« البؤرة « رواية قصيرة للكاتبة والشاعرة الروسية البارزة :ماريا ستيبانوفا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • « البؤرة « رواية قصيرة للكاتبة والشاعرة الروسية البارزة :ماريا ستيبانوفا


    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	Screenshot_٢٠٢٤١٢١٥-٠٢١١٠٦_Chrome.jpg 
مشاهدات:	1 
الحجم:	22.5 كيلوبايت 
الهوية:	248783
    رواية البؤرة: الهروب من الذات والتحرر من شظايا الماضي

    10 - ديسمبر - 2024م

    جودت هوشيار
    القدس العربي

    « البؤرة « رواية قصيرة للكاتبة والشاعرة الروسية البارزة ماريا ستيبانوفا نُشرت حديثاً باللغات الروسية والإنكليزية والألمانية والسويدية والبرتغالية والأرمنية في آن واحد. اكتسبت ستيبانوفا شهرة واسعة بعد صدور روايتها الوثائقية ـ الفلسفية «في ذاكرة الذاكرة» عام 2017، التي مست وتراً حساساً لدى الكثيرين وعبّرت عن شيء طال انتظاره، وترجمت إلى معظم اللغات الأوروبية، وحازت عدة جوائز أدبية روسية ودولية مرموقة، منها جائزة «الكتاب الكبير» وهي بمنزلة جائزة الدولة التقديرية في روسيا. وجائزة «موليير» الفرنسية كأفضل كتاب أجنبي مترجم. وكانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية. وقد وضعت صحيفة «الغارديان» ستيبانوفا في مصاف الحائزتين على جائزة نوبل أولغا توكارتشوك وسفيتلانا ألكسيفيتش. تختلف « البؤرة « بشكل كبير في الأسلوب والرؤية الفنية للمؤلفة عن روايتها السابقة «في ذاكرة الذاكرة».
    «البؤرة « من أوائل الأعمال الروائية عن الحرب الروسية – الأوكرانية وموجة الهجرة الجديدة للكتّاب والشعراء والفنانين الروس إلى الشتات الأوروبي، وقد نشرت في الوقت المناسب. ومرتبطة بشكل مباشر بالأحداث التي تجري داخل وخارج روسيا بعد 24 فبراير/شباط 2022.
    تتحدث ستيبانوفا من خلال بطلة الرواية الكاتبة الروسية المهاجرة (م) عن تجربة الهجرة، وتحاول إعادة بناء ذاتها في ظروف حياة جديدة. سعت الكاتبة إلى تحييد السرد بشكل تام وطمس هوية البطلة. تدور أحداث الرواية في صيف 2023، وهو أمر مهم لأن أحداث الخلفية حقيقية للغاية ويمكن التعرف عليها. الشخصية الرئيسية (م) تعيش في بلد أوروبي (غير مسمى، لكن من السهل تخمينه، وكذلك بلدها الأصلي).
    هناك شيء سيئ يحدث في بلدها. لم تكتب (م) شيئًا منذ فترة، لأنها لا تثق حقًا بلغتها الأم. هذه اللغة اندمجت بالعنف: أولئك الذين يتحدثونها يقتلون الآخرين – غالبا أولئك الذين يتحدثون اللغة نفسها. ومع ذلك، فإن عملها الرئيسي هو الكتابة.
    تقوم خلال إقامتها في أوروبا بأنشطتها المهنية والعديد من الرحلات. في بداية الرواية تسافر من المدينة الأوروبية التي تعيش فيها إلى أخرى لحضور مهرجان أدبي، لتقول شيئا عن البلد – الذي اضطرت إلى مغادرته – وأدبه. ولكن حدث خطأ ما: لم يصل القطار الذي من المفترض أن تستقله بسبب إضراب منتسبي السكك الحديد، ولم تصل سيارة الأجرة التي وعد بها منظمو المهرجان، واضطرت إلى البقاء في بلدة عبور صغيرة.
    يكشف النص بسهولة عن السياق السياسي الفرعي وقرب البطلة من المؤلفة. كانت (م) كاتبة في السابق وغادرت البلاد، التي تخوض حالياً، حربا مع دولة أخرى مجاورة. تحافظ ستيبانوفا على مسافة بينها وبين البطلة. تتخذ موقف المراقب: تسجل أفكار (م) ومشاعرها، وتنقل حالتها.
    هذا يسمح للقراء بالتواصل مع البطلة على نحو أفضل، حيث أن تجاربها وخبراتها قريبة من تجربة المهاجرين الروس الجدد الآخرين. لقد سافرت المهاجرة الجديدة (م). إلى مدن ودول أخرى للعمل لفترات طويلة في حياتها الماضية، ولا يخيفها الترحال في حد ذاته، لكن المخيف هو أنها هذه المرة لا تستطيع العثور على الكلمات المناسبة لوصف كل هذا. لقد أصبح من المستحيل الآن التحدث عن «بلدها» – وهذا يتطلب من (م) والمؤلفة نفسها استخدام بعض الكلمات الجديدة في ترتيب جديد، لأن ما يحدث لا يزال غير قابل للوصف. فقدت (م) الحس الذاتي ويبدو أن كل القرارات تتخذ نيابة عنها من قبل آخرين؛ فهي لا تستطيع إلا اختيار شطيرة وكوب من القهوة في كشك المحطة. ولا تعرف ماذا ستفعل. إن مصيرها الفردي، وهويتها، وحتى اللغة التي فكرت وكتبت بها، تجاوزت نطاق حياتها وأصبحت جزءاً من عملية أكبر لم تخطط لتكون قطعة فيها.
    بالنسبة إلى (م)، التي فقدت هويتها ولكنها لا تزال لا تعرف ماذا تفعل بنفسها، فإن احتمال تجربة الموت الرمزي من خلال خدعة النشر في التابوت يبدو جذاباً. تحاول فصل نفسها عن ذاتها السابقة، كما لو كانت شبحاً لا مكان له في الواقع الجديد. ولكن ماذا سيبقى منها في هذه الحالة؟ هنا تتذكر البطلة ما قرأته من قبل: فهي تتذكر قصة عالم لغوي فقد لغته وابتعد إلى الأبد عن الحضارة (حتى عندما سنحت له الفرصة للعودة إلى بيئته المألوفة)، ومغامرات من كتاب للأطفال، حيث تهرب فتاة فرنسية صغيرة من المدرسة الداخلية وتسافر مع سيرك متنقل. (م) مثل الأبطال الذين قرأت عنهم، تريد الهروب من المشكلة، لكنها تدرك أن هذا ليس خياراً. وهي تواجهنا بضرورة فهم ما مررنا به، قبل البحث عن فرصة لبدء العيش من جديد. لا توجد أسماء دول في هذا النص: ولم يذكر اسم روسيا أو أوكرانيا أو ألمانيا حتى مرة واحدة، فقط «التي هاجمت»، و«التي تعرضت للهجوم»، وأيضا «التي ذهبت إليها البطلة». بالطبع، تكتب ستيبانوفا عما تعرفه أكثر. ليس من قبيل المصادفة أن تذهب (م) إلى المهرجان الأدبي، حيث من المفترض أن تتحدث عن أعمالها، ولكن يبدو أن الصعوبات والتوقفات على طول الطريق تتحدث أيضاً عن عدم إمكانية الوصول إلى الثقافة اليوم. وتستنتج المؤلفة أن الأشخاص الضائعين يجب أن يستجمعوا قواهم لمواصلة الحياة. تمنحنا رواية ستيبانوفا الأمل. فالأمر الرئيسي هو التفكير، حتى لو كان ذلك مؤلماً ولا ينجح دائماً. هذه القدرة فقط هي التي ستنقذنا من موقف كارثي : يكفي أن ننظر إلى الأمر من الخارج ونحاول مساعدة أنفسنا والآخرين.

    أوتوفيكشن:

    عندما نقرأ كتاباً من هذا النوع، فإننا لا نعرف إلى أي مدى تكون السيرة الذاتية التي يقدمها لنا المؤلف حقيقيةً. تلمح ستيبانوفا نفسها، وهي مهاجرة، مثل بطلتها، إلى أن صورتها الذاتية ليست وثائقية تماما (على سبيل المثال، لا تنشر (م) على عكس المؤلفة نفسها، أي شيء على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنها تحلم بكلب، بينما لدى ستيبانوفا نفسها كلب).
    تنتمي « البؤرة» إلى النوع الروائي المسمى» أوتوفيكشن ـ الخيال الذاتي» الذي تتقاطع فيه السيرة الذاتية للروائي مع الخيال عند استخدام عناصر السيرة الذاتية مثل اليوميات، والمذكرات، والمقالات والنثر الوثائقي في النص الروائي. الواقع الجديد للبطلة موصوف بعمق نفسي. تساعد في ذلك التجربة الفريدة للمؤلفة – السفر حول العالم ورؤية كل شيء بأم عينيها. علاوة على ذلك، مع تقدم السرد، تتحول الرواية إلى خيال محض، ويتبين أن المنطق الفني أكثر أهمية. ما يؤدي إلى نهاية غير متوقعة تماما.

    حصار لغوي:

    اللغة بالنسبة للكاتب والشاعر هي أداة ووسيلة للتعبير عن رؤيته وتجاربه الخاصة، والفن يجعل من الممكن اكتشاف الطاقة الحية النابضة في اللغة وقواها السحرية، لذلك، فإن الكلمة في النص الأدبي تنطوي على مسؤولية خاصة، يدفع الكاتب ثمن كلماته أحياناً من أعصابه ومصيره. تتميز رواية ستيبانوفا بثرائها الأدبي الكثيف، المليء بالتلميحات والإشارات إلى مجموعة متنوعة من النصوص: من حكايات الفروسية والروايات الرومانسية إلى النثر الحديث، إذا أضفنا إلى ذلك، دقة الوصف والرؤية الثاقبة والتعامل الحر غير المقيد مع اللغة، فإن ثراء النسيج الفني يصبح واضحاً. تبدو الشخصية الرئيسية في رواية «البؤرة» محاصرة بين اللغات الأجنبية ولهجاتها، فهي قلقة وخائفة من التحدث بلغتها الأم، وتتجنب الكشف عن نفسها، لذا فهي تفضل التحدث بالإنكليزية المحايدة، رغم أن الرواية مكتوبة باللغة الروسية. وهذا هو الرعب الرئيسي والهزيمة الرئيسية. لأنه من دون لغة من المستحيل أن تكون كاتباً.
    إن إحدى طرق التخلص من الخجل والعار، ومن المسؤولية المفروضة والمحسوسة في النفس هي الهروب. وفي حالة (م) فإن هذا هروب من نفسها، من ذاتها السابقة، من ذاتها ككاتبة، من كل ما كان يشكل في السابق معنى الحياة ومحتواها بالنسبة إليها. وهذا تغيير في التعريف الذاتي، وتغيير في الاسم. الأمر لا يتعلق فقط بالهروب والخلاص، بل بمحاولة ولادة جديدة.

    من أجواء الرواية

    كانت المدينة الأجنبية التي تعيش فيها (م) الآن مليئة بالأشخاص الذين فروا من كلا البلدين المتحاربين – وأولئك الذين تعرضوا لهجوم من قبل مواطنيها نظروا إلى جيرانهم السابقين برعب وشك، وكأن الحياة السابقة قبل الحرب، مهما كانت، لم تعد تعني شيئاً، بل تخفي فقط علاقتك بالوحش الذي يواصل الأكل. أراد العديد من السكان المحليين معرفة المزيد عن الوحش، ليس فقط لحماية أنفسهم من فمه المثير للاشمئزاز، ولكن أيضاً لأن الحيوانات المفترسة الكبيرة تثير فضولنا دائما ـ نحن العاشبين ـ الذين نجد صعوبة في شرح من أين يأتي العنف وكيف يعمل.
    سألوا الكاتبة (م) عن عاداتها بتعاطف شديد، كما لو أنها أيضاً تعرضت للعض وحتى القضم جزئياً، وظلت بالصدفة مستلقية على العشب سليمة نسبياً. أراد البعض أن يفهم كيف أن الوحش لم يُقتل بعد أو يأكل نفسه في جشعه الذي لا يمكن كبته، وألمحوا إلى أن (م) والأشخاص الذين تعرفهم في بلدها كان ينبغي عليهم اتخاذ التدابير في الوقت المناسب قبل وقت طويل من نموه وبدئه في التهام كل من يراه. وافقت (م) تماما على هذا، لكنها واجهت بعض الصعوبة في شرح الأمر لمحاوريها بأن طبيعة الوحش ذاتها تجعل من الصعب اصطياده أو قتاله. كان بإمكانها أن تقول إن الوحش لم يكن أمامي أو خلفي، بل كان دائما حولي إلى الحد الذي استغرق مني سنوات لأدرك أنني أعيش داخل الوحش، وربما وُلدت فيه. وتابعت بصمت، هل تتذكرون الحكاية الخيالية، حيث يجلس الرجل العجوز والصبي الخشبي مع شمعة من الشحم داخل الوحش البحري؟ ربما تسببوا له في بعض المتاعب، مثل القفز لأعلى ولأسفل في بطنه، أو حتى إشعال النار فيه.
    ولكن الحقيقة هي أن التفاوت في الحجم يمنعك من إلحاق أي ضرر حقيقي بالوحش، ناهيك عن وضع حد له؛ كل ما يمكنك أن تأمله هو أن يبدأ يوماً ما في التقيؤ، وأن تجد نفسك خارجه، دون أن تعرف كيف، ولأول مرة تكون قادراً على الرؤية بوضوح وتعرف أن الغرفة التي قضيت فيها سنوات عديدة كانت في الواقع بطناً. وقد تبين أنني كنت جزءاً من الوحش، وإن تم ابتلاعي مصادفة أو كبرت بالخطأ. أنا أفهم جيدا أن هذا يجعل تجربتي معيبة والقصة غير ذات مصداقية. ولكن إذا لزم الأمر، فأنا على استعداد لتقديم وصف للأجزاء الداخلية للمخلوق الذي جئت منه مؤخرا إلى اليابسة.

    ٭ كاتب عراقي
يعمل...
X