حوار| «محمد الكاشف».. بين إيقاع القصيدة وعدسة الكاميرا
منال محمود29 يناير، 2025 الشاعر والمصور محمد الكاشف
في عالم تتقاطع فيه الحروف مع الضوء، يدمج الشاعر والمصور «محمد الكاشف» بين فني الكلمة المكتوبة والصورة الفوتوغرافية، اللذين يعتمدان على اقتناص اللحظة. إذ يرسم من خلال كلماته مشاهد تنبض بالحياة، ويصور بكاميرته الشارع والناس وحكاياتهم، موثقا تفاصيلها بكل صدق.. «باب مصر» أجرى معه الحوار التالي.
نادي الأدب في بيت ثقافة إطسا بالفيوم كان المكان الذي أكمل فيه بحثي عن هويتي، بل كان شاهدًا رئيسيًا على تجاربي في الكتابة الشعرية. هناك، وعلى طاولته مع التوجيه والمناقشة، أدركت أبعاد قلق المسؤولية عن خلق ذاتي واختيار طريقي في عالم مليء بالاحتمالات. إذ أن الشعر هو قفزتي الصغيرة للوجود، وهو اللحظة التي أخرج فيها نفسي من صمتها إلى ذلك الحيز الذي يسبق الماهية. فالكتابة ملاذ أحاول من خلاله تحديد هويتي في عالم خانق مليء بالصراعات.
من خلاله، عرفت أن الشاعر هو ذلك الفيلسوف الذي يستخدم اللغة ليكشف عن أعماق الوجود، وأن النص الأدبي هو حوار مفتوح بين الكاتب والمتلقي، وأن المعنى الحقيقي للنص يكمن في هذه الحوارية، وأن حب الذات دافع للإبداع.
العامية المصرية ليست مجرد لهجة، بل هي نظام لغوي كامل له قواعده وأساليبه الخاصة، فهي نص مفتوح يتجدد باستمرار ويتفاعل مع السياقات المجتمعية اليومية والثقافية المتغيرة. لذا، هي أداة عظيمة لكشف أعماق نفس الإنسان المعاصر، لما تحمله من تاريخ وحضارة عميقة. فهي لغة حية تتطور وتقاوم كل أشكال الهيمنة الثقافية.
إن موقع العامية في المشهد الأدبي العربي اليوم هو موقع النص المقاوم، الذي يرفض المركزية الأدبية التقليدية ويسعى إلى خلق فضاءات جديدة للتعبير عن حاجة الإنسان وعن ذاته الحقيقية. وأتمنى أن تحوز العامية مكانتها الطبيعية في المشهد الثقافي المصري، وربما يقع على عاتق الشعر وأدواته ذلك.
معرض القاهرة الدولي للكتاب هو حدث ثقافي هام واحتفال سنوي باللغة والكلمة، فرصة للكاتب لإثبات وجوده في العالم وللقارئ لاكتشاف ذاته من خلال القراءة. من وجهة نظري، المعرض مرآة تعكس حالة الثقافة في المجتمع، يظهر التنوع والتعددية، ولكنه يظهر أيضاً التحديات التي تواجه الثقافة.
تجربة النشر مليئة بالصعاب، ولا شك في ذلك. ولعل أبرزها المتطلبات المادية لعملية النشر، إذ أن سوق النشر في مصر يشترط الآن الكفاءة المادية والشهرة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء. في وقت أصبح الشعر، وخصوصًا شعر العامية المصرية، مهددًا بالتراجع بعدما شاع العزوف بين أغلب الدور عن نشره، والحجة المُصدرة في ذلك حاجة السوق وتراجع القراءة له بين الشرائح العمرية للقراء. اللهم إلا القليل النادر منهم الذي يعمل على مشروع ثقافي يرى أن اكتماله لا يتم إلى بوجود الشعر، ﻷنه خير معبر عن الذات والواقع.
المعرض فعلاً فرصة لتقييم تجربة النشر في مصر. وأرى أن دور النشر التي لا تستخدم تكنولوجيا اليوم وأدواتها المتغيرة والمتسارعة، التي بدأ أثرها واضحًا على صناعة النشر التقليدية، سيعفى عليها الزمن ولن تجد قارئ لإصداراتها.
التحديات كانت تتمثل في البحث عن صوتي الخاص من خلال لغة قادرة على التعبير عن تجربتي الإنسانية، والتوفيق بين الرغبة في التعبير عن الذات وعدم التنازل عن رؤيتي الإبداعية. وشاء القدر أن يجمعني بالمحبة مع أصدقاء تحمسوا لنشرها وناشرين على قدر كبير من الوعي، حالمين مثلي، يحملون على كتفهم مشروعا ثقافيا ملهما. فكان ذلك الجمع ولادة لأعمالي الشعرية الأربعة والموجودة في الساحة الثقافية اليوم.
أعتقد أن الكتاب المطبوع سيظل محتفظًا بجمهوره رغم التقدم التكنولوجي الهائل وانتشار المحتوى الرقمي. الكتاب الورقي يمثل تجربة قراءة فريدة، وهو أكثر من مجرد وسيلة لنقل المعلومات، فهو تراث ثقافي وهوية. بالطبع، القراءة الرقمية لها مزاياها، ولكنها لا تستطيع أن تحل محل متعة امتلاك كتاب ورقي وقراءته في أي وقت وأي مكان.
لكن وبسبب التضخم الحالي وتغير سعر صرف العملات الأجنبية أمام الجنيه المصري، وبالتالي تغير أسعار الخامات المستخدمة في صناعة الكتاب الورقي، تأثرت منظومة التسعير، وهو ما جعل قطاعا كبيرًا من رواد المعرض وأنا منهم يتحسرون على مشروعي “مكتبة الأسرة” و”مهرجان القراءة للجميع” اللذين أتيحت فيهما إصدارات المكتبة العربية بأسعار زهيدة على عكس ما نجده اليوم من أسعار مبالغ فيها.
في ظل التطور الرقمي المتسارع الذي نشهده، أتاحت المنصات الرقمية وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي للشعر الوصول إلى جمهور واسع وأكثر تنوعًا من أي وقت مضي، إذ مكنت الشعراء من نشر أعمالهم مباشرة دون الحاجة إلى دور النشر التقليدية، مما منحهم تفاعلا مباشرا مع الجمهور من خلال التعليقات والمشاركات، وهو ما يخلق حوارًا حيويًا حول الشعر. لكنها أدت أيضًا إلى انتشار محتوى شعري رديء.
ولا نغفل عن الدور الهام والخفي الذي تمارسه الخوارزميات، إذ أنها تحدد المحتوى الذي يظهر للمستخدمين، وهو ما يؤثر بالسلب على تنوع الآراء والأفكار التي يتعرضون لها. وبالمثل مع التصوير الفوتوغرافي، فقد جعلت المنصات الرقمية التصوير الفوتوغرافي متاحًا للجميع، بغض النظر عن الخبرة أو المعدات.
وهذا أدى إلى ازدهار المشهد الفوتوغرافي في الآونة الأخيرة، وهو ما شجع على تنوع الأساليب الفنية في التصوير وظهور تيارات جديدة، ومكن ممتهنيه من التسويق لأعمالهم بشكل مباشر والوصول إلى جمهور جديد، إلا أنه خلق ضغطا كبيرا على البعض بسبب المنافسة على الإعجابات والمتابعين، وهو ما قد يؤثر سلبًا على إبداع البعض.
بشكل عام، يمكن القول إن المنصات الرقمية قد أحدثت ثورة في عالم الشعر والتصوير الفوتوغرافي. مما فتح آفاقًا جديدة للإبداع والتواصل. ومع ذلك، فإن لهذه الثورة جوانب سلبية، لكنني أراهن على الموهبة والخبرة فهما الفيصل الرئيسي في ترجيح كفة الإبداع من عدمه، والأيام كفيلة بإثبات ذلك من خلال غربلتها المستمرة.
ربما تيمة الواقعية أكثر التيمات التي استخدمتها في أعمالي الشعرية، فقد حاولت بها الوصول إلى أعماق النفس البشرية من خلال تجسيد الأفكار والمعاناة عن طريق لغة بسيطة ومفردات من قاموس الحياة اليومية بعيدًا عن التعقيدات اللغوية، بحيث يشعر القارئ وكأنه يعيش التجربة بنفسه.
هذا إلى جانب الذاتية والتشظي. فاستخدامي للذاتية نابع من تجاربي الخاصة ومدى تأثري بما يدور في محيطي ويؤثر في شخصيتي من صراعات داخلية وتساؤلات وجودية مستمرة. أما التشظي، فرغم كونه ظاهرة معقدة تتطلب تحليلاً دقيقاً، فإنه يساهم في خلق هوية شعرية جديدة لشعر العامية المصرية، تتميز بالتنوع والتجديد.
بالتأكيد، هذا السؤال يفتح نافذة واسعة على العلاقة المتشابكة بين الصورة الفوتوغرافية والشعر. وكشاعر مهتم بالعامية، أجد نفسي في حالة تفاعل مستمر مع العالم المرئي. وأرى في الصورة الفوتوغرافية مرآة تعكس انعكاسات الواقع المعقد، تمامًا كما يرى المصور الفرنسي هنري كارتييه بريسون -رائد فن تصوير الشارع- أن الصورة لحظة حاسمة في تطور الأحداث.
عندما ألتقط صورة، أسعى إلى تجاوز السطحية، والوصول إلى العمق الإنساني الكامن وراء كل لقطة. هذه اللحظة الحاسمة هي التي تثير فيَّ شرارة الإلهام، وتدفعني إلى تحويلها إلى نص شعري قد يتطور إلى قصيدة.
الصورة الفوتوغرافية هي لغة بحد ذاتها، قادرة على سرد القصص وإثارة المشاعر. وهي وسيلة للتعبير عن الذات، وتشكيل رؤيتي للعالم. عندما ألتقط الصورة، أجد نفسي أركز على التفاصيل الصغيرة، على الألوان والأشكال، وعلى العلاقات بين العناصر المختلفة في الصورة. هذه التفاصيل تترسب في ذاكرتي، وتعود إلى الظهور فيما أكتب من قصائد، مستخدمًا اللغة العامية البسيطة لوصف هذه التفاصيل، محاولاً نقل المشاعر والأحاسيس التي أثارتها الصورة في نفسي.
إن القول بأن “الصورة الفوتوغرافية هي الشعر الذي رأيته ولم أكتبه” هو محاولة لتلخيص علاقة عميقة ومعقدة بين هذين الفنّين اللذين يغذيان روحي ببعضهما البعض حتى أستمر في العيش.
الصورة، بتجميدها للحظة الزمنية، تقدم لي شرارة الإلهام التي تتحرك منها كلمات نصوصي الشعرية. هي بمثابة حجر أقذفه في الماء الآسن لأطلق العنان لعالم من المعاني والمشاعر. الصورة الفوتوغرافية لغة قوية قادرة على إيصال المعنى بشكل مباشر. وأنا أرى في ذلك تشابهاً كبيراً مع الشعر. فالشعر أيضًا لغة، ولكنها لغة تحمل في طياتها دلالات أعمق وأكثر تعقيدًا. وأسعى من خلاله إلى إعطاء هذه اللغة التي بالصورة صوتًا، فأنا استلهم من الصورة أفكارًا جديدة، واستخدم الشعر للتعبير عن هذه الأفكار بعمق أكبر.
أعتقد أن الجواب على هذا السؤال ليس إما/أو، بل إن الأمر يتعلق بتكامل العناصر. فاللحظة هي البذرة التي تنمو منها القصة. هي الانطباع الأول الذي يترك أثراً عميقاً في النفس، وهي التي تدفعني إلى التقاط الصورة. لكن هذه اللحظة لا تكفي وحدها، فهي تحتاج إلى سياق، إلى قصة تحكيها وتجعلها ذات معنى.
أجد أن اللحظة والقصة وجهان لعملة واحدة. اللحظة هي البداية، والقصة هي النهاية. وكشاعر مصور، أسعى دائمًا إلى تحقيق التوازن بينهما، لإنتاج صور تحمل في طياتها لحظة حقيقية وقصة مؤثرة.
علاقتي بالتصوير والشعر علاقة تكاملية متبادلة، حيث يؤثر كل منهما على الآخر بشكل عميق. فالتركيز على التفاصيل، وبناء القصة سواء في الصورة الفوتوغرافية أو القصيدة، إلى جانب التجريب والتجديد، علمني أن أرى العالم من زوايا مختلفة، وأن أكتشف الجمال في الأشياء العادية.
وباختصار، التصوير والشعر بالنسبة لي وجهان لعملة واحدة. كلاهما يعبران عن رؤيتي للعالم، وكلاهما يساهم في تطوير إبداعي.
هذا السؤال يشبه إلى حد كبير سؤال “هل أنت شاعر أم قاص؟” فكلاهما يحاول حصر المبدع في خانة واحدة، بينما الحقيقة هي أن الإبداع لا يعترف بالحدود. بالنسبة لمشاريعي المصورة المذكورة، أجد أنني أتحرك بحرية بين هذين المجالين، التقطت صورًا واقعية لشخصيات أبطالها الذين اضطروا جميعًا تحت وطأة الفقر إلى الالتحاق بسوق العمل كعمالة غير منتظمة وبأجر يومي. مع تسليط الضوء على جزء من حياتهم. لكنني في الوقت نفسه أضفت إليها لمسة شخصية. حاولت أن أكشف عن الجانب الإنساني فيهم وتعرية الواقع الذي اضطرهم للجوء إلى ما يفعلونه. وبالتالي، يمكن اعتبار هذه المشاريع وثائقية وفنية في نفس الوقت.
أرى أن التصنيفات هي مجرد أدوات لمساعدتنا على فهم الفن، ولكنها لا يجب أن تكون قيودًا. أنا مصور، نعم، وأدعي أنني مصور شارع، ولكنني مصور يبحث عن الحقيقة والجمال والمعنى في العالم من حوله. وحاليًا، أعمل على استكمال بعض مشاريع التصوير المفتوحة التي أتمنى الانتهاء منها وطرحها للنشر في القريب العاجل.
فكرة دمج الصورة والشعر في كتاب واحد تثير اهتمامي بشدة وأفكر فيها منذ مدة ليست بالقليلة. فدمج الصورة والشعر في كتاب واحد هو بمثابة إكمال لدائرة الإبداع. وكلاهما يكمل الآخر، ويضيف عمقًا جديدًا للتجربة الفنية.
وربما يكون هذا الكتاب بمثابة وثيقة تسجل مرحلة معينة من مسيرتي الإبداعية، ويمكن أن يكون مرجعًا للأجيال القادمة. رغم التحديات تواجهني لإتمام ذلك، إلا أنها فكرة مثيرة للاهتمام، وأنا متحمس لتنفيذها.
نعم، لدي خطط طموحة لعرض أعمالي الفوتوغرافية في معارض فردية لو بالتعاون مع الجهات الثقافية والمؤسسات الفنية لدعم مشاريعي، إذ إن المعرض الفني يوفر تجربة مشاهدة غامرة للقارئ والمشاهد. ومنذ سنوات وأنا أريد أن أساهم في إثراء المشهد الفني الحالي، إلا أن ذلك يتطلب ميزانية كبيرة
منال محمود29 يناير، 2025 الشاعر والمصور محمد الكاشف
في عالم تتقاطع فيه الحروف مع الضوء، يدمج الشاعر والمصور «محمد الكاشف» بين فني الكلمة المكتوبة والصورة الفوتوغرافية، اللذين يعتمدان على اقتناص اللحظة. إذ يرسم من خلال كلماته مشاهد تنبض بالحياة، ويصور بكاميرته الشارع والناس وحكاياتهم، موثقا تفاصيلها بكل صدق.. «باب مصر» أجرى معه الحوار التالي.
- بدأت رحلتك الأدبية من نادي الأدب في بيت ثقافة إطسا، كيف أثرت هذه البداية على مسيرتك الشعرية أو الفنية؟
نادي الأدب في بيت ثقافة إطسا بالفيوم كان المكان الذي أكمل فيه بحثي عن هويتي، بل كان شاهدًا رئيسيًا على تجاربي في الكتابة الشعرية. هناك، وعلى طاولته مع التوجيه والمناقشة، أدركت أبعاد قلق المسؤولية عن خلق ذاتي واختيار طريقي في عالم مليء بالاحتمالات. إذ أن الشعر هو قفزتي الصغيرة للوجود، وهو اللحظة التي أخرج فيها نفسي من صمتها إلى ذلك الحيز الذي يسبق الماهية. فالكتابة ملاذ أحاول من خلاله تحديد هويتي في عالم خانق مليء بالصراعات.
من خلاله، عرفت أن الشاعر هو ذلك الفيلسوف الذي يستخدم اللغة ليكشف عن أعماق الوجود، وأن النص الأدبي هو حوار مفتوح بين الكاتب والمتلقي، وأن المعنى الحقيقي للنص يكمن في هذه الحوارية، وأن حب الذات دافع للإبداع.
- كيف ترى موقع العامية المصرية في المشهد الأدبي العربي اليوم؟
العامية المصرية ليست مجرد لهجة، بل هي نظام لغوي كامل له قواعده وأساليبه الخاصة، فهي نص مفتوح يتجدد باستمرار ويتفاعل مع السياقات المجتمعية اليومية والثقافية المتغيرة. لذا، هي أداة عظيمة لكشف أعماق نفس الإنسان المعاصر، لما تحمله من تاريخ وحضارة عميقة. فهي لغة حية تتطور وتقاوم كل أشكال الهيمنة الثقافية.
إن موقع العامية في المشهد الأدبي العربي اليوم هو موقع النص المقاوم، الذي يرفض المركزية الأدبية التقليدية ويسعى إلى خلق فضاءات جديدة للتعبير عن حاجة الإنسان وعن ذاته الحقيقية. وأتمنى أن تحوز العامية مكانتها الطبيعية في المشهد الثقافي المصري، وربما يقع على عاتق الشعر وأدواته ذلك.
- بمناسبة معرض الكتاب، كيف ترى تجربة النشر ودور النشر في مصر اليوم؟
معرض القاهرة الدولي للكتاب هو حدث ثقافي هام واحتفال سنوي باللغة والكلمة، فرصة للكاتب لإثبات وجوده في العالم وللقارئ لاكتشاف ذاته من خلال القراءة. من وجهة نظري، المعرض مرآة تعكس حالة الثقافة في المجتمع، يظهر التنوع والتعددية، ولكنه يظهر أيضاً التحديات التي تواجه الثقافة.
تجربة النشر مليئة بالصعاب، ولا شك في ذلك. ولعل أبرزها المتطلبات المادية لعملية النشر، إذ أن سوق النشر في مصر يشترط الآن الكفاءة المادية والشهرة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء. في وقت أصبح الشعر، وخصوصًا شعر العامية المصرية، مهددًا بالتراجع بعدما شاع العزوف بين أغلب الدور عن نشره، والحجة المُصدرة في ذلك حاجة السوق وتراجع القراءة له بين الشرائح العمرية للقراء. اللهم إلا القليل النادر منهم الذي يعمل على مشروع ثقافي يرى أن اكتماله لا يتم إلى بوجود الشعر، ﻷنه خير معبر عن الذات والواقع.
المعرض فعلاً فرصة لتقييم تجربة النشر في مصر. وأرى أن دور النشر التي لا تستخدم تكنولوجيا اليوم وأدواتها المتغيرة والمتسارعة، التي بدأ أثرها واضحًا على صناعة النشر التقليدية، سيعفى عليها الزمن ولن تجد قارئ لإصداراتها.
- وما التحديات التي واجهتها في إصدار دواوينك؟
التحديات كانت تتمثل في البحث عن صوتي الخاص من خلال لغة قادرة على التعبير عن تجربتي الإنسانية، والتوفيق بين الرغبة في التعبير عن الذات وعدم التنازل عن رؤيتي الإبداعية. وشاء القدر أن يجمعني بالمحبة مع أصدقاء تحمسوا لنشرها وناشرين على قدر كبير من الوعي، حالمين مثلي، يحملون على كتفهم مشروعا ثقافيا ملهما. فكان ذلك الجمع ولادة لأعمالي الشعرية الأربعة والموجودة في الساحة الثقافية اليوم.
- هل تعتقد أن الكتاب المطبوع لا يزال يحتفظ بجمهوره في ظل انتشار المحتوى الرقمي؟
أعتقد أن الكتاب المطبوع سيظل محتفظًا بجمهوره رغم التقدم التكنولوجي الهائل وانتشار المحتوى الرقمي. الكتاب الورقي يمثل تجربة قراءة فريدة، وهو أكثر من مجرد وسيلة لنقل المعلومات، فهو تراث ثقافي وهوية. بالطبع، القراءة الرقمية لها مزاياها، ولكنها لا تستطيع أن تحل محل متعة امتلاك كتاب ورقي وقراءته في أي وقت وأي مكان.
لكن وبسبب التضخم الحالي وتغير سعر صرف العملات الأجنبية أمام الجنيه المصري، وبالتالي تغير أسعار الخامات المستخدمة في صناعة الكتاب الورقي، تأثرت منظومة التسعير، وهو ما جعل قطاعا كبيرًا من رواد المعرض وأنا منهم يتحسرون على مشروعي “مكتبة الأسرة” و”مهرجان القراءة للجميع” اللذين أتيحت فيهما إصدارات المكتبة العربية بأسعار زهيدة على عكس ما نجده اليوم من أسعار مبالغ فيها.
- في زمن وسائل التواصل، كيف أثرت المنصات الرقمية على تلقي الشعر والتصوير؟
في ظل التطور الرقمي المتسارع الذي نشهده، أتاحت المنصات الرقمية وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي للشعر الوصول إلى جمهور واسع وأكثر تنوعًا من أي وقت مضي، إذ مكنت الشعراء من نشر أعمالهم مباشرة دون الحاجة إلى دور النشر التقليدية، مما منحهم تفاعلا مباشرا مع الجمهور من خلال التعليقات والمشاركات، وهو ما يخلق حوارًا حيويًا حول الشعر. لكنها أدت أيضًا إلى انتشار محتوى شعري رديء.
ولا نغفل عن الدور الهام والخفي الذي تمارسه الخوارزميات، إذ أنها تحدد المحتوى الذي يظهر للمستخدمين، وهو ما يؤثر بالسلب على تنوع الآراء والأفكار التي يتعرضون لها. وبالمثل مع التصوير الفوتوغرافي، فقد جعلت المنصات الرقمية التصوير الفوتوغرافي متاحًا للجميع، بغض النظر عن الخبرة أو المعدات.
وهذا أدى إلى ازدهار المشهد الفوتوغرافي في الآونة الأخيرة، وهو ما شجع على تنوع الأساليب الفنية في التصوير وظهور تيارات جديدة، ومكن ممتهنيه من التسويق لأعمالهم بشكل مباشر والوصول إلى جمهور جديد، إلا أنه خلق ضغطا كبيرا على البعض بسبب المنافسة على الإعجابات والمتابعين، وهو ما قد يؤثر سلبًا على إبداع البعض.
بشكل عام، يمكن القول إن المنصات الرقمية قد أحدثت ثورة في عالم الشعر والتصوير الفوتوغرافي. مما فتح آفاقًا جديدة للإبداع والتواصل. ومع ذلك، فإن لهذه الثورة جوانب سلبية، لكنني أراهن على الموهبة والخبرة فهما الفيصل الرئيسي في ترجيح كفة الإبداع من عدمه، والأيام كفيلة بإثبات ذلك من خلال غربلتها المستمرة.
- هل هناك تيمات معينة تناولتها في أعمالك الشعرية وتفضل التركيز عليها؟
ربما تيمة الواقعية أكثر التيمات التي استخدمتها في أعمالي الشعرية، فقد حاولت بها الوصول إلى أعماق النفس البشرية من خلال تجسيد الأفكار والمعاناة عن طريق لغة بسيطة ومفردات من قاموس الحياة اليومية بعيدًا عن التعقيدات اللغوية، بحيث يشعر القارئ وكأنه يعيش التجربة بنفسه.
هذا إلى جانب الذاتية والتشظي. فاستخدامي للذاتية نابع من تجاربي الخاصة ومدى تأثري بما يدور في محيطي ويؤثر في شخصيتي من صراعات داخلية وتساؤلات وجودية مستمرة. أما التشظي، فرغم كونه ظاهرة معقدة تتطلب تحليلاً دقيقاً، فإنه يساهم في خلق هوية شعرية جديدة لشعر العامية المصرية، تتميز بالتنوع والتجديد.
- هل سبق أن التقطت صورة وألهمتك لكتابة قصيدة؟
بالتأكيد، هذا السؤال يفتح نافذة واسعة على العلاقة المتشابكة بين الصورة الفوتوغرافية والشعر. وكشاعر مهتم بالعامية، أجد نفسي في حالة تفاعل مستمر مع العالم المرئي. وأرى في الصورة الفوتوغرافية مرآة تعكس انعكاسات الواقع المعقد، تمامًا كما يرى المصور الفرنسي هنري كارتييه بريسون -رائد فن تصوير الشارع- أن الصورة لحظة حاسمة في تطور الأحداث.
عندما ألتقط صورة، أسعى إلى تجاوز السطحية، والوصول إلى العمق الإنساني الكامن وراء كل لقطة. هذه اللحظة الحاسمة هي التي تثير فيَّ شرارة الإلهام، وتدفعني إلى تحويلها إلى نص شعري قد يتطور إلى قصيدة.
الصورة الفوتوغرافية هي لغة بحد ذاتها، قادرة على سرد القصص وإثارة المشاعر. وهي وسيلة للتعبير عن الذات، وتشكيل رؤيتي للعالم. عندما ألتقط الصورة، أجد نفسي أركز على التفاصيل الصغيرة، على الألوان والأشكال، وعلى العلاقات بين العناصر المختلفة في الصورة. هذه التفاصيل تترسب في ذاكرتي، وتعود إلى الظهور فيما أكتب من قصائد، مستخدمًا اللغة العامية البسيطة لوصف هذه التفاصيل، محاولاً نقل المشاعر والأحاسيس التي أثارتها الصورة في نفسي.
- لذا قلت ذات مرة: «الصورة هي الشعر الذي رأيته ولم أكتبه». كيف ترى العلاقة بين التصوير الفوتوغرافي والشعر في تجربتك؟
إن القول بأن “الصورة الفوتوغرافية هي الشعر الذي رأيته ولم أكتبه” هو محاولة لتلخيص علاقة عميقة ومعقدة بين هذين الفنّين اللذين يغذيان روحي ببعضهما البعض حتى أستمر في العيش.
الصورة، بتجميدها للحظة الزمنية، تقدم لي شرارة الإلهام التي تتحرك منها كلمات نصوصي الشعرية. هي بمثابة حجر أقذفه في الماء الآسن لأطلق العنان لعالم من المعاني والمشاعر. الصورة الفوتوغرافية لغة قوية قادرة على إيصال المعنى بشكل مباشر. وأنا أرى في ذلك تشابهاً كبيراً مع الشعر. فالشعر أيضًا لغة، ولكنها لغة تحمل في طياتها دلالات أعمق وأكثر تعقيدًا. وأسعى من خلاله إلى إعطاء هذه اللغة التي بالصورة صوتًا، فأنا استلهم من الصورة أفكارًا جديدة، واستخدم الشعر للتعبير عن هذه الأفكار بعمق أكبر.
- ما الذي يجذبك أكثر عند التقاط صورة؟ اللحظة أم القصة التي تحملها الصورة؟
أعتقد أن الجواب على هذا السؤال ليس إما/أو، بل إن الأمر يتعلق بتكامل العناصر. فاللحظة هي البذرة التي تنمو منها القصة. هي الانطباع الأول الذي يترك أثراً عميقاً في النفس، وهي التي تدفعني إلى التقاط الصورة. لكن هذه اللحظة لا تكفي وحدها، فهي تحتاج إلى سياق، إلى قصة تحكيها وتجعلها ذات معنى.
أجد أن اللحظة والقصة وجهان لعملة واحدة. اللحظة هي البداية، والقصة هي النهاية. وكشاعر مصور، أسعى دائمًا إلى تحقيق التوازن بينهما، لإنتاج صور تحمل في طياتها لحظة حقيقية وقصة مؤثرة.
- هل أثّر التصوير على أسلوبك الشعري أو العكس؟
علاقتي بالتصوير والشعر علاقة تكاملية متبادلة، حيث يؤثر كل منهما على الآخر بشكل عميق. فالتركيز على التفاصيل، وبناء القصة سواء في الصورة الفوتوغرافية أو القصيدة، إلى جانب التجريب والتجديد، علمني أن أرى العالم من زوايا مختلفة، وأن أكتشف الجمال في الأشياء العادية.
وباختصار، التصوير والشعر بالنسبة لي وجهان لعملة واحدة. كلاهما يعبران عن رؤيتي للعالم، وكلاهما يساهم في تطوير إبداعي.
- لديك 4 مشاريع فنية هامة هي: (الشقيانين، الفاعل، نوت، الآخرون). هل ترى نفسك مصورا فنيا أم وثائقيا أكثر؟ وهل لديك مشروع تعمل عليه حاليًا؟
هذا السؤال يشبه إلى حد كبير سؤال “هل أنت شاعر أم قاص؟” فكلاهما يحاول حصر المبدع في خانة واحدة، بينما الحقيقة هي أن الإبداع لا يعترف بالحدود. بالنسبة لمشاريعي المصورة المذكورة، أجد أنني أتحرك بحرية بين هذين المجالين، التقطت صورًا واقعية لشخصيات أبطالها الذين اضطروا جميعًا تحت وطأة الفقر إلى الالتحاق بسوق العمل كعمالة غير منتظمة وبأجر يومي. مع تسليط الضوء على جزء من حياتهم. لكنني في الوقت نفسه أضفت إليها لمسة شخصية. حاولت أن أكشف عن الجانب الإنساني فيهم وتعرية الواقع الذي اضطرهم للجوء إلى ما يفعلونه. وبالتالي، يمكن اعتبار هذه المشاريع وثائقية وفنية في نفس الوقت.
أرى أن التصنيفات هي مجرد أدوات لمساعدتنا على فهم الفن، ولكنها لا يجب أن تكون قيودًا. أنا مصور، نعم، وأدعي أنني مصور شارع، ولكنني مصور يبحث عن الحقيقة والجمال والمعنى في العالم من حوله. وحاليًا، أعمل على استكمال بعض مشاريع التصوير المفتوحة التي أتمنى الانتهاء منها وطرحها للنشر في القريب العاجل.
- هل تفكر في إصدار كتاب يجمع بين صورك ونصوصك الشعرية؟
فكرة دمج الصورة والشعر في كتاب واحد تثير اهتمامي بشدة وأفكر فيها منذ مدة ليست بالقليلة. فدمج الصورة والشعر في كتاب واحد هو بمثابة إكمال لدائرة الإبداع. وكلاهما يكمل الآخر، ويضيف عمقًا جديدًا للتجربة الفنية.
وربما يكون هذا الكتاب بمثابة وثيقة تسجل مرحلة معينة من مسيرتي الإبداعية، ويمكن أن يكون مرجعًا للأجيال القادمة. رغم التحديات تواجهني لإتمام ذلك، إلا أنها فكرة مثيرة للاهتمام، وأنا متحمس لتنفيذها.
- هل لديك خطط لمعارض فوتوغرافية قادمة؟
نعم، لدي خطط طموحة لعرض أعمالي الفوتوغرافية في معارض فردية لو بالتعاون مع الجهات الثقافية والمؤسسات الفنية لدعم مشاريعي، إذ إن المعرض الفني يوفر تجربة مشاهدة غامرة للقارئ والمشاهد. ومنذ سنوات وأنا أريد أن أساهم في إثراء المشهد الفني الحالي، إلا أن ذلك يتطلب ميزانية كبيرة