخانهما أقرب الناس إليهما، فقُتل شمس التبريزي واعتكف جلال الدين الرومي لينتج لنا “المثنوي”.
تبدأ رواية “الكفر الحلو” في الإسكندرية في نوفمبر من عام 1252 حيث يلجأ قاتل شمس التبريزي إليها، لعله يستطيع أن يهرب من الذاكرة الثاقبة وأن يوقف العويل الذي يتردد صداه في رأسه، بعد أن قتل شمس وألقاه في بئر مياه مسكن الرومي، فيقول: “تحت مياه داكنة في إحدى الآبار، يرقد ميتًا الآن، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت عيناه تتبعانني حيثما وليت.” إنها لعنة الضحية.
لقد فرَّ القاتل من ماء البئر إلى فضاء مائي أوسع في الإسكندرية علَّه يستطيع السلوى والنسيان. ومع أنه قاتل محترف مأجور، كان عضوًا سابقًا في فرقة الحشاشين، فقد اعترته رجفة قوية بعد تلك الحادثة السريعة، ربما بسبب أنه بعد أن طعن شمس التبريزي وألقى بجسده في البئر لم يسمع صوت سقوطه في الماء. ويفسر ذلك بأنه ربما بدل أن يسقط في الماء صعد إلى السماء.
هذه هي نهاية رواية “الكفر الحلو” التي تعتبر بداية رواية “قواعد العشق الأربعون”. أرأينا كيف تخطط الكاتبة لروايتها؟ وكيف تلعب بالأزمنة والأمكنة والشخصيات والأحداث؟
ShareWhatsAppTwitterFacebook

أحمد فضل شبلول
كاتب مصري
إليف شافاق تكتب الرواية بهندسة متقنة وبرؤى غير أحادية.
الأحد 2025/02/09
ShareWhatsAppTwitterFacebook

كاتبة بارعة في التلاعب بتقنياتها
إن كتابة الرواية في الأساس تقنية قبل كل شيء، وهذا ما يظهر في روايات عالمية كثيرة ساهمت تقنية كتابتها في نجاحها الكبير، وفي تحولها إلى آثار نعود إليها دائما لاستجلاء معالم الكتابة الروائية وطرق تشكيل العمل السردي، ومن هذه الأعمال الرواية المهمة للكاتبة التركية إليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" التي تعتبر مثالا مميزا لكتابة رواية ناجحة.
ثلاثة وتسعون فصلا روائيا، هي مجمل فصول رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية إليف شافاق، كان العدد الأكبر منها لـ “إيلا روينشتاين” التي احتلت خمسة وعشرين فصلا، (ما يقرب من ربع الرواية) يليها شمس التبريزي الذي احتل أربعة عشر فصلا، بينما احتل جلال الدين الرومي سبعة فصول، يليه كيميا (التي تزوجها شمس) ستة فصول، واحتل كل من البغي وردة الصحراء، وسليمان السكران، وعلاء الدين (ابن جلال الدين الرومي)، وكيرا (زوجة جلال الدين الرومي)، وسلطان ولد (ابن الرومي) خمسة فصول لكل منهم.
تكشف هذه الأرقام، أن التقنية التي اعتمدتها الكاتبة التركية في روايتها، هي تقنية الرواية البلوفونية، أو الرواية متعددة الأصوات، أو متعددة الألحان، التي تفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد، ولا تعتمد فحسب على وجهة نظر وحيدة.
رؤية متعددة الزوايا
لا تهدف شافاق إلى سرد رؤية واحدة، بل تذهب أبعد من مجرد وصف حالات من زوايا مختلفة. ويصبح الواقع بداخلها أمرًا معقدًا للغاية، وتصبح الرواية عملا كونيًّا، يحتوي على كل ما هو ملحمي وغنائي وتراجيدي وكوميدي ونثري وشعري وحواري وخطابي وخرافي وفلسفي وأسطوري، كما يرى الفيلسوف اللغوي الروسي ميخائيل باختين، استنادًا إلى مفهوم تعدد الأصوات الموسيقية، حيث قام بتطبيق رؤاه على روايات دستويفسكي، وخاصة “الأخوة كارامازوف”. وهو ما وجدناه أيضا في روايات “ميرامار” و”حديث الصباح والمساء” و”الكرنك” لنجيب محفوظ ولكن بنسب أقل.
ومثلما تعددت الأصوات في رواية إليف شافاق، تعددت الأماكن أيضا، فاحتلت قونية (في تركيا) نصيب الأسد في هذه الأماكن بمعدل ستة وخمسين فصلا، بينما احتلت مدينة نورثامبتون التي تقع في مقاطعة هامبشاير بولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة، وتعيش فيها إيلا وأسرتها، اثنين وعشرين فصلا، تليها بغداد (تسعة فصول) بينما احتلت سمرقند وبوسطن فصلين، واحتلت الإسكندرية ودمشق فصلا واحدا.
التقنية التي اعتمدتها الكاتبة في روايتها، هي تقنية الرواية البلوفونية، أو متعددة الأصوات، لتفسر الواقع من عدة وجهات نظر
وكما تنوعت الأصوات أو الشخصيات والأماكن، تنوعت أيضا الأزمنة والأحداث، فنحن أمام زمنين، زمن حديث تدور معظم أحداثه في نورثامبتون الأميركية ما بين عامي 2008 و2009، وزمن قديم تدور أحداثه في الفترة ما بين 1242 و1260.
وكما تنوعت الأصوات والأماكن والأزمنة، تنوعت الديانات ما بين الإسلام والمسيحية واليهودية، داخل الرواية، وانقسم التفسير الإسلامي ما بين الصوفي أو الباطني، والظاهري أو الشرعي، لينتصر الظاهري ظاهريًّا بمقتل شمس التبريزي، ولكن تعيش أفكاره ويتحول الشيخ جلال الدين الرومي من خطيب ديني وفقيه شرعي إلى متصوف أو عرفاني كبير وتصبح شهرته “مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي”.
وبالإضافة إلى تقنية تعدد الأصوات التي لجأت إليها الكاتبة، سنجد تقنية أخرى هي الرواية داخل الرواية، أو الرواية عن الرواية أو الميتارواية أو الرواية المزدوجة التي تتمتع بأبعاد ثقافية وسوسيولوجية. فنحن أمام رواية “الكفر الحلو” التي تقرأها إيلا باعتبارها فاحصة كتب لدى إحدى الوكالات الأدبية في بوسطن، وتعد تقريرًا شاملا عن العمل الذي تقرأه، وهو أول عمل يُحال إليها في وظيفتها الجديدة. إنه رواية “الكفر الحلو”، وهي رواية عرفانية تاريخية تتحدث عن العلاقة التي تربط بين جلال الدين الرومي الشاعر والزعيم الروحي، وشمس التبريزي الدرويش المجهول المليء بالفضائح والمفاجآت، بقلم كاتب أوروبي غير معروف، اسمه أ. ز. زاهارا، ويختصر إلى عزيز.
بالإضافة إلى تقنية تعدد الأصوات التي لجأت إليها الكاتبة، سنجد تقنية أخرى هي الرواية داخل الرواية أو الميتارواية
نحن إذن يمكننا إضافة حكاية عزيز أيضا إلى حكايات إيلا عن نفسها وعن أسرتها، وحكاية العلاقة بين الرومي والتبريزي، لنكون أمام ثلاث حبكات كبرى في “قواعد العشق الأربعون”.
ومن هنا يأتي تعقيد الرواية وكثرة شخصياتها وأماكنها وأحداثها وأزمنتها، ولكن الكاتبة تستطيع بمهارة فك هذا التعقيد من خلال سحر الحكي وانسيابه ورشاقة تنقلاته الزمنية والمكانية، وغوصها في أعماق الشخصيات الرئيسية التي ذكرناها من قبل، والشخصيات الثانوية المتمثلة في أسرة إيلا: زوجها ديفيد طبيب الأسنان الناجح وأبناؤها جانيت الفتاة الجامعية، وآفي وأورلي والعمة أستر، وميشيل الوكيل الأدبي التي أحالت رواية “الكفر الحلو” لإيلا لفحصها وكتابة تقرير عنها.
ونلاحظ وجود حبكة فرعية في أول الرواية تتعلق بإعلان الابنة جانيت زواجها بأحد أصدقائها دون الرجوع إلى الأبوين، فتعلق الأم قائلة بأن الزواج من شخص ينتمي إلى خلفية مختلفة (كونها عائلة يهودية) مقامرة كبيرة، وأنا وأبوك نريد أن نتأكد من أنك اخترت الرجل المناسب. لكن الفتاة تضرب بآراء أبويها عرض الحائط، وتتزوج من صديقها المسيحي، ولكنهما سرعان ما ينفصلان بعد الزواج، ليصدق قول أمها الأربعينية إن الحب إحساس جميل يأتي لكنه سرعان ما يتلاشى.
رواية في رواية

تبدأ الرواية بمقولة لشمس التبريزي: “عندما كنتُ طفلا/ رأيتُ الله/ رأيتُ الملائكة/ رأيتُ أسرار العالَمين العلوي والسفلي/ ظننتُ أن جميع الرجال رأوا ما رأيته/ لكن سرعان ما أدركتُ أنهم لم يروا.”
ثم الاستهلال أو التمهيد الذي يدخلنا إلى أجواء العمل، ويشوقنا لعالمه ومعماره وخاصة بعد قول الذات الراوية: “دهم الحب إيلا وبعنف كما لو أن أحدا ألقى حجرا من مكان ما في بركة حياتها الساكنة.” إنه مخطوط رواية تاريخية عن حياة الشاعر الصوفي المعروف جلال الدين الرومي الذي عُرف أيضا أنه شكسبير العالم الإسلامي.
وتعرب إيلا (المرأة الأربعينية) عن سعادتها لأنها أول شخص يقرأ رواية لكاتب مغمور لم تنشر بعد، وأن يكون لها دور، مهما كان صغيرا، في تقرير مصير هذا الكاتب الذي سوف ترتبط بعلاقة عشقية معه، فتترك أسرتها والعالم كله من أجله، كما سيتضح من أحداث الرواية فيما بعد. إن هذا المخطوط سيغير حياة إيلا تغييرًا كليًّا خاصة بعد أن بدأت تكتب رسائل إلكترونية للمؤلف أ. ز. زاهارا (عزيز) بعد أن بحثت عنه في شبكة الإنترنت واستطاعت الوصول إليه.
إن إيلا لم تكن تعرف أن هذا الكتاب “الكفر الحلو” – الذي تفحصه – سيغير حياتها، وأنه عندما تقرأه سيعيد كتابة قصة حياتها. ويبدو أن هذا قدرها الذي لا مفر منه، لأنها عندما أُرسلت إليها هذه الرواية لم تكن مهتمة بالرواية التاريخية ولا بالرومي، وكان الموضوع لا يزال غريبًا عليها، وطلبت من ميشيل أن تحيل إليها رواية أخرى أكثر ارتباطًا بها.
وكان على الكاتبة أن تبدأ بمقدمة تاريخية لإضاءة تلك الفترة التاريخية العصيبة في القرن الثالث عشر المفعم بالصراعات الدينية والنزاعات السياسية والصراعات اللانهائية على السلطة. إنها فترة مضطربة في منطقة الأناضول، وما حولها شرقًا وغربًا ووسطًا. كانت فترة من الفوضى لم يسبق لها مثيل، ولكن سيكون لها مثيل في وقتنا الحاضر. فحيثما ولَّى المرء وجهه كان هناك اقتتال وألم وخوف شديد لما يمكن أن يحدث بعد ذلك.
شافاق لا تهدف إلى سرد رؤية واحدة، بل تذهب أبعد من مجرد وصف حالات من زوايا مختلفة
في خضم هذه الفوضى يعيش عالِمٌ إسلامي جليل يعرف باسم جلال الدين الرومي ويلقب بـ”مولانا” كان يعتبر منارة للمسلمين جميعا، ولكن بلقائه الدرويش الجوَّال شمس التبريزي يتغير كل شيء، وتتغير حياة كل منهما، فلقاؤهما كان أشبه باتحاد محيطين اثنين، ويتم ابتداع رقصة الدراويش أو المولوية أو التنورة، وتبرز فكرة الجهاد الداخلي بدلا من الحروب والتعصب والنزاعات الدينية. ولكن بعد مضي ثلاث سنوات من اللقاء بين الرومي والتبريزي يصبحان نهبًا للشائعات والافتراءات والتهجمات، وأُسيء فهمهما وأصبحا موضع حسد وذم وحط الناس من قدرهما وخانهما أقرب الناس إليهما، فقُتل شمس التبريزي واعتكف جلال الدين الرومي لينتج لنا “المثنوي”.
تبدأ رواية “الكفر الحلو” في الإسكندرية في نوفمبر من عام 1252 حيث يلجأ قاتل شمس التبريزي إليها، لعله يستطيع أن يهرب من الذاكرة الثاقبة وأن يوقف العويل الذي يتردد صداه في رأسه، بعد أن قتل شمس وألقاه في بئر مياه مسكن الرومي، فيقول: “تحت مياه داكنة في إحدى الآبار، يرقد ميتًا الآن، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت عيناه تتبعانني حيثما وليت.” إنها لعنة الضحية.
لقد فرَّ القاتل من ماء البئر إلى فضاء مائي أوسع في الإسكندرية علَّه يستطيع السلوى والنسيان. ومع أنه قاتل محترف مأجور، كان عضوًا سابقًا في فرقة الحشاشين، فقد اعترته رجفة قوية بعد تلك الحادثة السريعة، ربما بسبب أنه بعد أن طعن شمس التبريزي وألقى بجسده في البئر لم يسمع صوت سقوطه في الماء. ويفسر ذلك بأنه ربما بدل أن يسقط في الماء صعد إلى السماء.
هذه هي نهاية رواية “الكفر الحلو” التي تعتبر بداية رواية “قواعد العشق الأربعون”. أرأينا كيف تخطط الكاتبة لروايتها؟ وكيف تلعب بالأزمنة والأمكنة والشخصيات والأحداث؟
ShareWhatsAppTwitterFacebook

أحمد فضل شبلول
كاتب مصري