المحجوب فنان يتأمل الروح على أنغام نيو شعبية متجددة
"ليلة المحجوب" رحلة إبداعية تستلهم روح الماضي وتتجه صوب المستقبل.
السبت 2025/01/04
ShareWhatsAppTwitterFacebook
تجاوز حدود التراث دون التخلي عن جذوره
مزاوجة التراثي بالمعاصر والفنون ببعضها البعض تخلق نوعا من النسيج الذي قد يوفق في توليفة فنية مميزة وقد يخفق. سر التوفيق بين الأزمنة والجغرافيات والمناخات الفنية يكمن في الوعي العميق بجذورها، وبالتالي فهم مساحات التلاقي الممكنة، وهذا ما أتقنه الفنان المغربي الملقب بـ”المحجوب”.
في فضاء المركز الثقافي الأميركي بالدار البيضاء، مؤخرا، حيث تعانق الأضواء جدرانا مشبعة بحكايات من الماضي والحاضر، وقف "المحجوب"، أو حسن عبوقي، كمن ينسج وهجا جديدا في عالم يشتاق دائما للدهشة، عالم مشبع بالتغيير ومتعطش للتجديد، ومتطلع إلى إيقاعات بديلة تأخذه إلى الأفق الرحب بعيدا عن التوتر المتولد عن ضجيج الروتيني والمتكرر.
عرض "ليلة المحجوب" لم يكن مجرد احتفال بموسيقى عابرة أو لقاء بين أوتار وجمهور، بل كان إعلانا عن ولادة تجربة موسيقية تقف على تخوم الحداثة والتجريب، مشرعة أبوابها على المجهول. إنها مغامرة تجسد حلما بالكشف عن إمكانيات جديدة لصوت “الوتار”، هذا العتيق الذي يسبح عادة في مياه التراث، ليغدو اليوم مركبا يحمل روحا عابرة للحدود.
النيو شعبي
حين تتحدث الموسيقى، فإنها لا تعرف كلغة واحدة، وإنما تنطلق في اتجاهات تتلاقى فيها الأرواح، في تلك الإقامة الإبداعية بمدينة الصويرة، حيث اجتمع المحجوب مع خالد الريمو وعثمان الداخوس (بوجلالة) ومهدي بن إبراهيم، بدأ الحلم يتخذ شكلا، كأنهم باحثون في مختبر سري يبحثون عن معادلة مثالية تتناغم فيها الإيقاعات التقليدية مع أصداء الموسيقى المعاصرة. لم يكن الهدف تحرير آلة “الوتار” من جذورها، بل توسيع مساحتها التعبيرية، واختبار مدى قدرتها على محاورة آلات العالم وروحه.
وتحت قبة تلك الليلة، تحول المسرح إلى مختبر صوتي، وإلى معبد للبحث الجمالي والموسيقي، حيث لم تكن النغمات تُعزف، بل تُحكى. أصوات تتسرب عبر الوتار، ليست موسيقى فحسب، بل خطابا وجوديا يكسر الصمت بين الذات والآخر. وفي خضم هذا العرض، كانت النغمات كأنها شظايا من ضوء، كل واحدة تحمل ذكريات لأرض بعيدة أو لحن لم يُسمع من قبل. لقد بدا المحجوب كأنه شاعر بأصابع موسيقية، يلمس بها أفقا لم يخطر على البال.
يرتبط ذلك بمكانة ووضع آلة الوتر في التراث والثقافة بالمغرب. إذ ليست مجرد أداة موسيقية، بل حمّالة دلالات روحانية وثقافية عميقة، حيث تُعتبر جزءا من الطقوس والممارسات الصوفية في العديد من المناطق المغربية. يتمثل دورها الروحي في قدرتها على خلق حالات من التأمل والتركيز الروحي من خلال الإيقاعات والأنغام التي تنتجها، مما يجعلها وسيطا بين العوالم الحسية والميتافيزيقية.
إنها أكثر من آلة موسيقية، حيث تعمد إلى كسر تلك المسافات بين الهنا والهناك، بين الدنيوي والأخروي، بين الإنسان والله… لهذا تتحول في يد العازف الغيواني أو الغناوي أو الصوفي إلى ذريعة للاستحضار والحضور، الإحلال والاتحاد… وهي ثنائية لا تتحقق إلا عبر الجذب. وهنا تأتي لحسن بلقبه “المحجوب”، ذلك الذي يرتقي بالجذبة فيستريح بعد حالة “الوصل” و”الفناء”. وبتعبير مغاير، فـ”لا شيء غير النور والموسيقى – يقول المفكر المغربي موليم العروسي – يقدر على إخراج الأشياء من التحجب.”
المحجوب ومجموعته لا يعيدون غناء الكلمات والمقاطع والقصائد الشعبية القديمة، بل يبنون إلى جانبها إيقاعاتهم الجديدة
إن ما حدث في تلك الليلة كان أشبه برقصة بين التقاليد والحداثة، بين الذاكرة والنسيان. حين تندمج إيقاعات خالد الريمو، بعفويتها، مع أصداء قيثارة عثمان الداخوس، ثم تُكلل بنغمات جهورية لمهدي بن إبراهيم، نجد أنفسنا أمام بناء موسيقي حي، ينبض بالتناقض والتكامل معا. كانت الموسيقى تعيد ترتيب العالم، تضعنا أمام سؤال وجودي: هل يمكن لصوت واحد أن يحمل ثقافات متعددة دون أن يُفقد ذاته؟ في تلك الليلة، كان الجواب حاضرا، واضحا في انصهار الأنغام.
تجربة “ليلة المحجوب” ليست مجرد إعادة قراءة للموسيقى الشعبية، بل هي إعمال “التجربة” في حد ذاتها، محاولة لإعادة تعريف “الزمن الموسيقي” عبر تواشج بين الإيقاعات التراثية (العيطة، السواكن) والمعاصرة (الروك، الإلكترونيك). فهي لا تكتفي باستحضار الماضي أو مواكبة الحاضر، بل تطمح إلى خلق فضاء موسيقي جديد، حيث الزمن دائري، وكل نغمة فيه هي نقطة التقاء بين ما كان وما سيكون. هذه “التجربة” لا تخاطب الأذن فحسب، بل تتسلل إلى أعماق الذات، حيث تثير تساؤلات حول الهوية والانتماء، وحول إمكانية الحفاظ على الأصالة في عالم تهيمن عليه العولمة. حافظ المحجوب وأصدقاءه على روح الموسيقى التراثية، آخذين إياه إلى زمن ما بعدي، كاسرين الحدود بين ما كان وما سيكون، فلغة الموسيقى لا تقيم في الماضي، بل في الذي آت، أو في المستحيل القبض عليه..
لقد بدت تلك الليلة وكأنها مرآة تعكس ملامح الإنسان الجديد، الإنسان الذي لا يتردد في حمل تراثه بينما يركض نحو المستقبل. المحجوب ومجموعته الموسيقية كانوا كأنهم رُسُل لهذا الإنسان، يخبروننا أن الموسيقى ليست مجرد أصوات، بل تجربة وجودية تعبر بنا من الحاضر إلى عالم آخر.
وهكذا انتهت “ليلة المحجوب”، لكنها في الحقيقة لم تنته. تركت أصداءها في القلوب كأنها وعد بالمزيد من الأسئلة، بالمزيد من المغامرات. إنها ليلة تثبت أن الموسيقى ليست نهاية الكلام، بل بدايته.
تمركز الحدث على نقل الفن الشعبي، بعيدا عن فلكرته التلفزيونية، إلى مستوى مغاير، نوع من التجديد، “النيو شعبي”، حيث لا يكتفي المغني والموسيقي بتكرار الأنغام المكرسة، بل يعمد إلى تحطيم جدران المعابد الكهنوتية الموسيقية، دافعه في ذلك تقريب الثقافات وخلق جسور حضارية، فلا أحد يمتلك حقوقا مطلقة على لغة الموسيقى، ولا يهتدي الغناء إلى أي إيقاع ثابت.. فكل إبداع هو استحضار (من الحضرة صوفيا) وحضور (فلسفيا)، مما يترتب عنه نوع من الارتقاء (الجذب، الشطح) والغياب (ليس بالمعنى النقيض للحضور، لكن بمعناه الوجه الآخر للوجود).
مغامرة صعبة
ليست هذه التجربة مجرد أداء موسيقي، بل هي دعوة إلى التأمل في قدرة الموسيقى كوسيط ثقافي وروحي
لا يعيد المحجوب ومجموعته غناء الكلمات والمقاطع والقصائد الشعبية القديمة والتراثية، بل يبنون إلى جانب إيقاعاتهم الجديدة، لغة شعرية وقصائد معاصرة أسها المشترك الاتكاء على المتغير السريع الذي يؤطر عالم هنا والآن، والذي يتحول بدوره إلى “لامرئي” الذي يصوغ النص الغنائي التراثي (العيطة، غناوة…).. يقول في أحد مقاطعه الغنائية – الموسيقية “الكاتبة تنادي/ وأنا نادي/ ولي بغيت لك أنا إيجني/ الكاتبة تنادي /وأنا النادي/ ونجيك أنا على كفوف إيدي.”
وفي مقطع آخر يغني المحجوب “لا بد من الموت/ والرحيل ينادي/ الحوريات لابسين الخيبوري.”
تبرز ها هنا مغامرة صعبة، في المزاوجة بين التراثي والمعاصر.. كيف لآلة تقليدية أن تتناغم مع أخرى معاصرة؟ وكيف للكلمات المتأتية من الآن أن تشير روحانيا إلى ما كان وتظل محافظة على روح اليوم؟ تجيب الأصوات الصادحة والموسيقى المتسارعة والمتصارخة تارة والمهادنة تارة أخرى على هذه الإشكالية الفنية.
تتصاعد وتهبط الموسيقى لتترك للصوت الغنائي حضوره المدوي، حيث تلعب هذه التجربة المنتمية إلى ما نمسيه بـ”النيو شعبي”، على إحداث تناغم بين المقول والمسموع، وهو روح الغناء الشعبي التقليدي، لكن عبر تكامل وتطابق وتواز لا مساحات فارغة وبيضاء فيه بين لحظة العزف ولحظة الغناء.
عموما إن الموسيقى الناتجة عن آلة الوتر، ليست مجرد ألحان، بل تُعد وسيلة للتعبير الروحي. الإيقاعات المتكررة والمتصاعدة تُحدث حالة من التنويم المغناطيسي، ما يساهم في تحقيق الارتقاء الروحي. في الطقوس الصوفية مثل التي تُقام في الزوايا، يُستخدم الوتر لخلق بيئة مهيئة للتأمل الروحي، وغالبا ما يُرافقه الغناء التقليدي الذي يحمل معاني رمزية عميقة، وسرديات ومحكيات خاصة، تدفع المستمع إلى الدخول في حالة الحضور والحضرة معا.
تمثل تجربة المحجوب الموسيقية التي استُعرضت في “ليلة المحجوب” رحلة إبداعية تستلهم روح الماضي وتتجه صوب المستقبل. إنها محاولة لتجاوز حدود التراث دون التخلي عن جذوره، حيث استغرق المحجوب في إقامة فنية بمدينة الصويرة، برفقة موسيقيين موهوبين، لابتكار معزوفات تمزج بين الأبعاد الروحانية للوتر وإيقاعات عالمية. وما يجعل هذه التجربة فريدة هو السعي نحو خلق انسجام بين آلة الوتر وإيقاعات تتحدى تقاليدها، لتصبح صدى للانفتاح على الحاضر والارتباط بجوهر الروح الموسيقية المغربية.
ليست هذه التجربة مجرد أداء موسيقي، بل هي دعوة إلى التأمل في قدرة الموسيقى على أن تكون وسيطا ثقافيا وروحيا. المحجوب ومن معه لم يقدموا عرضا موسيقيا فقط، بل خلقوا مساحة زمنية ومكانية حيث يتحرر الإبداع من قيود الأنماط الجاهزة، ليصبح الوسيط بين تراث متجذر ورؤى موسيقية جديدة. إنها تجربة تتجاوز الأنغام لتطرح أسئلة حول ماهية الهوية الفنية ومدى قدرتها على التجدد والابتكار.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
"ليلة المحجوب" رحلة إبداعية تستلهم روح الماضي وتتجه صوب المستقبل.
السبت 2025/01/04
ShareWhatsAppTwitterFacebook
تجاوز حدود التراث دون التخلي عن جذوره
مزاوجة التراثي بالمعاصر والفنون ببعضها البعض تخلق نوعا من النسيج الذي قد يوفق في توليفة فنية مميزة وقد يخفق. سر التوفيق بين الأزمنة والجغرافيات والمناخات الفنية يكمن في الوعي العميق بجذورها، وبالتالي فهم مساحات التلاقي الممكنة، وهذا ما أتقنه الفنان المغربي الملقب بـ”المحجوب”.
في فضاء المركز الثقافي الأميركي بالدار البيضاء، مؤخرا، حيث تعانق الأضواء جدرانا مشبعة بحكايات من الماضي والحاضر، وقف "المحجوب"، أو حسن عبوقي، كمن ينسج وهجا جديدا في عالم يشتاق دائما للدهشة، عالم مشبع بالتغيير ومتعطش للتجديد، ومتطلع إلى إيقاعات بديلة تأخذه إلى الأفق الرحب بعيدا عن التوتر المتولد عن ضجيج الروتيني والمتكرر.
عرض "ليلة المحجوب" لم يكن مجرد احتفال بموسيقى عابرة أو لقاء بين أوتار وجمهور، بل كان إعلانا عن ولادة تجربة موسيقية تقف على تخوم الحداثة والتجريب، مشرعة أبوابها على المجهول. إنها مغامرة تجسد حلما بالكشف عن إمكانيات جديدة لصوت “الوتار”، هذا العتيق الذي يسبح عادة في مياه التراث، ليغدو اليوم مركبا يحمل روحا عابرة للحدود.
النيو شعبي
حين تتحدث الموسيقى، فإنها لا تعرف كلغة واحدة، وإنما تنطلق في اتجاهات تتلاقى فيها الأرواح، في تلك الإقامة الإبداعية بمدينة الصويرة، حيث اجتمع المحجوب مع خالد الريمو وعثمان الداخوس (بوجلالة) ومهدي بن إبراهيم، بدأ الحلم يتخذ شكلا، كأنهم باحثون في مختبر سري يبحثون عن معادلة مثالية تتناغم فيها الإيقاعات التقليدية مع أصداء الموسيقى المعاصرة. لم يكن الهدف تحرير آلة “الوتار” من جذورها، بل توسيع مساحتها التعبيرية، واختبار مدى قدرتها على محاورة آلات العالم وروحه.
وتحت قبة تلك الليلة، تحول المسرح إلى مختبر صوتي، وإلى معبد للبحث الجمالي والموسيقي، حيث لم تكن النغمات تُعزف، بل تُحكى. أصوات تتسرب عبر الوتار، ليست موسيقى فحسب، بل خطابا وجوديا يكسر الصمت بين الذات والآخر. وفي خضم هذا العرض، كانت النغمات كأنها شظايا من ضوء، كل واحدة تحمل ذكريات لأرض بعيدة أو لحن لم يُسمع من قبل. لقد بدا المحجوب كأنه شاعر بأصابع موسيقية، يلمس بها أفقا لم يخطر على البال.
يرتبط ذلك بمكانة ووضع آلة الوتر في التراث والثقافة بالمغرب. إذ ليست مجرد أداة موسيقية، بل حمّالة دلالات روحانية وثقافية عميقة، حيث تُعتبر جزءا من الطقوس والممارسات الصوفية في العديد من المناطق المغربية. يتمثل دورها الروحي في قدرتها على خلق حالات من التأمل والتركيز الروحي من خلال الإيقاعات والأنغام التي تنتجها، مما يجعلها وسيطا بين العوالم الحسية والميتافيزيقية.
إنها أكثر من آلة موسيقية، حيث تعمد إلى كسر تلك المسافات بين الهنا والهناك، بين الدنيوي والأخروي، بين الإنسان والله… لهذا تتحول في يد العازف الغيواني أو الغناوي أو الصوفي إلى ذريعة للاستحضار والحضور، الإحلال والاتحاد… وهي ثنائية لا تتحقق إلا عبر الجذب. وهنا تأتي لحسن بلقبه “المحجوب”، ذلك الذي يرتقي بالجذبة فيستريح بعد حالة “الوصل” و”الفناء”. وبتعبير مغاير، فـ”لا شيء غير النور والموسيقى – يقول المفكر المغربي موليم العروسي – يقدر على إخراج الأشياء من التحجب.”
المحجوب ومجموعته لا يعيدون غناء الكلمات والمقاطع والقصائد الشعبية القديمة، بل يبنون إلى جانبها إيقاعاتهم الجديدة
إن ما حدث في تلك الليلة كان أشبه برقصة بين التقاليد والحداثة، بين الذاكرة والنسيان. حين تندمج إيقاعات خالد الريمو، بعفويتها، مع أصداء قيثارة عثمان الداخوس، ثم تُكلل بنغمات جهورية لمهدي بن إبراهيم، نجد أنفسنا أمام بناء موسيقي حي، ينبض بالتناقض والتكامل معا. كانت الموسيقى تعيد ترتيب العالم، تضعنا أمام سؤال وجودي: هل يمكن لصوت واحد أن يحمل ثقافات متعددة دون أن يُفقد ذاته؟ في تلك الليلة، كان الجواب حاضرا، واضحا في انصهار الأنغام.
تجربة “ليلة المحجوب” ليست مجرد إعادة قراءة للموسيقى الشعبية، بل هي إعمال “التجربة” في حد ذاتها، محاولة لإعادة تعريف “الزمن الموسيقي” عبر تواشج بين الإيقاعات التراثية (العيطة، السواكن) والمعاصرة (الروك، الإلكترونيك). فهي لا تكتفي باستحضار الماضي أو مواكبة الحاضر، بل تطمح إلى خلق فضاء موسيقي جديد، حيث الزمن دائري، وكل نغمة فيه هي نقطة التقاء بين ما كان وما سيكون. هذه “التجربة” لا تخاطب الأذن فحسب، بل تتسلل إلى أعماق الذات، حيث تثير تساؤلات حول الهوية والانتماء، وحول إمكانية الحفاظ على الأصالة في عالم تهيمن عليه العولمة. حافظ المحجوب وأصدقاءه على روح الموسيقى التراثية، آخذين إياه إلى زمن ما بعدي، كاسرين الحدود بين ما كان وما سيكون، فلغة الموسيقى لا تقيم في الماضي، بل في الذي آت، أو في المستحيل القبض عليه..
لقد بدت تلك الليلة وكأنها مرآة تعكس ملامح الإنسان الجديد، الإنسان الذي لا يتردد في حمل تراثه بينما يركض نحو المستقبل. المحجوب ومجموعته الموسيقية كانوا كأنهم رُسُل لهذا الإنسان، يخبروننا أن الموسيقى ليست مجرد أصوات، بل تجربة وجودية تعبر بنا من الحاضر إلى عالم آخر.
وهكذا انتهت “ليلة المحجوب”، لكنها في الحقيقة لم تنته. تركت أصداءها في القلوب كأنها وعد بالمزيد من الأسئلة، بالمزيد من المغامرات. إنها ليلة تثبت أن الموسيقى ليست نهاية الكلام، بل بدايته.
تمركز الحدث على نقل الفن الشعبي، بعيدا عن فلكرته التلفزيونية، إلى مستوى مغاير، نوع من التجديد، “النيو شعبي”، حيث لا يكتفي المغني والموسيقي بتكرار الأنغام المكرسة، بل يعمد إلى تحطيم جدران المعابد الكهنوتية الموسيقية، دافعه في ذلك تقريب الثقافات وخلق جسور حضارية، فلا أحد يمتلك حقوقا مطلقة على لغة الموسيقى، ولا يهتدي الغناء إلى أي إيقاع ثابت.. فكل إبداع هو استحضار (من الحضرة صوفيا) وحضور (فلسفيا)، مما يترتب عنه نوع من الارتقاء (الجذب، الشطح) والغياب (ليس بالمعنى النقيض للحضور، لكن بمعناه الوجه الآخر للوجود).
مغامرة صعبة
ليست هذه التجربة مجرد أداء موسيقي، بل هي دعوة إلى التأمل في قدرة الموسيقى كوسيط ثقافي وروحي
لا يعيد المحجوب ومجموعته غناء الكلمات والمقاطع والقصائد الشعبية القديمة والتراثية، بل يبنون إلى جانب إيقاعاتهم الجديدة، لغة شعرية وقصائد معاصرة أسها المشترك الاتكاء على المتغير السريع الذي يؤطر عالم هنا والآن، والذي يتحول بدوره إلى “لامرئي” الذي يصوغ النص الغنائي التراثي (العيطة، غناوة…).. يقول في أحد مقاطعه الغنائية – الموسيقية “الكاتبة تنادي/ وأنا نادي/ ولي بغيت لك أنا إيجني/ الكاتبة تنادي /وأنا النادي/ ونجيك أنا على كفوف إيدي.”
وفي مقطع آخر يغني المحجوب “لا بد من الموت/ والرحيل ينادي/ الحوريات لابسين الخيبوري.”
تبرز ها هنا مغامرة صعبة، في المزاوجة بين التراثي والمعاصر.. كيف لآلة تقليدية أن تتناغم مع أخرى معاصرة؟ وكيف للكلمات المتأتية من الآن أن تشير روحانيا إلى ما كان وتظل محافظة على روح اليوم؟ تجيب الأصوات الصادحة والموسيقى المتسارعة والمتصارخة تارة والمهادنة تارة أخرى على هذه الإشكالية الفنية.
تتصاعد وتهبط الموسيقى لتترك للصوت الغنائي حضوره المدوي، حيث تلعب هذه التجربة المنتمية إلى ما نمسيه بـ”النيو شعبي”، على إحداث تناغم بين المقول والمسموع، وهو روح الغناء الشعبي التقليدي، لكن عبر تكامل وتطابق وتواز لا مساحات فارغة وبيضاء فيه بين لحظة العزف ولحظة الغناء.
عموما إن الموسيقى الناتجة عن آلة الوتر، ليست مجرد ألحان، بل تُعد وسيلة للتعبير الروحي. الإيقاعات المتكررة والمتصاعدة تُحدث حالة من التنويم المغناطيسي، ما يساهم في تحقيق الارتقاء الروحي. في الطقوس الصوفية مثل التي تُقام في الزوايا، يُستخدم الوتر لخلق بيئة مهيئة للتأمل الروحي، وغالبا ما يُرافقه الغناء التقليدي الذي يحمل معاني رمزية عميقة، وسرديات ومحكيات خاصة، تدفع المستمع إلى الدخول في حالة الحضور والحضرة معا.
تمثل تجربة المحجوب الموسيقية التي استُعرضت في “ليلة المحجوب” رحلة إبداعية تستلهم روح الماضي وتتجه صوب المستقبل. إنها محاولة لتجاوز حدود التراث دون التخلي عن جذوره، حيث استغرق المحجوب في إقامة فنية بمدينة الصويرة، برفقة موسيقيين موهوبين، لابتكار معزوفات تمزج بين الأبعاد الروحانية للوتر وإيقاعات عالمية. وما يجعل هذه التجربة فريدة هو السعي نحو خلق انسجام بين آلة الوتر وإيقاعات تتحدى تقاليدها، لتصبح صدى للانفتاح على الحاضر والارتباط بجوهر الروح الموسيقية المغربية.
ليست هذه التجربة مجرد أداء موسيقي، بل هي دعوة إلى التأمل في قدرة الموسيقى على أن تكون وسيطا ثقافيا وروحيا. المحجوب ومن معه لم يقدموا عرضا موسيقيا فقط، بل خلقوا مساحة زمنية ومكانية حيث يتحرر الإبداع من قيود الأنماط الجاهزة، ليصبح الوسيط بين تراث متجذر ورؤى موسيقية جديدة. إنها تجربة تتجاوز الأنغام لتطرح أسئلة حول ماهية الهوية الفنية ومدى قدرتها على التجدد والابتكار.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي