هل يمكن للمثقفين السوريين النزول من عالمهم البعيد
عالم الأحياء لا يحميه الموتى ومثقفونا اليوم أقرب إلى الأموات منهم إلى الأحياء فلا أثر لهم ولا صوت يسمع.
الأحد 2024/12/15
ShareWhatsAppTwitterFacebook
المثقفون منفصلون كليا عن الواقع (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي)
يشكل حديث المفكر السوري جادالكريم الجباعي حجر زاوية للوقوف على مسألة المثقف ودوره، وفرصة لتشريح الثورات العربية وأين هي من الحرية؟ والمدنية؟ ولماذا برزت الحالة المتدينة كحامل شعبي لهذه الثورات أو معظمها؟
واقع الحال أن تلك الركيزة وحدها لا تكفي، إذ تعاني بعض النواقص التي أصابت على ما يبدو معظم طروحات مثقفي سوريا على أقل تقدير، فرغم شمولية التحليل للجباعي إلا أنه أصر على اعتبار الدين وبروزه نتيجة لانحسار الثقافة فقط لا غير، وانحسار دور المثقف، الذي تقريبا أعطاه تبريرا لا يمكن قبوله، تبريرا يرتبط بالاستبداد وإنتاج هذا الأخير لمثقف السلطة. وبدوره، أي الاستبداد، ولد مثقفا معارضا ولكنه بشكل أو بآخر هو رد فعل على الحالة القائمة وليس حالة منفردة بذاتها أو مبنية على التطور الطبيعي للمثقف، الذي من واجبه دعم الشارع والعمل على ترجمة الأفكار الكبيرة بلغة مفهومة تجريبية.
من سرق الثورة؟
◄ مثقف السلطة عبد للتوجيهات المخابراتية والسياسية، وربما يكون مخبرا وعنصرا أمنيا أكثر منه شخصا قارئا لبعض السطور، وبات مثقف المعارضة أسيرا لتبعيته الثقافية المرضيّة
أصدق تصنيف لحال المثقف السوري المعارض جاء على لسان الجباعي، حيث قال “سألتني في بدايات الثورة السورية صبية، تعرف أنني معارض مر: لم لا نراك في المظاهرات والاعتصامات؟ فأجبتها ببساطة، لأنني أعتبر هذه الثورة ثورة عليَّ وعلى أبناء جيلي، وليس من حقي وحق أمثالي أن يركبوا موجها، فنحن مسؤولون عمّا وصلت إليه بلادنا من فقر وحرمان واستبداد وطغيان، ولاسيما من كانوا مثلي منخرطين في أحزاب أيديولوجية معارضة أو موالية، ولا فرق، أو مع فروق ضئيلة، لكي لا ننفي مبدأ الفرق والاختلاف.”
من هذا التعريف يمكن الوقوف مطولا أمام ما تبقى من إشكاليات تعاني منها الساحة السورية، فالواقع أن بعض الفئات المعارضة التقليدية لم تقم بدورها السياسي أبدا، وكانت كل التجارب برأي الجيل الشاب، وأقصد هنا جيل الثورة وما قبله بقليل أي جيل أوائل الثمانينات وأواخر السبعينات، عبارة عن عائق سد الطريق أمام نمو حركة سياسية ثورية معزولة عن الفعل ورد الفعل الذي لعبه النظام بذكاء لخلق معارضة على قياسه.
كانت الثورة السورية قادرة على خلق هذه الحركة السياسية وتبقى حاجتها إلى الجيل القديم في التوجيه والعناية لا التريس والسيادة وهو بيت القصيد، ولكن الواقع كما يعرف الجميع أن المعارضة التقليدية في الخارج والداخل شكلت حصونا يمكن وصفها بحمايات غير مباشرة للنظام السوري وحمايته من دماء جديدة كانت قادرة على تدميره وهزمه ودون الوصول إلى الحالة الإسلامية.
أود أن أكون واقعيا كثيرا في الحديث ومباشرا وتفصيليا ما أمكن، فلا يمكن النظر إلى مسألة المنظمات الإغاثية بعين الرضى أبدا أو منظمات المجتمع المدني ومنها رابطة المواطنة التي تمثل أبرز الظواهر تطورا بينها، فهذه المنظمات عملت على تعبئة الشارع الشاب وتحويله من النضال الثوري السياسي إلى العمل الإغاثي الذي كان من واجب فئة مختلفة من الشباب الذين لم يجدوا سبيلا للتمثيل السياسي فلجأوا إلى العمل الإغاثي الذي يمثل شكلا من المعارضة، لا لكونهم غير قادرين على العمل السياسي التنظيمي بل لفراغ الساحة السياسية من التشكيلات وانقطاع الدعم لمثل هذه المشاريع، ويمكن بجولة قصيرة على الأحزاب المعارضة التي ولدت حتى بعد الثورة أن تجد القيادات إما أبناء نظام سابقين أو معارضة تقليدية أو منشقين عن البعث وغيره من أحزاب السلطة.
◄ الواقع أن بعض الفئات المعارضة التقليدية لم تقم بدورها السياسي أبدا
إذن المسألة الإغاثية في الجانب السلمي للعمل الثوري في سوريا استنزفت طاقات شباب سوريا المعارضين، ولحق بها العمل الإعلامي ونقل الخبر والحرص على بث المظاهرات بدلا من الحرص على تحويل تلك المظاهرات إلى شكل من أشكال العمل المدني أو السياسي الفعلي، وأطرح مثالا على هذا العمل؛ ففي الشهر الخامس تقريبا من العام 2011 التقيت مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء ببعض وجهاء حوران ومنهم من كانوا على المفاوضات بين النظام والمعتصمين في الجامع العمري وطرحنا مسألة المجالس المحلية في اليوم الذي لم يكن أحد قد فكّر فيها. وجاء هذا الطرح بعد نقاش طويل مع عدد من الصحافيين السوريين المهتمين بالربيع العربي والذين كان لهم دور المراقبة لما جرى في كل البلدان التي سبقت سوريا، ولكن الوجهاء الذين لا يمكن تصنيفهم إلا على الجيل المضاد للثورة بطريقة عفوية بحسب تعبير الجباعي رفضوا الطرح جملة وتفصيلا.
ومن ثمة جاء العمل المسلح الذي استوعب أغلب الشباب المعارضين والذين يبحثون عن سبيل للتخلص من الظلم ولو بالعصا، فحملوا السلاح وتطور الموقف بعد انشقاق عدد من الضباط والعناصر عن جيش النظام، وهنا بدأت حملة البحث عن حامل أيديولوجي أو ثقافي للسلاح، فسلاح بلا رؤية قاطع طريق لا أكثر، ولم يكن إلا الحامل الإسلامي الكلاسيكي المتفق مع الإسلامي الجهادي الذي تطور رويدا رويدا ليكون وجه معظم التنظيمات القتالية المعارضة على الأرض السورية، ويبدو هذا أمرا طبيعيا بعد معرفة كل ما سبق ورفض عدد غير يسير من المثقفين في المعارضة تسليح الثورة، رغم أن الجميع كانوا يعلمون أنها تتجه إلى التسليح، ويبدو السبب في أنهم لا يملكون المقدرة على بناء حاضن ثقافي لهذا السلاح الثائر فكان الإسلام حاضرا بكل سرور.
هذا الموقف كان يوجب على المثقفين المعارضين الصمت نهائيا والتوقف عن التنظير السياسي والانسحاب من المشهد على الأقل تقديرا لفشلهم، أو تقديم حل يعالج المصاب قبل استفحال الإصابة وبلوغها حدا أعطى النظام قدرة التحكم في بعض مفاصل العمل المسلح الثوري على الأرض من خلال اختراقها بعناصره المخابراتية، وصولا إلى إنتاج الدولة الإسلامية في العراق والشام وجوقتها من التنظيمات المتطرفة.
عقدة النخبة
◄ رغم شمولية التحليل للجباعي إلا أنه أصر على اعتبار الدين وبروزه نتيجة لانحسار الثقافة فقط لا غير، وانحسار دور المثقف
يمكن وصف حالة الانفصال بين المثقف المعارض والشعب، بأنها وصلت حد التضخم فأصبحت النخبة في عالم بعيد عن الشعب، وهذا الانفصال موجود في كل المجتمعات، ولكنه في سوريا بات مرضيّا، فأصبحت كتابات المثقفين شديدة البعد عن الواقع وكأنهم يتحدثون، كما قال الجباعي، إلى شعب متخيل برأسهم لا وجود له واقعا، وبات المثقف المعارض تابعا لمثالياته الخاصة وأهوائه التي لا تنطبق على العالم الذي يحاول تطويعه ليطابق خاصته.
هنا يبرز مفهوم العبودية؛ فمثقف السلطة عبد للتوجيهات المخابراتية والسياسية، وربما يكون مخبرا وعنصرا أمنيا أكثر منه شخصا قارئا لبعض السطور، وبات مثقف المعارضة أسيرا لتبعيته الثقافية المرضيّة التي خلقت له عالمه الخاص البعيد بل والمعزول عن الواقع المعيش في سوريا.
فكيف للعبيد أن يحرروا العبيد؟ كيف لمثقف مستعبد لميوله الخاصة أو معارفه النظرية أن يحرر من هم تابعون سياسيا واقتصاديا لنظام سفاح أو لتنظيمات متطرفة؟ كيف له أن ينتج ثقافة تقاوم وتجابه المد الأصولي الطائفي والعرقي والمذهبي والديني وهو لا يملك إلا ذخيرة عفنة؟ كيف له أن يكون بلال الحبشي وهو المغرم بانتصارات خالد بن الوليد؟ كيف له أن يكون سبارتاكوس وهو المغرم بديمقراطية النخبة الرومانية؟ كيف لهم أن يدعوا الطريق للشباب السوريين كي يخرجوا من عباءتهم المظلمة وقمقم النظام الكارثي إلى عالم الحرية والعدالة؟ كيف يسمح المثقف لنفسه بأن يقرر في شيء لا يملك أمره؟
دعونا نُعد النظر في وعينا الذاتي والعام ونفتش عن مواقع الخلل وأين فشلنا؟ ولماذا؟ فعالم الأحياء لا يحميه الموتى ومثقفونا اليوم أقرب إلى الأموات منهم إلى الأحياء فلا أثر لهم ولا صوت يسمع، اللهم إلا على مستوى الجماعة المقربة، ولنكن صادقين مع ذاتنا قبل كل شيء، هل نستحق الحرية؟ هل جاهدنا لأجلها؟ هل نؤمن بها فعلا لا رد فعل؟
• ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية اللندنية
ShareWhatsAppTwitterFacebook
جابر بكر
عالم الأحياء لا يحميه الموتى ومثقفونا اليوم أقرب إلى الأموات منهم إلى الأحياء فلا أثر لهم ولا صوت يسمع.
الأحد 2024/12/15
ShareWhatsAppTwitterFacebook
المثقفون منفصلون كليا عن الواقع (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي)
يشكل حديث المفكر السوري جادالكريم الجباعي حجر زاوية للوقوف على مسألة المثقف ودوره، وفرصة لتشريح الثورات العربية وأين هي من الحرية؟ والمدنية؟ ولماذا برزت الحالة المتدينة كحامل شعبي لهذه الثورات أو معظمها؟
واقع الحال أن تلك الركيزة وحدها لا تكفي، إذ تعاني بعض النواقص التي أصابت على ما يبدو معظم طروحات مثقفي سوريا على أقل تقدير، فرغم شمولية التحليل للجباعي إلا أنه أصر على اعتبار الدين وبروزه نتيجة لانحسار الثقافة فقط لا غير، وانحسار دور المثقف، الذي تقريبا أعطاه تبريرا لا يمكن قبوله، تبريرا يرتبط بالاستبداد وإنتاج هذا الأخير لمثقف السلطة. وبدوره، أي الاستبداد، ولد مثقفا معارضا ولكنه بشكل أو بآخر هو رد فعل على الحالة القائمة وليس حالة منفردة بذاتها أو مبنية على التطور الطبيعي للمثقف، الذي من واجبه دعم الشارع والعمل على ترجمة الأفكار الكبيرة بلغة مفهومة تجريبية.
من سرق الثورة؟
◄ مثقف السلطة عبد للتوجيهات المخابراتية والسياسية، وربما يكون مخبرا وعنصرا أمنيا أكثر منه شخصا قارئا لبعض السطور، وبات مثقف المعارضة أسيرا لتبعيته الثقافية المرضيّة
أصدق تصنيف لحال المثقف السوري المعارض جاء على لسان الجباعي، حيث قال “سألتني في بدايات الثورة السورية صبية، تعرف أنني معارض مر: لم لا نراك في المظاهرات والاعتصامات؟ فأجبتها ببساطة، لأنني أعتبر هذه الثورة ثورة عليَّ وعلى أبناء جيلي، وليس من حقي وحق أمثالي أن يركبوا موجها، فنحن مسؤولون عمّا وصلت إليه بلادنا من فقر وحرمان واستبداد وطغيان، ولاسيما من كانوا مثلي منخرطين في أحزاب أيديولوجية معارضة أو موالية، ولا فرق، أو مع فروق ضئيلة، لكي لا ننفي مبدأ الفرق والاختلاف.”
من هذا التعريف يمكن الوقوف مطولا أمام ما تبقى من إشكاليات تعاني منها الساحة السورية، فالواقع أن بعض الفئات المعارضة التقليدية لم تقم بدورها السياسي أبدا، وكانت كل التجارب برأي الجيل الشاب، وأقصد هنا جيل الثورة وما قبله بقليل أي جيل أوائل الثمانينات وأواخر السبعينات، عبارة عن عائق سد الطريق أمام نمو حركة سياسية ثورية معزولة عن الفعل ورد الفعل الذي لعبه النظام بذكاء لخلق معارضة على قياسه.
كانت الثورة السورية قادرة على خلق هذه الحركة السياسية وتبقى حاجتها إلى الجيل القديم في التوجيه والعناية لا التريس والسيادة وهو بيت القصيد، ولكن الواقع كما يعرف الجميع أن المعارضة التقليدية في الخارج والداخل شكلت حصونا يمكن وصفها بحمايات غير مباشرة للنظام السوري وحمايته من دماء جديدة كانت قادرة على تدميره وهزمه ودون الوصول إلى الحالة الإسلامية.
أود أن أكون واقعيا كثيرا في الحديث ومباشرا وتفصيليا ما أمكن، فلا يمكن النظر إلى مسألة المنظمات الإغاثية بعين الرضى أبدا أو منظمات المجتمع المدني ومنها رابطة المواطنة التي تمثل أبرز الظواهر تطورا بينها، فهذه المنظمات عملت على تعبئة الشارع الشاب وتحويله من النضال الثوري السياسي إلى العمل الإغاثي الذي كان من واجب فئة مختلفة من الشباب الذين لم يجدوا سبيلا للتمثيل السياسي فلجأوا إلى العمل الإغاثي الذي يمثل شكلا من المعارضة، لا لكونهم غير قادرين على العمل السياسي التنظيمي بل لفراغ الساحة السياسية من التشكيلات وانقطاع الدعم لمثل هذه المشاريع، ويمكن بجولة قصيرة على الأحزاب المعارضة التي ولدت حتى بعد الثورة أن تجد القيادات إما أبناء نظام سابقين أو معارضة تقليدية أو منشقين عن البعث وغيره من أحزاب السلطة.
◄ الواقع أن بعض الفئات المعارضة التقليدية لم تقم بدورها السياسي أبدا
إذن المسألة الإغاثية في الجانب السلمي للعمل الثوري في سوريا استنزفت طاقات شباب سوريا المعارضين، ولحق بها العمل الإعلامي ونقل الخبر والحرص على بث المظاهرات بدلا من الحرص على تحويل تلك المظاهرات إلى شكل من أشكال العمل المدني أو السياسي الفعلي، وأطرح مثالا على هذا العمل؛ ففي الشهر الخامس تقريبا من العام 2011 التقيت مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء ببعض وجهاء حوران ومنهم من كانوا على المفاوضات بين النظام والمعتصمين في الجامع العمري وطرحنا مسألة المجالس المحلية في اليوم الذي لم يكن أحد قد فكّر فيها. وجاء هذا الطرح بعد نقاش طويل مع عدد من الصحافيين السوريين المهتمين بالربيع العربي والذين كان لهم دور المراقبة لما جرى في كل البلدان التي سبقت سوريا، ولكن الوجهاء الذين لا يمكن تصنيفهم إلا على الجيل المضاد للثورة بطريقة عفوية بحسب تعبير الجباعي رفضوا الطرح جملة وتفصيلا.
ومن ثمة جاء العمل المسلح الذي استوعب أغلب الشباب المعارضين والذين يبحثون عن سبيل للتخلص من الظلم ولو بالعصا، فحملوا السلاح وتطور الموقف بعد انشقاق عدد من الضباط والعناصر عن جيش النظام، وهنا بدأت حملة البحث عن حامل أيديولوجي أو ثقافي للسلاح، فسلاح بلا رؤية قاطع طريق لا أكثر، ولم يكن إلا الحامل الإسلامي الكلاسيكي المتفق مع الإسلامي الجهادي الذي تطور رويدا رويدا ليكون وجه معظم التنظيمات القتالية المعارضة على الأرض السورية، ويبدو هذا أمرا طبيعيا بعد معرفة كل ما سبق ورفض عدد غير يسير من المثقفين في المعارضة تسليح الثورة، رغم أن الجميع كانوا يعلمون أنها تتجه إلى التسليح، ويبدو السبب في أنهم لا يملكون المقدرة على بناء حاضن ثقافي لهذا السلاح الثائر فكان الإسلام حاضرا بكل سرور.
هذا الموقف كان يوجب على المثقفين المعارضين الصمت نهائيا والتوقف عن التنظير السياسي والانسحاب من المشهد على الأقل تقديرا لفشلهم، أو تقديم حل يعالج المصاب قبل استفحال الإصابة وبلوغها حدا أعطى النظام قدرة التحكم في بعض مفاصل العمل المسلح الثوري على الأرض من خلال اختراقها بعناصره المخابراتية، وصولا إلى إنتاج الدولة الإسلامية في العراق والشام وجوقتها من التنظيمات المتطرفة.
عقدة النخبة
◄ رغم شمولية التحليل للجباعي إلا أنه أصر على اعتبار الدين وبروزه نتيجة لانحسار الثقافة فقط لا غير، وانحسار دور المثقف
يمكن وصف حالة الانفصال بين المثقف المعارض والشعب، بأنها وصلت حد التضخم فأصبحت النخبة في عالم بعيد عن الشعب، وهذا الانفصال موجود في كل المجتمعات، ولكنه في سوريا بات مرضيّا، فأصبحت كتابات المثقفين شديدة البعد عن الواقع وكأنهم يتحدثون، كما قال الجباعي، إلى شعب متخيل برأسهم لا وجود له واقعا، وبات المثقف المعارض تابعا لمثالياته الخاصة وأهوائه التي لا تنطبق على العالم الذي يحاول تطويعه ليطابق خاصته.
هنا يبرز مفهوم العبودية؛ فمثقف السلطة عبد للتوجيهات المخابراتية والسياسية، وربما يكون مخبرا وعنصرا أمنيا أكثر منه شخصا قارئا لبعض السطور، وبات مثقف المعارضة أسيرا لتبعيته الثقافية المرضيّة التي خلقت له عالمه الخاص البعيد بل والمعزول عن الواقع المعيش في سوريا.
فكيف للعبيد أن يحرروا العبيد؟ كيف لمثقف مستعبد لميوله الخاصة أو معارفه النظرية أن يحرر من هم تابعون سياسيا واقتصاديا لنظام سفاح أو لتنظيمات متطرفة؟ كيف له أن ينتج ثقافة تقاوم وتجابه المد الأصولي الطائفي والعرقي والمذهبي والديني وهو لا يملك إلا ذخيرة عفنة؟ كيف له أن يكون بلال الحبشي وهو المغرم بانتصارات خالد بن الوليد؟ كيف له أن يكون سبارتاكوس وهو المغرم بديمقراطية النخبة الرومانية؟ كيف لهم أن يدعوا الطريق للشباب السوريين كي يخرجوا من عباءتهم المظلمة وقمقم النظام الكارثي إلى عالم الحرية والعدالة؟ كيف يسمح المثقف لنفسه بأن يقرر في شيء لا يملك أمره؟
دعونا نُعد النظر في وعينا الذاتي والعام ونفتش عن مواقع الخلل وأين فشلنا؟ ولماذا؟ فعالم الأحياء لا يحميه الموتى ومثقفونا اليوم أقرب إلى الأموات منهم إلى الأحياء فلا أثر لهم ولا صوت يسمع، اللهم إلا على مستوى الجماعة المقربة، ولنكن صادقين مع ذاتنا قبل كل شيء، هل نستحق الحرية؟ هل جاهدنا لأجلها؟ هل نؤمن بها فعلا لا رد فعل؟
• ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية اللندنية
ShareWhatsAppTwitterFacebook
جابر بكر