هل تصدّق بأن القمر يكون موجوداً فقط حين تنظر إليه؟
هناك خطوةٌ في تجربة شقّي يانغ نستطيع أن نقوم بها. لنفترض بأننا وضعنا جهازاً صغيراً بجانب أحد الشقين يفحص عدد الإلكترونات التي مرت بهذا الشق، بالطبع نتوقع بأننا إذا قمنا بالتجربة مجدداً بأن نرى نمط التداخل مرة أخرى على الشاشة، لكن هذا ليس ما يحدث! بل ما يحدث هو أن الإلكترونات تتجمع في تجمعان إثنان تماماً كما توقعنا في الحالة الكلاسيكية، أي عندها يمر كل من الإلكترونات من شق واحد فقط.
ما الذي يحدث هنا؟ كيف يغيّر الإلكترون تصرفه بمجرد أننا راقبنا من أي شقٍ يمر؟ أليس من المفروض أن عملية القياس هي عملية موضوعية نقيس بها ما يحدث في الواقع من غير أن نؤثر عليه؟
بحسب التفسير الأكثر شيوعاً لنظرية الكم والمسمى تفسير كوبنهاغن (هنالك عدد من الصيغ لهذا التفسير) −نسبة إلى عاصمة الدنمارك التي هي موطن نيلز بور وموقع معهده الشهير− تلك هي صفات أساسية لهذه النظرية: المجموعة التي تعيش في كل الإحتمالات الممكنة عندما لم نكن نقيسها، مثلاً عندما يمر الإلكترون من مكانين معاً في نفس الوقت، تقرر عندما نحاول قياسها بأنها تتبنى فقط إمكانيةً واحدة، هذه في الحقيقة من أغرب صفات نظرية الكم وتسمى "مشكلة القياس" (The Measurement Problem)، وهي تقول بأنّ عملية القياس في نظرية الكم تجبر المجموعة الفيزيائية على إختيار حالةٍ معينةٍ ومحددة، ومن دونها تعيش هذه المجموعة كل هذه الإحتمالات معاً، أي أن القياس يملي على الطبيعة كيف تتصرف!
قد يناقش البعض بأن هذا ليس بجديد! فكل عملية قياس، حتى في الفيزياء الكلاسيكية، تؤثر على المجموعة التي نقيسها وتحمل في طياتها خطأً معيناً، عادة ما يكون صغيراً. هذا صحيح، ولكن الفرق أنه في الفيزياء الكلاسيكية نستطيع مبدئياً على الأقل أن نحسب كيف ستؤثر عملية القياس على المجموعة بشكل حتمي. إضافةً إلى ذلك، الفيزياء الكلاسيكيّة تجزم بأن وضع المجموعة التي نقيسها هو نفس الوضع الذي نرصده بالتجربة، أي أن القياس التجريبي يعكس الواقع الموضوعي.
أما في فيزياء الكم، لا يمكن حساب خطأ القياس والتنبؤ به بشكل حتمي لا عملياً ولا مبدئياً، إضافةً إلى ذلك، فإنّ عملية القياس لا تعكس كل الواقع الموضوعي لوضع المجموعة بل تجبر الطبيعة على إختيار إحدى إمكانيات وجودها. أي أنها تفكك دالة الموجة إلى مركباتها (مجموعة الإمكانيات المتاحة أمام المجموعة) وتجبرها أن تختار إحداها. يعني هذا أن المراقب الذي يقيس المجموعة هو ليس مراقباً موضوعياً لواقعٍ موجود بمعزل عنه، بل هو مشارك في تحديد هذا الواقع!
يناقض هذا أحد الفرضيات العلمية الأساسية ويلقي بظلال الشك واللايقين على طبيعة الواقع الموضوعي، إن لم يكن على وجوده جملةً وتفصيلاً.
أثار هذا التصرف المذهل والغريب الذي قبله أتباع مدرسة كوبنهاغن حفيظة عدد من العلماء الكبار وعلى رأسهم أينشتاين، الذي كان أحد "أجداد" نظرية الكم، إذا صح التعبير، وإرفين شرودنغر، أحد آبائها المؤسسين.
لتوضيح عبثية مسألة القياس في نظرية الكم بحسب هذه المدرسة، تخيل إرفين #شرودنغر تجربةً ذهنيةً (Thought Experiment) مشهورةً تعرف بإسم تجربة "قطة شرودنغر" (Schrödinger’s Cat).
التجربة هي كما يلي: تخيل أنك وضعت قطةً في صندوق محكم ومغطى، وضعنا في الصندوق مع القطة زجاجة دقيقة من مادة السيانيد السامة، وعلبة بها مادة ذرية مشعة تطلق جسيماً واحداً كل ساعة بالمعدل، لا نستطيع أن نتنبأ متى بالضبط ستطلق المادة المشعة جسيماً، فقد يكون هذا بعد ساعة أو أقل أو أكثر، لكن عندما تطلق المادة المشعة الجسيم يؤدي هذا الجسيم إلى تشغيل مطرقة تكسر قارورة السم، وبالتالي إلى موت القطة. السؤال الذي سأله شرودنغر هو: بعد ساعة من الزمن هل القطة حية أم ميتة؟ وهذا السؤال أعقد مما يبدو، فقبل أن نفتح الصندوق لنفحص هناك إمكانيتان أمام المادة المشعة فإما أن تكون قد أطلقت جسيماً أو لا، لكن كل من الحالتين لها إسقاطات مختلفة على القطة فقبل إنطلاق الجسيم القطة حية ترزق وبعد إنطلاقه تصبح ميتة. لكن، وبحسب تفسير كوبنهاغن قبل القياس (أي فتح غطاء الصندوق) تكون المادة المشعة في الحالتين معاً، أي حالة بعد إطلاق الجسيم وبنفس الوقت في حالة قبل إطلاقه (تماماً كما يمر الإلكترون من الشقين معاً في تجربة يانغ)، إذاً حسب تفسير كوبنهاغن لنظرية الكم، تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت. سنكرر، لا تكون القطّة ميتة (أو) حية بحسب هذا التفسير، كما تقول الفيزياء الكلاسيكية، بل القطة حية (و) ميتة في نفس الوقت، لأن الحالتين متاحتين لها. هذا حتى نقوم بفحص الصندوق، عندها، وعندها فقط، تقرر المجموعة على أي من الحالتين ستستقر! وهذا بالطبع رفضه شرودنغر. لكن الأمور ليست بهذه السهولة إذ إن عملية القياس هي عملية كلاسيكة بجوهرها (تعطي معلومات محددة عن الواقع) والعلاقة بين عالم الكم الذي مسرحه أصغر الأبعاد والعالم الكلاسيكي الذي يقطن في عالم الأبعاد المعتادة لنا هي علاقة غير واضحة ويجب أن تدخل في محاولة تفسير مثل هذا الوضع.
دعا هذا الواقع الغريب الذي تمليه علينا بعض تفسيرات ميكانيكا الكم #أينشتاين أن يسأل أحد أترابه وهو أبراهام بييز (Abraham Pais) الذي كان من المؤمنين بتفسير كوبنهاغن لنظرية الكم حين كانا يتحدثان عن طبيعة الواقع: "أحقاً تعتقد بأن القمر يكون موجوداً فقط حين أنظر إليه؟"... وهو سؤال إفتراضي يعكس مدى هذا التعقيد الذي تفرضه علينا نظرية الكم حين نحاول أن نفهم طبيعة الواقع، وعلى هذا السؤال أجاب #بور: "مهما حاول أينشتاين فهو لن يستطيع إثبات وجود القمر حينما لا ينظر إليه".
يشبه سؤال أينشتاين هذا سؤال الفيلسوف الإنجليزي باركلي: "هل تُصدر شجرة إذا سقطت في غابة صوتاً إذا لم يكن هناك من يسمعها؟".
#علوم #العلم #فيزياء_الكم #ميكانيكا_الكم #نظرية_الكم #تفسير_كوبنهاغن #قطة_شرودنغر
هناك خطوةٌ في تجربة شقّي يانغ نستطيع أن نقوم بها. لنفترض بأننا وضعنا جهازاً صغيراً بجانب أحد الشقين يفحص عدد الإلكترونات التي مرت بهذا الشق، بالطبع نتوقع بأننا إذا قمنا بالتجربة مجدداً بأن نرى نمط التداخل مرة أخرى على الشاشة، لكن هذا ليس ما يحدث! بل ما يحدث هو أن الإلكترونات تتجمع في تجمعان إثنان تماماً كما توقعنا في الحالة الكلاسيكية، أي عندها يمر كل من الإلكترونات من شق واحد فقط.
ما الذي يحدث هنا؟ كيف يغيّر الإلكترون تصرفه بمجرد أننا راقبنا من أي شقٍ يمر؟ أليس من المفروض أن عملية القياس هي عملية موضوعية نقيس بها ما يحدث في الواقع من غير أن نؤثر عليه؟
بحسب التفسير الأكثر شيوعاً لنظرية الكم والمسمى تفسير كوبنهاغن (هنالك عدد من الصيغ لهذا التفسير) −نسبة إلى عاصمة الدنمارك التي هي موطن نيلز بور وموقع معهده الشهير− تلك هي صفات أساسية لهذه النظرية: المجموعة التي تعيش في كل الإحتمالات الممكنة عندما لم نكن نقيسها، مثلاً عندما يمر الإلكترون من مكانين معاً في نفس الوقت، تقرر عندما نحاول قياسها بأنها تتبنى فقط إمكانيةً واحدة، هذه في الحقيقة من أغرب صفات نظرية الكم وتسمى "مشكلة القياس" (The Measurement Problem)، وهي تقول بأنّ عملية القياس في نظرية الكم تجبر المجموعة الفيزيائية على إختيار حالةٍ معينةٍ ومحددة، ومن دونها تعيش هذه المجموعة كل هذه الإحتمالات معاً، أي أن القياس يملي على الطبيعة كيف تتصرف!
قد يناقش البعض بأن هذا ليس بجديد! فكل عملية قياس، حتى في الفيزياء الكلاسيكية، تؤثر على المجموعة التي نقيسها وتحمل في طياتها خطأً معيناً، عادة ما يكون صغيراً. هذا صحيح، ولكن الفرق أنه في الفيزياء الكلاسيكية نستطيع مبدئياً على الأقل أن نحسب كيف ستؤثر عملية القياس على المجموعة بشكل حتمي. إضافةً إلى ذلك، الفيزياء الكلاسيكيّة تجزم بأن وضع المجموعة التي نقيسها هو نفس الوضع الذي نرصده بالتجربة، أي أن القياس التجريبي يعكس الواقع الموضوعي.
أما في فيزياء الكم، لا يمكن حساب خطأ القياس والتنبؤ به بشكل حتمي لا عملياً ولا مبدئياً، إضافةً إلى ذلك، فإنّ عملية القياس لا تعكس كل الواقع الموضوعي لوضع المجموعة بل تجبر الطبيعة على إختيار إحدى إمكانيات وجودها. أي أنها تفكك دالة الموجة إلى مركباتها (مجموعة الإمكانيات المتاحة أمام المجموعة) وتجبرها أن تختار إحداها. يعني هذا أن المراقب الذي يقيس المجموعة هو ليس مراقباً موضوعياً لواقعٍ موجود بمعزل عنه، بل هو مشارك في تحديد هذا الواقع!
يناقض هذا أحد الفرضيات العلمية الأساسية ويلقي بظلال الشك واللايقين على طبيعة الواقع الموضوعي، إن لم يكن على وجوده جملةً وتفصيلاً.
أثار هذا التصرف المذهل والغريب الذي قبله أتباع مدرسة كوبنهاغن حفيظة عدد من العلماء الكبار وعلى رأسهم أينشتاين، الذي كان أحد "أجداد" نظرية الكم، إذا صح التعبير، وإرفين شرودنغر، أحد آبائها المؤسسين.
لتوضيح عبثية مسألة القياس في نظرية الكم بحسب هذه المدرسة، تخيل إرفين #شرودنغر تجربةً ذهنيةً (Thought Experiment) مشهورةً تعرف بإسم تجربة "قطة شرودنغر" (Schrödinger’s Cat).
التجربة هي كما يلي: تخيل أنك وضعت قطةً في صندوق محكم ومغطى، وضعنا في الصندوق مع القطة زجاجة دقيقة من مادة السيانيد السامة، وعلبة بها مادة ذرية مشعة تطلق جسيماً واحداً كل ساعة بالمعدل، لا نستطيع أن نتنبأ متى بالضبط ستطلق المادة المشعة جسيماً، فقد يكون هذا بعد ساعة أو أقل أو أكثر، لكن عندما تطلق المادة المشعة الجسيم يؤدي هذا الجسيم إلى تشغيل مطرقة تكسر قارورة السم، وبالتالي إلى موت القطة. السؤال الذي سأله شرودنغر هو: بعد ساعة من الزمن هل القطة حية أم ميتة؟ وهذا السؤال أعقد مما يبدو، فقبل أن نفتح الصندوق لنفحص هناك إمكانيتان أمام المادة المشعة فإما أن تكون قد أطلقت جسيماً أو لا، لكن كل من الحالتين لها إسقاطات مختلفة على القطة فقبل إنطلاق الجسيم القطة حية ترزق وبعد إنطلاقه تصبح ميتة. لكن، وبحسب تفسير كوبنهاغن قبل القياس (أي فتح غطاء الصندوق) تكون المادة المشعة في الحالتين معاً، أي حالة بعد إطلاق الجسيم وبنفس الوقت في حالة قبل إطلاقه (تماماً كما يمر الإلكترون من الشقين معاً في تجربة يانغ)، إذاً حسب تفسير كوبنهاغن لنظرية الكم، تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت. سنكرر، لا تكون القطّة ميتة (أو) حية بحسب هذا التفسير، كما تقول الفيزياء الكلاسيكية، بل القطة حية (و) ميتة في نفس الوقت، لأن الحالتين متاحتين لها. هذا حتى نقوم بفحص الصندوق، عندها، وعندها فقط، تقرر المجموعة على أي من الحالتين ستستقر! وهذا بالطبع رفضه شرودنغر. لكن الأمور ليست بهذه السهولة إذ إن عملية القياس هي عملية كلاسيكة بجوهرها (تعطي معلومات محددة عن الواقع) والعلاقة بين عالم الكم الذي مسرحه أصغر الأبعاد والعالم الكلاسيكي الذي يقطن في عالم الأبعاد المعتادة لنا هي علاقة غير واضحة ويجب أن تدخل في محاولة تفسير مثل هذا الوضع.
دعا هذا الواقع الغريب الذي تمليه علينا بعض تفسيرات ميكانيكا الكم #أينشتاين أن يسأل أحد أترابه وهو أبراهام بييز (Abraham Pais) الذي كان من المؤمنين بتفسير كوبنهاغن لنظرية الكم حين كانا يتحدثان عن طبيعة الواقع: "أحقاً تعتقد بأن القمر يكون موجوداً فقط حين أنظر إليه؟"... وهو سؤال إفتراضي يعكس مدى هذا التعقيد الذي تفرضه علينا نظرية الكم حين نحاول أن نفهم طبيعة الواقع، وعلى هذا السؤال أجاب #بور: "مهما حاول أينشتاين فهو لن يستطيع إثبات وجود القمر حينما لا ينظر إليه".
يشبه سؤال أينشتاين هذا سؤال الفيلسوف الإنجليزي باركلي: "هل تُصدر شجرة إذا سقطت في غابة صوتاً إذا لم يكن هناك من يسمعها؟".
#علوم #العلم #فيزياء_الكم #ميكانيكا_الكم #نظرية_الكم #تفسير_كوبنهاغن #قطة_شرودنغر