مقدمة - إبداعات النار .. مجلة عالم المعرفة
مقدمة
تاريخ الكيمياء هو قصة السعي البشري، وهو سعي شارد غريب الأطوار مثل الطبيعة البشرية نفسها . كان التقدم يأتي في نوبات متقطعة، وكان يأتي من جميع أنحاء العالم.
وكان من الضروري أن نضع بعض النظام لأن المدى الذي يغطيه هذا التاريخ كبير (حوالي 100 ألف سنة)، وقد قسمنا المتن بذلك إلى ثلاثة أقسام متمايزة بعضها عن بعض في الزمن، وإن كانت أقساما كبرى : القسم الأول الفصول (71) ويغطي الفترة من مائة ألف عام قبل العصر المكتوب، وحتى القرن الثامن عشر، وفيه نعرض لخلفية الثورة الكيميائية . والقسم الثاني (الفصول 8-14) ويغطي الفترة من أواخر القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، ويتعرض للثورة الكيميائية وما تبعها . والقسم الثالث ( الفصول 15 - 20 ) ويغطي الفترة من الحرب العالمية الأولى وحتى 1950 ، ويقدم الثورة الكيميائية وتوابعها، كما يقدم إشارات الثورات قادمة.
كان هناك دائما رافدان لتيار الكيمياء : التجربة والنظرية. غير أن المناهج التجريبية النسقية لم تكن مستخدمة بانتظام قبل القرن السابع عشر بينما لم تتطور النظريات الكمية إلا بحلول القرن الثامن عشر. ويمكن أن ندفع بأن الكيمياء الحديثة لم تبدأ كعلم إلا مع الثورة الكيميائية في القرن الثامن عشر، إلا أننا نقول إن التجارب الأولى قام بها الحرفيون، بينما اقترح الفلاسفة النظريات الأولى. ولا يمكن فهم الثورة إلا إذا عرفنا ما الذي تثور ضده أو تتمرد عليه. ولذا فإننا سنبدأ روايتنا بأعمال المعالجين والفنانين وحائكي الثياب والعاملين بالفلزات، وسنبين كيف استخدم الفلاسفة مشاهداتهم للحرفيين - وسواء أكانت واضحة أم لا - ليصنعوا أوليات النظريات الكيميائية . وقد أصبحت واحدة من هذه النظريات - نظرية العناصر الأربعة النار والماء والتربة والهواء لأرسطو - مركزا للجهود التجريبية على مدى ما يقرب من ألفي عام.
وثمة سببان لبقائها هذه الفترة الطويلة . كان للنظرية إغراء حدسي فقد كان من المفترض أن العناصر الأربعة موجودة بنسب خلط معينة في جميع المواد . وبالفعل، عندما كان الخشب يحترق، كان من الممكن مشاهدة الهواء (الدخان يرتفع إلى أعلى، والماء (النسخ) يتقاطر، والتربة (الرماد) تتكون، والنار اللهب) تتصاعد . كانت النظرية أيضا واعدة : فلو كانت جميع المواد مكونة من خليط من العناصر، إذن من الممكن تغيير نسب هذه العناصر في إحدى المواد لتخلق مادة أخرى - أى إجراء تحويل . وكان أكثر عمليات التحويل جذبا للاهتمام هي تحويل الفلزات الأساسية إلى ذهب - وقد تمت ملاحقة هذا التحويل بجهد لا يكل منذ الألفية الأولى قبل الميلاد، وحتى ألفي عام تقريبا بعد الميلاد.
شكلت جهود السيميائيين - الذين قاموا باختبار نظرية تحويل العناصر تشعبا في تطور الكيمياء كان التيار الرئيسي هو أن تراكم الحقائق الكيميائية في تتابع وراء بعضها البعض بواسطة الحرفيين سوف يؤدي إلى سقوط النظرية . لكنه كان تشعبا مهما . قام السيميائيون بتطوير تقنيات لها تطبيقات في الكيمياء العملية، وأثروا في الصورة العامة لمن يمارسون الكيمياء التجريبية، فصارت هذه الصورة مترافقة مع الغموض والسحر والتصوف والخداع، وحتى عندما تحول السيميائيون عن إنتاج الذهب إلى أمور أكثر عطاء للغير مثل إنتاج الأدوية فيما نسميه الإصلاح الكيميائي في القرن السادس عشر)، فإن صورة الكيمياء استغرقت بعض الوقت لتتغير. وبهذا الشكل، حقق هذا التحول في الاتجاه - الذي تزامن مع الثورة العلمية في القرن السابع عشر - احتراما من نوع جديد للتجريب الكيميائي وألهم تحولات جادة أنتجت الثورة الكيميائية.
وكانت الثورة الكيميائية التي قادها الكيميائي الفرنسي لافوازييه، ثورة ضد الغموض وعدم الدقة في الفكر والتجريب. وعندما كان الدخان يدعم بشكل غامض فكرة أن الهواء عنصر، كان المفكرون المدققون يتساءلون عما إذا كان الدخان هو العنصر النقي للهواء، وإذا كان كذلك، فلماذا يكتسب الهواء أحيانا خواص مختلفة ومقدرة متباينة على التفاعل؟
وعندما كانت خفة وزن الرماد تدعم بغموض فكرة أن شيئا ما يغادر الخشب في أثناء التسخين، كان المفكرون المدققون يتساءلون: لماذا تكتسب الفلزات زيادة في الوزن إذا سخنت؟ وقد لفظت الثورة الكيميائية - بشدة ونهائيا - السحر كتفسير، والسلطة كدليل، والتخمينات غير القابلة للتحقق منها كنظرية كيميائية . وقد أرست الثورة الكيميائية - بشكل قوي ونهائي - الحاجة إلى القياسات الكمية الدقيقة في التحليل التجريبي، والحاجة إلى اللغة الواضحة النقية في التفكير التحليلي، والحاجة إلى النتائج التجريبية القابلة للتحقق والتثبت منها لدعم النظرية الكيميائية.
وأصبحت نتيجة رفض العناصر الأربعة لأرسطو ظهور العشرات الأخرى. وقد استخدم الكيميائيون أدواتهم من الأجهزة الجديدة وأفكارهم ليكتشفوا العناصر الجديدة والقوانين التي تحكم تفاعلاتها . وصارت الكيمياء علما، والتفاعلات يمكن التحكم فيها، وأصبح الإنتاج الكيميائي صناعة والكيميائيون محترفين.
ومع كل هذا التقدم، ظلت هناك فجوة كبيرة في النظرية : ما القوى التي تمسك بالعناصر معا؟ فسرت النظريات الكهروكيميائية، في القرن التاسع عشر، كيف تمسك الشحنات المتضادة بعض العناصر ببعضها الآخر، لكن فشلت هذه النظريات - كما فشلت كل نظرية أخرى - في تفسير وجود أبسط مركب على الإطلاق الهيدروجين الجزيئي، الذي يتكون من اتحاد ذرتين متماثلتين من الهيدروجين. وكان من المستحيل من دون تفسير لذلك أن يستطيع أحد التنبؤ بشيء، اللهم إلا شيئا واحدا هو: أن الأمر يتطلب ثورة أخرى. وقد جاءت هذه الثورة في هذه المرة أسرع كثيرا . جاءت مع القرن الجديد، القرن العشرين ثورة الكم الكوانطا».
ونظرية الكم أساس ثورة الكم، هي نتاج تزاوج جهود الفيزيائيين والكيميائيين لفهم النشاط الإشعاعي والمقدرة على التفاعل وبنية الذرة. وكان رذرفورد، مؤسس نموذج الذرة على شكل الكوكب السيار، فيزيائيا تبعا لنشأته، لكنه حاز جائزة نوبل في الكيمياء. وكان لويس الكيميائي يملك من البصيرة الناتجة عن المعلومات المستفيضة عن التفاعلات الكيميائية) ما جعله يقترح الرباط ثنائي الإلكترون - والذي أسس الكيميائيون عليه نظرية الكم للرباط الكيميائي . وبدأ انفجار المعلومات التجريبية والفهم النظري قبل ثورة الكم - لكنه اكتسب بها تسارعا - وأدى إلى انقسام الكيمياء إلى فروع. وأصبحت الكيمياء الحيوية، والكيمياء العضوية، والكيمياء غير العضوية، والكيمياء التحليلية، والكيمياء الفيزيائية مجالات مستقلة على الرغم من أن تفاعلها معا كان أساسيا لتقدم كل منها .
وكان التقدم هو ما أنجزه الكيميائيون. فنحن نستطيع اليوم أن نتنبأ بخواص المواد حتى قبل أن نصنعها، ونفترض أي المواد كان موجودا لحظة تولد الحياة نفسها . لكن ما الذي يخبئه الأفق في الكيمياء؟ من الصعب التكهن بذلك. فمن المؤكد أن أرسطو كان سيفاجأ بنتائج لافوازييه، وكان لافوازييه ستذهله استنتاجات لويس . وهكذا، بالتأكيد سنذهل - ونسعد بالكيمياء القادمة.
مقدمة
تاريخ الكيمياء هو قصة السعي البشري، وهو سعي شارد غريب الأطوار مثل الطبيعة البشرية نفسها . كان التقدم يأتي في نوبات متقطعة، وكان يأتي من جميع أنحاء العالم.
وكان من الضروري أن نضع بعض النظام لأن المدى الذي يغطيه هذا التاريخ كبير (حوالي 100 ألف سنة)، وقد قسمنا المتن بذلك إلى ثلاثة أقسام متمايزة بعضها عن بعض في الزمن، وإن كانت أقساما كبرى : القسم الأول الفصول (71) ويغطي الفترة من مائة ألف عام قبل العصر المكتوب، وحتى القرن الثامن عشر، وفيه نعرض لخلفية الثورة الكيميائية . والقسم الثاني (الفصول 8-14) ويغطي الفترة من أواخر القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، ويتعرض للثورة الكيميائية وما تبعها . والقسم الثالث ( الفصول 15 - 20 ) ويغطي الفترة من الحرب العالمية الأولى وحتى 1950 ، ويقدم الثورة الكيميائية وتوابعها، كما يقدم إشارات الثورات قادمة.
كان هناك دائما رافدان لتيار الكيمياء : التجربة والنظرية. غير أن المناهج التجريبية النسقية لم تكن مستخدمة بانتظام قبل القرن السابع عشر بينما لم تتطور النظريات الكمية إلا بحلول القرن الثامن عشر. ويمكن أن ندفع بأن الكيمياء الحديثة لم تبدأ كعلم إلا مع الثورة الكيميائية في القرن الثامن عشر، إلا أننا نقول إن التجارب الأولى قام بها الحرفيون، بينما اقترح الفلاسفة النظريات الأولى. ولا يمكن فهم الثورة إلا إذا عرفنا ما الذي تثور ضده أو تتمرد عليه. ولذا فإننا سنبدأ روايتنا بأعمال المعالجين والفنانين وحائكي الثياب والعاملين بالفلزات، وسنبين كيف استخدم الفلاسفة مشاهداتهم للحرفيين - وسواء أكانت واضحة أم لا - ليصنعوا أوليات النظريات الكيميائية . وقد أصبحت واحدة من هذه النظريات - نظرية العناصر الأربعة النار والماء والتربة والهواء لأرسطو - مركزا للجهود التجريبية على مدى ما يقرب من ألفي عام.
وثمة سببان لبقائها هذه الفترة الطويلة . كان للنظرية إغراء حدسي فقد كان من المفترض أن العناصر الأربعة موجودة بنسب خلط معينة في جميع المواد . وبالفعل، عندما كان الخشب يحترق، كان من الممكن مشاهدة الهواء (الدخان يرتفع إلى أعلى، والماء (النسخ) يتقاطر، والتربة (الرماد) تتكون، والنار اللهب) تتصاعد . كانت النظرية أيضا واعدة : فلو كانت جميع المواد مكونة من خليط من العناصر، إذن من الممكن تغيير نسب هذه العناصر في إحدى المواد لتخلق مادة أخرى - أى إجراء تحويل . وكان أكثر عمليات التحويل جذبا للاهتمام هي تحويل الفلزات الأساسية إلى ذهب - وقد تمت ملاحقة هذا التحويل بجهد لا يكل منذ الألفية الأولى قبل الميلاد، وحتى ألفي عام تقريبا بعد الميلاد.
شكلت جهود السيميائيين - الذين قاموا باختبار نظرية تحويل العناصر تشعبا في تطور الكيمياء كان التيار الرئيسي هو أن تراكم الحقائق الكيميائية في تتابع وراء بعضها البعض بواسطة الحرفيين سوف يؤدي إلى سقوط النظرية . لكنه كان تشعبا مهما . قام السيميائيون بتطوير تقنيات لها تطبيقات في الكيمياء العملية، وأثروا في الصورة العامة لمن يمارسون الكيمياء التجريبية، فصارت هذه الصورة مترافقة مع الغموض والسحر والتصوف والخداع، وحتى عندما تحول السيميائيون عن إنتاج الذهب إلى أمور أكثر عطاء للغير مثل إنتاج الأدوية فيما نسميه الإصلاح الكيميائي في القرن السادس عشر)، فإن صورة الكيمياء استغرقت بعض الوقت لتتغير. وبهذا الشكل، حقق هذا التحول في الاتجاه - الذي تزامن مع الثورة العلمية في القرن السابع عشر - احتراما من نوع جديد للتجريب الكيميائي وألهم تحولات جادة أنتجت الثورة الكيميائية.
وكانت الثورة الكيميائية التي قادها الكيميائي الفرنسي لافوازييه، ثورة ضد الغموض وعدم الدقة في الفكر والتجريب. وعندما كان الدخان يدعم بشكل غامض فكرة أن الهواء عنصر، كان المفكرون المدققون يتساءلون عما إذا كان الدخان هو العنصر النقي للهواء، وإذا كان كذلك، فلماذا يكتسب الهواء أحيانا خواص مختلفة ومقدرة متباينة على التفاعل؟
وعندما كانت خفة وزن الرماد تدعم بغموض فكرة أن شيئا ما يغادر الخشب في أثناء التسخين، كان المفكرون المدققون يتساءلون: لماذا تكتسب الفلزات زيادة في الوزن إذا سخنت؟ وقد لفظت الثورة الكيميائية - بشدة ونهائيا - السحر كتفسير، والسلطة كدليل، والتخمينات غير القابلة للتحقق منها كنظرية كيميائية . وقد أرست الثورة الكيميائية - بشكل قوي ونهائي - الحاجة إلى القياسات الكمية الدقيقة في التحليل التجريبي، والحاجة إلى اللغة الواضحة النقية في التفكير التحليلي، والحاجة إلى النتائج التجريبية القابلة للتحقق والتثبت منها لدعم النظرية الكيميائية.
وأصبحت نتيجة رفض العناصر الأربعة لأرسطو ظهور العشرات الأخرى. وقد استخدم الكيميائيون أدواتهم من الأجهزة الجديدة وأفكارهم ليكتشفوا العناصر الجديدة والقوانين التي تحكم تفاعلاتها . وصارت الكيمياء علما، والتفاعلات يمكن التحكم فيها، وأصبح الإنتاج الكيميائي صناعة والكيميائيون محترفين.
ومع كل هذا التقدم، ظلت هناك فجوة كبيرة في النظرية : ما القوى التي تمسك بالعناصر معا؟ فسرت النظريات الكهروكيميائية، في القرن التاسع عشر، كيف تمسك الشحنات المتضادة بعض العناصر ببعضها الآخر، لكن فشلت هذه النظريات - كما فشلت كل نظرية أخرى - في تفسير وجود أبسط مركب على الإطلاق الهيدروجين الجزيئي، الذي يتكون من اتحاد ذرتين متماثلتين من الهيدروجين. وكان من المستحيل من دون تفسير لذلك أن يستطيع أحد التنبؤ بشيء، اللهم إلا شيئا واحدا هو: أن الأمر يتطلب ثورة أخرى. وقد جاءت هذه الثورة في هذه المرة أسرع كثيرا . جاءت مع القرن الجديد، القرن العشرين ثورة الكم الكوانطا».
ونظرية الكم أساس ثورة الكم، هي نتاج تزاوج جهود الفيزيائيين والكيميائيين لفهم النشاط الإشعاعي والمقدرة على التفاعل وبنية الذرة. وكان رذرفورد، مؤسس نموذج الذرة على شكل الكوكب السيار، فيزيائيا تبعا لنشأته، لكنه حاز جائزة نوبل في الكيمياء. وكان لويس الكيميائي يملك من البصيرة الناتجة عن المعلومات المستفيضة عن التفاعلات الكيميائية) ما جعله يقترح الرباط ثنائي الإلكترون - والذي أسس الكيميائيون عليه نظرية الكم للرباط الكيميائي . وبدأ انفجار المعلومات التجريبية والفهم النظري قبل ثورة الكم - لكنه اكتسب بها تسارعا - وأدى إلى انقسام الكيمياء إلى فروع. وأصبحت الكيمياء الحيوية، والكيمياء العضوية، والكيمياء غير العضوية، والكيمياء التحليلية، والكيمياء الفيزيائية مجالات مستقلة على الرغم من أن تفاعلها معا كان أساسيا لتقدم كل منها .
وكان التقدم هو ما أنجزه الكيميائيون. فنحن نستطيع اليوم أن نتنبأ بخواص المواد حتى قبل أن نصنعها، ونفترض أي المواد كان موجودا لحظة تولد الحياة نفسها . لكن ما الذي يخبئه الأفق في الكيمياء؟ من الصعب التكهن بذلك. فمن المؤكد أن أرسطو كان سيفاجأ بنتائج لافوازييه، وكان لافوازييه ستذهله استنتاجات لويس . وهكذا، بالتأكيد سنذهل - ونسعد بالكيمياء القادمة.
تعليق