​​يكتب أحمد سيد سليم «ابنـــة القسّ» من أجمل الروايات فى القرن العشرين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ​​يكتب أحمد سيد سليم «ابنـــة القسّ» من أجمل الروايات فى القرن العشرين



    أحمد سيد سليم يكتب: «ابنـــة القسّ» من أجمل الروايات فى القرن العشرين رغم مرور (٩٠ عامًا) على صدورها

    الأربعاء 08-01-2025 | كتب: المصري اليوم |

    ​ غلاف الكتاب



    تُرى، لماذا اختيرت رواية (ابنــة القسيس A Clergyman›s Daughter) ضمن أهم المقرّرات الأدبية بمدارس انجلترا، ولماذا تصدّرت الأعمالَ الدرامية البريطانية؟، وكيف اعتبرها النقّادُ أجمل رواية فى العصر الحديث... فما هى أبعاد هذه الروايــة وفلسفتها؟.





    افتتح (جورج أُورويل George Orwell) روايته بهذه الكلمات: «هبّت دوروثى فجأةً مستيقظة من براثن حلمٍ مزعج معقَّد حينما انفجر المنبّه بالرنين فوق خزانة الأدراج، وكأنّه قنبلة صغيرة مدوّية ذات جرس معدنى، فاستلقت على ظهرها تحدق فى الظلام وهى منهكة تماما».

    الفتاة «دوروثى هيـر» هى بطلة الرواية التى وقعتْ ضحية حياة الخضوع والتبعيّة، فهى لا تستطيع تحمّل أعباء المنزل، ولا مواجهة حروب الكنيسة التى لا يواسيها فيها أحد سوى أبيها الكاهن الأرمل البخيل؛ الذى ألقى كلَّ الأعباء عليها دون شفقة، فيصبح شغلها الشاغل تلكَ الأعباء الثقيلة والرتيبة؛ فتضطر إلى الهروب من البيت لتجد نفسها فى مدينة لندن، فتعمل مع مجموعة من المشرّدين فى مزرعة، وهناك تصاب بفقدان الذاكرة، ولمَّا عادت إلى منزلها ثانيةً رأت والدها يريد تزويجها بالإكراه لرجلٍ ترفض عرض الزواج؛ لأنها ترى فى نفسها وحياتها الزوجيَّة مشاكل والدها ووالدتها، فضلًا عن تربيتها الدينيَّة المتناقضة.

    (الفصــل الأول) من الرواية، يناقش أزمة العلْمنة والتديُّن فى المجتمع الطبقى الإنجليزى، وربما لا يتعلق هذا بالمجتمع الإنجليزى فقط سوى ببعض المُسمّيات، فجوهر الصراع الذى يتناوله يتعلق بالأديان التى تتحلَّل إلى طوائف وتندثر الطقوس الروحانيّة فيها وتبقى مسائل الصراعات والاختلافات، ويظهر هنا صراع الطقوس والسباق المحتدم الذى يحدث بين الكنائس التى تنتمى إلى طوائف مختلفة فى سياستها ونزعتها، وأنَّ أى كنيسة لا تهتم بما سبق بالشكل الكافى تخرج عن السباق وتختفى، وقد وصفهم بالنمل الذى يرى الصغائر ولا يرى الكبائر!.

    أمَّا (الفصــل الثانــي) فيعرِض لنا حياة التشرُّد من منظور يستحيل أن يكتب عنه شخص لم يَذُق مرارته، بلْ وعايشه أيضًا، ولعلَّ أروع ما فى هذا الفصل ذلك الحوار الطويل الذى دار أثناء قيام «بطلة الرواية» بالمبيت وحدها فى أحد الساحات الخاصة بنوم المشرّدين، إذْ تتجلَّى براعة «الكاتب» فى طرح بعض الجُمل اللاَّذعة كلٌ على حسب خلفيّته، حيث يقوم بعرض أشكال الاستبداد القبيحة وجَلدها ومحاكمتها.

    فتجربة التشرُّد غيّرت كثيرًا من معتقدات الفتاة، فقد كانت قبلها تؤمن إيمانًا راسخًا بالدين، وتقوم نيابةً عن أبيها القسيس الكسول بتفقُّد أحوال الكنيسة والسهر على خدمتها، لكن حياة التشرُّد التى تلت فقدانها لذاكرتها أفقدتها إيمانها، وتعلّمت الفتاةُ من محنتها درسًا عمليًا يتلخّص فى أنَّ الإيمان بالدين وعدم الإيمان به وجهان لعملة واحدة!.

    وفى (الفصــل الثالث) يطرح إشكاليّة الإصلاح، ثمَّ يترك البابَ مفتوحًا أمام القارئ ليطرح هو الحلَّ لهذه المشكلة المتجدّدة... وفى الأغلب سيكون الحلُّ أمام أيّ إنسان هو تدمير كل شىء لاستحالة الإصلاح، لأنَّ النظام المستبدّ القائم متغلغل فى كل مفاصل المجتمع!.

    لقد اختيرت هذه الرواية كأجمل رواية فى القرن العشرين... وذلك لعدة أسباب:

    أولًا: أنها مُفعمة بحواراتٍ كاشفة عن طبيعة المجتمع الطبقى الإنجليزى، إذْ نجح (جورج أُورويل George Orwell) فى نقد ذلك المجتمع وهدمه بصورة كاملة، وكشفَ عن الازدواجيّة التى يمارسها «رجال الدّين»، فالكنيسةَ تتسم بالأنانيَّة، وأنها لطبقة النبلاء، وتأثيرها على العامة فاسد! يقول الكاتب: «كلما ازداد ابتعاد المجتمع عن الحقيقة كلما ازدادت كراهيته لمن يتحدّثون بالحقيقة». لذا؛ قام بهجوم شرس على هذا المجتمع، وانتقد تعاليم الكنيسةَ وطوائفها، إذْ يقول: «الولاء المطلق، يعنى انعدام الوعى.. وأنه فى زمن الخداع يكون قول الحقيقة عملًا ثوريًا».

    ثانيــًا: امتازت هذه الرواية بأسلوب سهل وأنيق وجذّاب، فلا يشعر القارئُ بالمَلَل طوال قراءته، بلْ يَغرق فى لجّةٍ من الضحك والقهقهة التى تبعث فيه البهجة، خاصةً عندما نرى نرجسيّة الوعى والتلاعب بالكلمات، كقوله: «إذا كان الفكر يُفسِد اللغة، فبإمكان اللغة كذلك أن تُفسِد الفكر». وأنَّ «السلطة هى تمزيق عقول البشر إلى أشلاء ووضعها مرةَ أخرى فى أشكال جديدة»!.

    ثالثــًا: نجح «الكاتب» بامتياز فى تشخيص واقع الشعوب التى تصطلى بنيران الديكتاتوريّة، فانتقد الاستبداد بأسلوب بليغ، كقوله: «إذا أردتَ تصوّر المستقبل تخيَّل حذاء يَدهس وجهًا بشريًا للأبد»! ثمَّ نراه يُعرّى النفاق الدولى، بقوله: «هناك شيء خطأ فى النظام السياسى الذى يحتاج هَرمًا مِن الجثث كلّ بضع سنوات».

    ولا تزال هذه الرواية إلى جانب روايات أخرى لجورج أورويل مثل: «مزرعة الحيوان»، و«روايــة ١٩٨٤» تُشكّل إسقاطات قوية على الواقع المُعاش، بسبب وجود أنظمة استبدادية فى معظم دول العالم، ولقد صكَّ مصطلح «الأُوروليّة» الذى دخل ضمن ثقافات الشعوب إلى يومنا هذا، مثل: مصطلح: «التفكير المزدوج» و«الأخ الأكبر» و«الحرب الباردة» و«جريمة الفكر» و«شُرطة الفكر»، وغيرها من المصطلحات التى تحمل فى طيّاتها حالة الطغيان والاستبداد!.

    رابعـــًا: أنَّ شخصية «الكاتب» تتشابه مع شخصية «بطلة الرواية» فى كثير من أحوالها، ففى شبابه اضطّر «أُورويل» للعمل فى أعمال شاقة وبأجور ضئيلة، وكثيرًا ما كان يخرج متخفيًا فى صورة متسكّع يطوف لندن وما حولها. أيضًا: هو ينتمى لأسرة بها كثير من رجال الدّين الذين طالما انتقد أفعالهم، وشارك فى شبابه فى بعض أعمال الكنيسة المحلية، ثمَّ هجرها وراح يلعنها. بلْ إنه فى بداية حياته ذهب لخِطبة زميلة له كان أبوها قسّيسا، لكنها رفضتْ الارتباط به!.

    خامســـًا: براعة «المؤلف» فى استغلال معاناة «دوروثى» فى نقد المؤسَّسات الرسميّة؛ فانتقد أسلوب خفض أجور العاملين بشكل ممنهج مع تقدُّم موسِم الحصاد، وانتقد طبيعة العمل القاسية، وأوضاع العمَّال الموسميّين! وانتقد نظام المدارس الخاصة فى إنجلترا الذى شهده فى عهده، وكيف أفسدت المصالحُ الرأسمالية نظام المدارس وجعلته عديم الفائدة. ويظهر هجومه الموجَّه نحو الدوافع التجارية فى مقولة السيدة «كريفى» وتحيّزها الصريح لصالح أطفال الأثرياء، وإهانتها لأطفال الفقراء، وقولها: «لا آبَه بتنمية عقول الأطفال، بلْ جُل ما أريده المال»!.

    وانتقد القس تشارلز هير- والد دوروثى- الذى كان يعتقد أنَّ الناسَ أدنى منه فى المكانة، ويأبى دفع المال للعمّال والتجّار، حتى ينتهى به الحال مديونًا بشدّة. فهو رجل دين أنانى، يفتقد الجانب الروحانيّ، وعلى حد تعبير أُورويل نفسه: إنه لا يستطيع أن يماشى العصر الجديد، عصر العلماء والفلاسفة، مثل: جوليان هكسلى وبرتراند رسْل!.

    ولا ننسى أنَّ الحِكَم التى اكتظّت بها الرواية؛ أهّلتها لتكونَ أروع قصّة، منها - على سبيل المثال:

    ربما يموت الإنسانُ عندما يتوقف دماغه عن استيعاب أفكار جديدة.
    عامة الشعب لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا.
    «الحرية» هى الحقّ فى أن تقولَ للناس ما لا يريدون سماعه.
    تكمُن المشكلة الرئيسية فى وهْمِنا بأنَّنا نملك شيئًا قد نخسره.
    إنَّ ما يتمّ التعتيم عليه هو فى الغالب أكثر أهمية مِمَّا يقال.
    فى مكتبة إعارة الكتب ترى أذواق الناس الحقيقية، وليس أذواقهم المزعومة.

    مَن هو جــــورج أُورويـل

    عاش الكاتب الإنجليزى «جورج أُورويل» فى الفترة (١٩٠٣م- ١٩٥٠م) واشتُهِر بالصراحة والنبوغ والذكاء وخفّة الدم، ودفاعه عن العدالة الاجتماعية، ومعارضة الحُكم الشمولى، وإيمانه بالديمقراطية. وقد احترف العمل الصحفى، وتألَّق فى السرد الروائى، كما كتب فى النقد الأدبى، والشِّعر الخيالى، والصحافة الجدليَّة. لكن أكثر شيءٍ عُرف به هو روايته المجازية (مزرعة الحيوان) التى حاز بها على جائزة نوبل، ثمَّ رائعته الديستوبيّة (رواية ١٩٨٤).

    لقد عاش «أُورويل» حياةً غريبة، فقد كان سعيدًا جدًا بملابسه الرثّة، وكان يستمتع بـإطلاق النار، وصيد السمك، ومراقبة الطيور، ومعاكسة المارة، وصنع النِّكات، وكان يُقهقه بصوت يسمعه المارة على طول الطريق! وكان يكره التعليم وينفر من الدراسة، وقد تمَّ فصله من المدرسة بسبب إرساله جرذًا ميّتًا كهديّة عيد ميلاد إلى مسّاح أراضى المدينة! وكان مُدخنًا شرها يلفّ سجائره بالتبغ القوى، وحبّه الأسطورى للشاى دفعه إلى تأليف (كوب من الشاى الجميل). وقد طلب فى وصيّتـه ألاَّ تُكتَبَ أيّ سيرة ذاتية عنه!. نعم؛ إنه أحد النفوس التى اكتوت بنار الألم، ومرارة الاغتراب. لذا؛ وصفته صحيفة (الدايلى ميل Daily Mail‏): بأنّ «لديه خبرة لا مثيل لها، وأنَّ مشواره الكتابى أشبه بنضال مسلَّح، فقد واجه الفقر والذل، وكتب عن الحلو والمر فى الأحياء الفقيرة، وأهم ما يمتاز به أنه حوّل التجربة إلى روائع خالدة». وقال عنه واتنسبجراستيتد: «كتابة أورويل تفضح النفاق الفكرى أينما وُجِد».




    وقد تنوعت أعماله ما بين الرواية، والنقد، والكتابة السياسية، والموضوعات الاجتماعية، والسيرة الذاتية، حتى جاوزت ثمانين كتابًا، لعلَّ أكثرها انتشارًا: (مزرعة الحيوان، ابنة القسيس، الحنين إلى كتالونيا، الطريق إلى رصيف ويجان، السقوط والتشرد فى باريس ولندن، أيام بورما، الخروج إلى المُتَنفس). وقد تبوأتْ أعماله مكانها اللائق فى مناهج الأدب الدراسيّة فى إنجلترا.
يعمل...
X