الشعراء حائرون: إذا كانت الأمسيات بلا جدوى فأين نذهب بالشعر
الأمسيات الشعرية في معارض الكتب العربية تثير أكثر من سؤال.
الأحد 2025/01/26
ShareWhatsAppTwitterFacebook

لمن يقرأ الشاعر قصائده القديمة
بات تنظيم الأمسيات الشعرية ضمن فعاليات معارض الكتب أمرا مثيرا للجدل خاصة مع غياب الجمهور، ومن ثم تراجع ما يقدم من نصوص وتحكّم العلاقات الشللية في هذه التظاهرات، وكثيرة هي الأسباب التي حولت هذه الأنشطة الأدبية والثقافية القديمة المتجددة إلى أنشطة مفرغة من معناها، وهو ما يدعو إلى وقفة جدية لفهم التغيرات الحاصلة. "العرب" استطلعت آراء عدد من الشعراء والنقاد حول هذه الظاهرة.
تشكل الأمسيات الشعرية جزءا لا يتجزأ من فعاليات معارض الكتب العربية، حيث تحرص الهيئات والمؤسسات الثقافية المشاركة في هذه المعارض على تنظيمها، لكنّ أحدا لم يتساءل عن جدوى هذه الأمسيات للشعر والشعراء، والتي غالبا ما يتم اختيار المشاركين فيها وفقا للعلاقات العامة والشللية والمجاملات ورضا السلطة، دون مراعاة لقيمة الشعر والشاعر.
وقبل ذلك ما تمثله الأمسيات للجمهور العربي، وذلك في ظل تردي الذائقة الإبداعية والفنية عامة والشعرية خاصة لدى الجمهور لأسباب كثيرة متداخلة، منها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي.
وليد الخشاب: رمزية قراءة الشعر بمعارض الكتاب العربية تحية لتراثنا
وهنا حتى لا نصادر الرأي الآخر توجهنا بالسؤال للشعراء: كيف يرون قيمة وأهمية وجود أمسيات شعرية في معارض الكتب؟ خاصة أننا مقبلون على الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يزدحم بالأمسيات الشعرية التي تنظمها مؤسسات وهيئات وزارة الثقافة؟
تراجع القيمة
بداية يقول الشاعر د. وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا “ليس بمستغرب أن تعقد احتفاليات تتضمن قراءات أدبية شعرية ونثرية في معارض الكتاب في العالم كله وفي كافة الثقافات. لكن الخصوصية الثقافية العربية تجعل من طقس قراءة الشعر تحديداً في معارض الكتاب إحياءً لممارسة تراثية تعود إلى ما قبل الدعوة المحمدية، وهي قراءة الشعر في سوق عكاظ ورديفها قراءة الشعر بالحرم أو تعليقه على الأستار الشريفة.”
ويضيف “لهذا أرى رمزية قراءة الشعر بمعارض الكتاب العربية تحية لتراثنا، أشجع على تطعيمها بروح الحداثة، فأتمنى ألا تقتصر القراءة على لون شعري بعينه، بل أشجع فتح مجال القراءة لقصيدة النثر وللون الكتابة الذي أسميه الشعر الافتراضي، أي الذي لا ينشره مبدعه إلا على منصات التواصل. أرجو أن تستمر تلك الممارسة التي تعود إلى زمن عكاظ تواصلاً مع فكرة الشعر، لا تثبيتاً لفكرة السوق، وتأكيداً على شفاهة الشعر الذي يفقد الكثير إذا ما انفصل عن جسد الشاعر واقتصرت قراءته على التلقي الصامت في كتاب مطبوع. بهذا المعنى فقراءة الشعر في معرض الكتاب المطبوع يعيد التوازن الرمزي الذي دمغ أصول الشعر العربي، المعادلة بين الشفاهة والكتابة.”
عادل جلال: من المحبط حاليا أنه لا قيمة للأمسيات في معرض الكتاب
ويؤكد الشاعر عادل جلال أن السؤال وإن بدا سهلا إلا أنه صعب جدا وللدقة محبط. ولكي أكون صريحا؛ حاليا لا قيمة للأمسيات في معرض الكتاب وأنا هنا أتحدث عن معرض القاهرة للكتاب فقط، وهو مساحة خبرتي قرابة أربعين عاما. الآن لا قيمة ولا أهمية للأمسيات الشعرية، فيكفي أن تشاهد وأنت تشارك أن الشاعر نفسه يقول ويرحل أي يترك الأمسية قبل أن تكتمل. فهو لا يحترم الشعر ولا شعره ولا نفسه، فكيف نتحدث عن جمهور انصرف ليس كرها في الشعر كما يشاع، ولكن تحت ضغط الميديا ومنتجاتها الكثيرة، وهو ما أصاب الكثير من الفنون فأصبحت فقط لمنتجيها. فإذا كان منتجها لا يحترمها فكيف يكون الجمهور؟”
ويضيف “من ناحية أخرى، هي العادة، يشارك غالبا أصحاب العلاقات على حساب بعض المواهب، وفي بعض الأحيان يشارك الجميع لإرضاء الجميع، فيصبح الأمر بلا معنى خصوصا وأن الكثير من أصحاب العلاقات أصحاب مواهب ضعيفة ومحدودة، وثقافة متدنية، مع حقوق محفوظة في المشاركة كل عام. وربما هذا السبب نفسه ما دفع بعض الشعراء إلى عدم المشاركة، فإذا قبل لأي سبب تتحول الأمسية إلى نوع من العذاب.”
محمد الحرز: لا أرى رابطا قويا لإقامة أمسيات في معارض الكتب
ويذكر أن بعض الشعراء العام الماضي مثلا قال قصائد يرددها منذ أكثر من ثلاثين عاما، وبعضهم يردد نفس القصائد منذ أكثر من 12 عاما ما يدل على ضعف إنتاجهم، وكما سبق وذكر فإن بعض الشعراء يقول قصيدته ويرحل. وبالتالي يقر “نحن من نهبط بالقيمة والأهمية معا. فبدلا من أن يكون مكانا للمنافسة الإبداعية، كما جرى العرف التاريخي على مستوى العالم، تحول معرض القاهرة إلى سوق سنوي للبضائع المستعملة، وصورة مكبرة من نوادي الأدب في الأقاليم، وزاد من تفاقم الوضع وجود أماكن الأمسيات في قاعات منفصلة عن حركة الناس، فأصبح الأمر مقصورا على الشاعرات والشعراء. إذن صفحة فيسبوك تكفي برغم كل عيوبها التي تشبه علاقات معرض الكتاب في مصر.”
لا ضرورة للأمسيات
يقول الشاعر والناقد السعودي محمد الحرز “لا أرى ثمة رابطا قويا يستدعي معه وجوب إقامة أمسيات في معارض الكتب، ولا أرى أيضا ثمة قيمة ثقافية أو إبداعية إذا ما أقمنا أمسيات شعرية أو لم نقم بذلك، لأن معارض الكتب ينبغي أن يدور اهتمامها حول شؤون الكتاب وهمومه وكل ما يتصل به من قضايا ترتبط بطريقة أو بأخرى بالموقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي الذي يحتله الكتاب بوصفه خطابا معرفيا يتماس مباشرة مع قضايا المجتمع من أدب وفكر ودين وسياسة واقتصاد، فهذه الأماسي متغلغلة في كل مناحي حياة الإنسان.
علي عطا: الأمسيات الشعرية لا يحضرها سوى الشعراء أنفسهم ومديرها
لذلك انطلاقا من هذه الزاوية يكون حضور الأمسيات الشعرية من عدمها تفصيلا صغيرا إزاء هذه المواضيع التي تستحق أن تكون ذات أولوية في معارض الكتب، فالمعيار الأول والأخير في اختيار فعاليات المعارض هو عالم الكتاب وما يدور فيه من قضايا تؤثر على ثقافة العالم.”
ويعترف الشاعر علي عطا أنه “لا فائدة من أيّ نشاط ثقافي بلا جمهور، وللأسف فإن الأمسيات الشعرية عموما لم تعد تجذب جمهورا، ولذلك أسباب مركبة، وله في الوقت نفسه ما يبرره من حيث أن الشعر مستبعد من جانب غالبية دور النشر لأنه لا يجد من يقبل على قراءته. وهكذا نجد أن الأمسيات الشعرية لا يحضرها سوى الشعراء أنفسهم ومدير الأمسية وهو غالبا واحد منهم.”
ويضيف “في الواقع لم يكن الحال على هذا النحو عندما كانت أمسيات شعرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب تجتذب جمهورا كبيرا جاء ليستمع إلى نزار قباني أو محمود درويش أو عبدالرحمن الأبنودي. اليوم يحرص هذا الشاعر أو ذاك على أن يدعى للمشاركة في أمسية شعرية لمجرد أن يضع صورته، وهو يلقي الشعر على صفحته على فيسبوك. أما الجهة المنظمة لتلك الأمسية فلا يعنيها في الأمر سوى أن يقال إنها قامت بعملها كما ينبغي.”
مخلص الصغير: الأصل في معارض الكتب ومدارها الكتاب لا الأمسيات
ويرى الشاعر المغربي مخلص الصغير أن الأصل في معارض الكتب ومدار الفعل الثقافي فيها هو الكتاب تداولا وقراءة ودراسة ومناقشة وتوقيعا وبيعا واقتناء أساسا.
من هنا تكون الأمسيات الشعرية كما اللقاءات الأخرى من ندوات وتكريمات وورشات ولقاءات ومحاضرات ولقاءات ومحاورات مع الكتاب بمثابة تظاهرات واحتفاليات مصاحبة وموازية للمحتفى به الأول والمكرم الأسمى في هذه المعارض وهو الكتاب في البدء والمنتهى.
ويتابع “لذلك فالأمر مرحب به من هذا الباب، خاصة إذا تم ربطه بالكتاب. أعني بذلك أن تكون الأمسيات موقوفة، أساسا، على الشعراء الذين أصدروا ديوانا جديدا يقرأ منه الشاعر ثم يوقّعه في نهاية الأمسية وهكذا. وقل الأمر نفسه بالنسبة إلى اللقاء المفتوح مع الكاتب أو محاورته، فخير أن تكون حول كتاب له صدر حديثا، وأن تكون اللقاءات والورشات حول صناعات الكتاب من التأليف إلى النشر والتوزيع. وهدفي من هذه المقترحات أن يستفيد المتدخلون في هذه الصناعات والعاملون عليها في كل هذه الفقرات التي تقام ضمن البرامج الثقافية لمعارض الكتاب. وإلا كانت هذه البرامج مجرد لقاءات عادية أقحمت إقحاما كما اتفق وأدرجت إدراجا ثم ولى الجميع أدراجه من غير أن تعم الفائدة.”
مصطفى عبادة: القصة والرواية فنون صامتة، والشعر فن يحب الجمهور
الشعر تجربة ثقافية
من ناحيته يشير الشاعر مصطفى عبادة إلى أنه بعد أن حوصر الشعر في كل محفل، وفي كل وسيلة، وصار أعظم شاعر يطبع ديوانه ويوزعه لأصدقائه، وغاية ما يرجوه الشعراء هو أن يسمعوا بعضهم البعض، وتحولت الدفة لصالح فنون السرد التي خرجت عن السيطرة، وصار الروائي هو اللامنتمي لهذا الزمان بالمعنى الفلسفي، أي ذلك الشخص الذي يحتل الواجهة، مهما كان إنتاجه، مع إغفال القيمة، لم يبق أمام الشعراء إلا المناسبات التي تحتفي بالكتب، وأين يمكن أن يقرأ الشعراء قصائدهم إلا في حضرة الكتب، فالمعارض هي أنسب الأماكن لهذا النوع من القراءات.
ويضيف”القصة والرواية فنون صامتة، والشعر فن يحب الجمهور، ومنذ أن شاعت مقولة الشعر يقرأ، بعد سيادة قصيدة النثر، فإن إلقاءه أمام الجمهور يكسبه معنى مختلفا، ويمنحه حياة ثانية، وما ضعفت الثقافة وتحكم صناع المحتوى الإلكتروني واليوتيوبرز في المناخ العام، إلا بغياب الشاعر، وكأن هناك من يتآمر لضرب أيّ فكرة تجميعية، ويدفع باتجاه كل الأفكار التفتيتية، واللحظة التي منح فيها بوب ديلان نوبل الآداب، كانت تعني بالنسبة إليّ، آخر لحظات الثقافة الجادة ومن ضمنها الشعر، فالظاهر أن الجائزة منحت للشعر، فيما هي كانت تضرب فكرة الثقافة، والشعر الحقيقي في مقتل.”
أسامة جاد: الأمسيات الشعرية في معارض الكتب ليست مجرد ترفيه
ويواصل عبادة “نعم أنا مع قراءة الشعر في معارض الكتب، وفي كل المحافل العامة، وفي كل مناسبة، حتى لو كان المستمعون خمسة، أو الشعراء أنفسهم، فيكفيهم من عملهم أنهم لا زالوا قابضين على الجمر، في زمن السوشيال ميديا، وتريدون بعد ذلك أيضا أن تحرموهم من القراءة في معارض الكتب.”
ويشدد الشاعر والناقد أسامة جاد على أن معارض الكتب ربما تكون سوقا للكتاب بالأساس، ولكن بما أن الكتاب في ذاته علامة مركزية من علامات الثقافة والإبداع، فإن تمثيل الثقافة والإبداع في معارض الكتب أمر منطقي جدا في ذاته.
وما دامت أجناس الأدب كلها ممثلة في معارض الكتب (توقيع كتب ومناقشة روايات وقصص قصيرة بالإضافة إلى الندوات الفكرية والثقافية العامة) فإن الشعر هو الآخر، بوصفه واحدا من أهم أجناس الأدب له بالضرورة حق الوجود في تلك الفعاليات الثقافية العامة.
ويتابع “الأمسيات الشعرية في معارض الكتب ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل هي أداة قوية لتعزيز مكانة الشعر، ودعم الشعراء، وإثراء الحياة الثقافية، وتشجيع الحوار الفكري. إنها إضافة قيّمة ومهمة لأيّ معرض كتاب يسعى إلى تقديم تجربة ثقافية متكاملة لزواره، خاصة وأن الأمسيات الشعرية تجذب شريحة واسعة من الزوار إلى معارض الكتب، مما يساهم في إنجاحها وزيادة الإقبال عليها. وبشكل عام يمكن تلخيص هذه الأهمية في تعزيز مكانة الشعر وأهميته الثقافية، وإحيائه، وجذب جمهور جديد له، فضلا عن خلق تجربة أدبية تفاعلية بين الشاعر وجمهور الشعر مما يساهم في إثراء الحوار الفكري والثقافي.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد الحمامصي
كاتب مصري
الأمسيات الشعرية في معارض الكتب العربية تثير أكثر من سؤال.
الأحد 2025/01/26
ShareWhatsAppTwitterFacebook

لمن يقرأ الشاعر قصائده القديمة
بات تنظيم الأمسيات الشعرية ضمن فعاليات معارض الكتب أمرا مثيرا للجدل خاصة مع غياب الجمهور، ومن ثم تراجع ما يقدم من نصوص وتحكّم العلاقات الشللية في هذه التظاهرات، وكثيرة هي الأسباب التي حولت هذه الأنشطة الأدبية والثقافية القديمة المتجددة إلى أنشطة مفرغة من معناها، وهو ما يدعو إلى وقفة جدية لفهم التغيرات الحاصلة. "العرب" استطلعت آراء عدد من الشعراء والنقاد حول هذه الظاهرة.
تشكل الأمسيات الشعرية جزءا لا يتجزأ من فعاليات معارض الكتب العربية، حيث تحرص الهيئات والمؤسسات الثقافية المشاركة في هذه المعارض على تنظيمها، لكنّ أحدا لم يتساءل عن جدوى هذه الأمسيات للشعر والشعراء، والتي غالبا ما يتم اختيار المشاركين فيها وفقا للعلاقات العامة والشللية والمجاملات ورضا السلطة، دون مراعاة لقيمة الشعر والشاعر.
وقبل ذلك ما تمثله الأمسيات للجمهور العربي، وذلك في ظل تردي الذائقة الإبداعية والفنية عامة والشعرية خاصة لدى الجمهور لأسباب كثيرة متداخلة، منها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي.

وهنا حتى لا نصادر الرأي الآخر توجهنا بالسؤال للشعراء: كيف يرون قيمة وأهمية وجود أمسيات شعرية في معارض الكتب؟ خاصة أننا مقبلون على الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يزدحم بالأمسيات الشعرية التي تنظمها مؤسسات وهيئات وزارة الثقافة؟
تراجع القيمة
بداية يقول الشاعر د. وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا “ليس بمستغرب أن تعقد احتفاليات تتضمن قراءات أدبية شعرية ونثرية في معارض الكتاب في العالم كله وفي كافة الثقافات. لكن الخصوصية الثقافية العربية تجعل من طقس قراءة الشعر تحديداً في معارض الكتاب إحياءً لممارسة تراثية تعود إلى ما قبل الدعوة المحمدية، وهي قراءة الشعر في سوق عكاظ ورديفها قراءة الشعر بالحرم أو تعليقه على الأستار الشريفة.”
ويضيف “لهذا أرى رمزية قراءة الشعر بمعارض الكتاب العربية تحية لتراثنا، أشجع على تطعيمها بروح الحداثة، فأتمنى ألا تقتصر القراءة على لون شعري بعينه، بل أشجع فتح مجال القراءة لقصيدة النثر وللون الكتابة الذي أسميه الشعر الافتراضي، أي الذي لا ينشره مبدعه إلا على منصات التواصل. أرجو أن تستمر تلك الممارسة التي تعود إلى زمن عكاظ تواصلاً مع فكرة الشعر، لا تثبيتاً لفكرة السوق، وتأكيداً على شفاهة الشعر الذي يفقد الكثير إذا ما انفصل عن جسد الشاعر واقتصرت قراءته على التلقي الصامت في كتاب مطبوع. بهذا المعنى فقراءة الشعر في معرض الكتاب المطبوع يعيد التوازن الرمزي الذي دمغ أصول الشعر العربي، المعادلة بين الشفاهة والكتابة.”

ويؤكد الشاعر عادل جلال أن السؤال وإن بدا سهلا إلا أنه صعب جدا وللدقة محبط. ولكي أكون صريحا؛ حاليا لا قيمة للأمسيات في معرض الكتاب وأنا هنا أتحدث عن معرض القاهرة للكتاب فقط، وهو مساحة خبرتي قرابة أربعين عاما. الآن لا قيمة ولا أهمية للأمسيات الشعرية، فيكفي أن تشاهد وأنت تشارك أن الشاعر نفسه يقول ويرحل أي يترك الأمسية قبل أن تكتمل. فهو لا يحترم الشعر ولا شعره ولا نفسه، فكيف نتحدث عن جمهور انصرف ليس كرها في الشعر كما يشاع، ولكن تحت ضغط الميديا ومنتجاتها الكثيرة، وهو ما أصاب الكثير من الفنون فأصبحت فقط لمنتجيها. فإذا كان منتجها لا يحترمها فكيف يكون الجمهور؟”
ويضيف “من ناحية أخرى، هي العادة، يشارك غالبا أصحاب العلاقات على حساب بعض المواهب، وفي بعض الأحيان يشارك الجميع لإرضاء الجميع، فيصبح الأمر بلا معنى خصوصا وأن الكثير من أصحاب العلاقات أصحاب مواهب ضعيفة ومحدودة، وثقافة متدنية، مع حقوق محفوظة في المشاركة كل عام. وربما هذا السبب نفسه ما دفع بعض الشعراء إلى عدم المشاركة، فإذا قبل لأي سبب تتحول الأمسية إلى نوع من العذاب.”

ويذكر أن بعض الشعراء العام الماضي مثلا قال قصائد يرددها منذ أكثر من ثلاثين عاما، وبعضهم يردد نفس القصائد منذ أكثر من 12 عاما ما يدل على ضعف إنتاجهم، وكما سبق وذكر فإن بعض الشعراء يقول قصيدته ويرحل. وبالتالي يقر “نحن من نهبط بالقيمة والأهمية معا. فبدلا من أن يكون مكانا للمنافسة الإبداعية، كما جرى العرف التاريخي على مستوى العالم، تحول معرض القاهرة إلى سوق سنوي للبضائع المستعملة، وصورة مكبرة من نوادي الأدب في الأقاليم، وزاد من تفاقم الوضع وجود أماكن الأمسيات في قاعات منفصلة عن حركة الناس، فأصبح الأمر مقصورا على الشاعرات والشعراء. إذن صفحة فيسبوك تكفي برغم كل عيوبها التي تشبه علاقات معرض الكتاب في مصر.”
لا ضرورة للأمسيات
يقول الشاعر والناقد السعودي محمد الحرز “لا أرى ثمة رابطا قويا يستدعي معه وجوب إقامة أمسيات في معارض الكتب، ولا أرى أيضا ثمة قيمة ثقافية أو إبداعية إذا ما أقمنا أمسيات شعرية أو لم نقم بذلك، لأن معارض الكتب ينبغي أن يدور اهتمامها حول شؤون الكتاب وهمومه وكل ما يتصل به من قضايا ترتبط بطريقة أو بأخرى بالموقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي الذي يحتله الكتاب بوصفه خطابا معرفيا يتماس مباشرة مع قضايا المجتمع من أدب وفكر ودين وسياسة واقتصاد، فهذه الأماسي متغلغلة في كل مناحي حياة الإنسان.

لذلك انطلاقا من هذه الزاوية يكون حضور الأمسيات الشعرية من عدمها تفصيلا صغيرا إزاء هذه المواضيع التي تستحق أن تكون ذات أولوية في معارض الكتب، فالمعيار الأول والأخير في اختيار فعاليات المعارض هو عالم الكتاب وما يدور فيه من قضايا تؤثر على ثقافة العالم.”
ويعترف الشاعر علي عطا أنه “لا فائدة من أيّ نشاط ثقافي بلا جمهور، وللأسف فإن الأمسيات الشعرية عموما لم تعد تجذب جمهورا، ولذلك أسباب مركبة، وله في الوقت نفسه ما يبرره من حيث أن الشعر مستبعد من جانب غالبية دور النشر لأنه لا يجد من يقبل على قراءته. وهكذا نجد أن الأمسيات الشعرية لا يحضرها سوى الشعراء أنفسهم ومدير الأمسية وهو غالبا واحد منهم.”
ويضيف “في الواقع لم يكن الحال على هذا النحو عندما كانت أمسيات شعرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب تجتذب جمهورا كبيرا جاء ليستمع إلى نزار قباني أو محمود درويش أو عبدالرحمن الأبنودي. اليوم يحرص هذا الشاعر أو ذاك على أن يدعى للمشاركة في أمسية شعرية لمجرد أن يضع صورته، وهو يلقي الشعر على صفحته على فيسبوك. أما الجهة المنظمة لتلك الأمسية فلا يعنيها في الأمر سوى أن يقال إنها قامت بعملها كما ينبغي.”

ويرى الشاعر المغربي مخلص الصغير أن الأصل في معارض الكتب ومدار الفعل الثقافي فيها هو الكتاب تداولا وقراءة ودراسة ومناقشة وتوقيعا وبيعا واقتناء أساسا.
من هنا تكون الأمسيات الشعرية كما اللقاءات الأخرى من ندوات وتكريمات وورشات ولقاءات ومحاضرات ولقاءات ومحاورات مع الكتاب بمثابة تظاهرات واحتفاليات مصاحبة وموازية للمحتفى به الأول والمكرم الأسمى في هذه المعارض وهو الكتاب في البدء والمنتهى.
ويتابع “لذلك فالأمر مرحب به من هذا الباب، خاصة إذا تم ربطه بالكتاب. أعني بذلك أن تكون الأمسيات موقوفة، أساسا، على الشعراء الذين أصدروا ديوانا جديدا يقرأ منه الشاعر ثم يوقّعه في نهاية الأمسية وهكذا. وقل الأمر نفسه بالنسبة إلى اللقاء المفتوح مع الكاتب أو محاورته، فخير أن تكون حول كتاب له صدر حديثا، وأن تكون اللقاءات والورشات حول صناعات الكتاب من التأليف إلى النشر والتوزيع. وهدفي من هذه المقترحات أن يستفيد المتدخلون في هذه الصناعات والعاملون عليها في كل هذه الفقرات التي تقام ضمن البرامج الثقافية لمعارض الكتاب. وإلا كانت هذه البرامج مجرد لقاءات عادية أقحمت إقحاما كما اتفق وأدرجت إدراجا ثم ولى الجميع أدراجه من غير أن تعم الفائدة.”

الشعر تجربة ثقافية
من ناحيته يشير الشاعر مصطفى عبادة إلى أنه بعد أن حوصر الشعر في كل محفل، وفي كل وسيلة، وصار أعظم شاعر يطبع ديوانه ويوزعه لأصدقائه، وغاية ما يرجوه الشعراء هو أن يسمعوا بعضهم البعض، وتحولت الدفة لصالح فنون السرد التي خرجت عن السيطرة، وصار الروائي هو اللامنتمي لهذا الزمان بالمعنى الفلسفي، أي ذلك الشخص الذي يحتل الواجهة، مهما كان إنتاجه، مع إغفال القيمة، لم يبق أمام الشعراء إلا المناسبات التي تحتفي بالكتب، وأين يمكن أن يقرأ الشعراء قصائدهم إلا في حضرة الكتب، فالمعارض هي أنسب الأماكن لهذا النوع من القراءات.
ويضيف”القصة والرواية فنون صامتة، والشعر فن يحب الجمهور، ومنذ أن شاعت مقولة الشعر يقرأ، بعد سيادة قصيدة النثر، فإن إلقاءه أمام الجمهور يكسبه معنى مختلفا، ويمنحه حياة ثانية، وما ضعفت الثقافة وتحكم صناع المحتوى الإلكتروني واليوتيوبرز في المناخ العام، إلا بغياب الشاعر، وكأن هناك من يتآمر لضرب أيّ فكرة تجميعية، ويدفع باتجاه كل الأفكار التفتيتية، واللحظة التي منح فيها بوب ديلان نوبل الآداب، كانت تعني بالنسبة إليّ، آخر لحظات الثقافة الجادة ومن ضمنها الشعر، فالظاهر أن الجائزة منحت للشعر، فيما هي كانت تضرب فكرة الثقافة، والشعر الحقيقي في مقتل.”

ويواصل عبادة “نعم أنا مع قراءة الشعر في معارض الكتب، وفي كل المحافل العامة، وفي كل مناسبة، حتى لو كان المستمعون خمسة، أو الشعراء أنفسهم، فيكفيهم من عملهم أنهم لا زالوا قابضين على الجمر، في زمن السوشيال ميديا، وتريدون بعد ذلك أيضا أن تحرموهم من القراءة في معارض الكتب.”
ويشدد الشاعر والناقد أسامة جاد على أن معارض الكتب ربما تكون سوقا للكتاب بالأساس، ولكن بما أن الكتاب في ذاته علامة مركزية من علامات الثقافة والإبداع، فإن تمثيل الثقافة والإبداع في معارض الكتب أمر منطقي جدا في ذاته.
وما دامت أجناس الأدب كلها ممثلة في معارض الكتب (توقيع كتب ومناقشة روايات وقصص قصيرة بالإضافة إلى الندوات الفكرية والثقافية العامة) فإن الشعر هو الآخر، بوصفه واحدا من أهم أجناس الأدب له بالضرورة حق الوجود في تلك الفعاليات الثقافية العامة.
ويتابع “الأمسيات الشعرية في معارض الكتب ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل هي أداة قوية لتعزيز مكانة الشعر، ودعم الشعراء، وإثراء الحياة الثقافية، وتشجيع الحوار الفكري. إنها إضافة قيّمة ومهمة لأيّ معرض كتاب يسعى إلى تقديم تجربة ثقافية متكاملة لزواره، خاصة وأن الأمسيات الشعرية تجذب شريحة واسعة من الزوار إلى معارض الكتب، مما يساهم في إنجاحها وزيادة الإقبال عليها. وبشكل عام يمكن تلخيص هذه الأهمية في تعزيز مكانة الشعر وأهميته الثقافية، وإحيائه، وجذب جمهور جديد له، فضلا عن خلق تجربة أدبية تفاعلية بين الشاعر وجمهور الشعر مما يساهم في إثراء الحوار الفكري والثقافي.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد الحمامصي
كاتب مصري