منقولاتالخيط الرفيع بين الرسم والكتابة
ترجمة لحوار بين الفنان التشكيلي علي بني صدر، والروائي التركي أورهان باموق، عن العلاقة المتداخلة بين الرسم والكتابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أول كتاب قرأته لأورهان باموق كان "اسمي أحمر". كان ذلك في ليلة رأس السنة عندما فتحت الكتاب للمرة الأولى. كنت في كاليفورنيا أزور والدتي، التي كانت ستذهب إلى منزل عمي في تلك الليلة. كان من المفترض أن أرافقها، لكنني فضلت البقاء في المنزل وقراءة الكتاب، غارقًا في العالم الذي بناه باموق. بعد تلك التجربة، أصبحت شغوفًا بكتبه، وقرأت كل ما تمكنت من الحصول عليه من تلك الكتب.
يرى باموق العالم بعين رسام، وهذا منطقي بالنظر إلى خلفيته. فالرسام يحتاج إلى وقت لدراسة موضوعه، لتفكيكه وإعادة تركيبه وترتيبه تدريجيًا. شعرت أن أسلوب باموق في الكتابة يشبه ذلك تمامًا، هو دائم الملاحظة، دائم التساؤل، ودائم إعادة ترتيب الأمور حتى تكتسب معنى جديدًا. تعكس كتاباته مزيجًا رائعًا من الأفكار والعواطف والتاريخ الذي يلامسني بعمق.
في عام 2014، كنت في باريس لبضعة أيام، ودعاني الموزع الفني الخاص بي، ثاديوس روباتش، إلى عشاء. قال إنه سيكون هناك مجموعة صغيرة من الأصدقاء، لكنه لم يخبرني بالضبط من سيكون موجودًا. عندما وصلت، وجدت نفسي جالسًا بين أنسليم كييفر (فنان أعجبت به لسنوات) وأورهان باموق.
اللقاء التالي مع باموق كان في شباط/فبراير 2020، قبيل إغلاق العالم بسبب جائحة كورونا، في مكتبة مورغان في نيويورك، حيث جمعتنا صدفة غير متوقعة في المعرض نفسه الذي يحتفي بالمعماري الرؤيوي جان-جاك ليكو. كانت القاعات شبه فارغة، مما أضفى طابعًا خاصًا على تلك اللحظة، بينما كنا نتجول معًا بين الأعمال الفنية. كان ذلك آخر معرض حضرته قبل أن تُفرض القيود، لتظل هذه الذكرى حاضرة وتحمل أهمية استثنائية في ذاكرتي.
كان من دواعي سروري أن أتحدث مع باموق مجددًا، هذه المرة بمناسبة إصدار كتابه الجديد "ذكريات الجبال البعيدة: دفاتر ملاحظات مصورة، 2009-2022".
بني صدر: حصلت على كتابك الأسبوع الماضي، وقد أعادني إلى واحدة من دفاتر ديلاكروا المفضلة لدي.
باموق: واو، نعم. لقد كتبت عنه. إنه مجتهد جدًا، وجاد للغاية، لكنه يفتقر إلى حس الفكاهة. يمكنك أن تشعر بأنه شخصية استبدادية.
بني صدر: بعد قراءة العديد من كتبك، كان من الرائع أن أستكشف عالمك الداخلي وأرى كيف تتعامل مع الأفكار المتعلقة برواياتك، والذاكرة، والمناظر الطبيعية، والأحلام، والكلمات، والصور. لكن ما كان مثيرًا للاهتمام بالنسبة لي كرسام هو الجزء الذي تتحدث فيه عن كيف أن يدك تبدأ بالرسم من تلقاء نفسها أحيانًا.
من كتاب "Memories of Distant Mountains" (ميغازين)
باموق: الآن أنا روائي معروف عالميًا، لكن بين 7 و22 عامًا، كنت أرغب في أن أكون رسامًا، وقد رسمت كثيرًا. لاحقًا، عندما انتقلت من الرسم إلى كتابة الروايات لسبب غير معلوم، شعرت أنه كان هناك برغي يتفكك في رأسي. أردت أن أقتل الرسام الذي بداخلي، لأنني كنت أرغب في أن أكون رسامًا لمدة 15 عامًا. لكن الرسام في داخلي لم يمت في النهاية. ذات يوم، ذهبت إلى متجر واشتريت الكثير من مستلزمات الرسم. ثم أكملت روايتي لعام 2008 "متحف البراءة"، والتي تعتبر محاولة لدمج الرسم والأدب معًا.
ثم قررت أن أكتب رواية عن متعة الرسم، والتي أصبحت لاحقًا رواية "اسمي أحمر". لا أكتب رواياتي في جلسة واحدة. كانت محاولتي الأولى تدور حول فنان معاصر مثلك، حيث تجري الأحداث في إسطنبول، لكن الفن الخاص بي كان يتعرض لتأثير غربي كبير جدًا. لم أرغب في أن يدور موضوع روايتي حول مشكلات التأثير أو تقليد الشرق والغرب. لم أرد الخوض في هذا الموضوع، مثل ما بعد الاستعمار، والاستشراق، والغربنة، والحداثة.. لقد كتبت عن هذه المواضيع كثيرًا بالفعل.
ما أردت الكتابة عنه هو الفرح الذي شعرت به. عندما اكتشفت المتعة التي يعيشها الفنانون أثناء الرسم. كنت أذهب إلى متحف المتروبوليتان وأراقب الأعمال الفنية المصغرة التي لا يهتم بها أحد، وأحاول تخيل "اسمي أحمر".
بني صدر: هذا هو المكان الذي أذهب إليه لرؤية الرسوم المصغرة من تبريز.
باموق: أجل، تلك التي نهبها العثمانيون عندما غزوا تبريز.
لذلك، أردت أن أكتب رواية تحمل طابعًا تشكيليًا عن متعة الرسم. عندما أرسم، أشعر كما لو أنني رجل يغني في الحمام. أما عندما أكتب، فأشعر كأني رجل في غرفة صامتة يلعب الشطرنج أو يقوم بحسابات عقلية ويتأمل. أشعر بأنني مثقف أكثر ككاتب، وأقل ثقافة كرسام. الآن أطرح على نفسي السؤال: هل كان من الأهم أن أكون مثقفًا عندما كنت في العشرينات من عمري؟
بني صدر: لم تقتل الرسام الذي بداخلك. فالرسامون يمعنون النظر في الأشياء لفترات طويلة، ثم يفككونها ويعيدون تركيبها ببطء. لذلك أرى أن الطريقة التي تصنع بها دفاترك، حيث تدمج المناظر الطبيعية مع الكلمات، تعكس جوهرك الحقيقي. أنت تشاهدها كرسام، ثم ترسمها بالكلمات.
باموق: نعم، لكن من ناحية أخرى، ما هو هذا الكتاب؟ إنه مجموعة مختارة من مذكراتي. لقد احتفظت بجميع هذه المذكرات في دفاتر "موليكينا" يوميًا لمدة 15 عامًا. أمارس الرسم فيها بين الحين والآخر، وأقوم بعمل صفحات مزدوجة، واستخدم الألوان المائية. لدي 35 دفتر "موليكينا" صغير كهذا، وقد ملأت 32 منها. تحتوي على ما يقرب من 6000 صفحة مزدوجة، من بينها، هناك 800 صورة.
إنها ليست مرتبة ترتيبًا زمنيًا، بل وفقًا لموضوعات أو حتى مشاعر معينة. ترى أولًا صفحة من عام 2014، ثم تقلب الصفحة وتجد نفسك في 2008، ثم 2017، وهكذا. ماذا يحدث؟ ولماذا؟ لأن جميع هذه الصفحات تتعلق بالطبيعة، أو تتعلق بالهند، أو تتعلق بعدم القدرة على الكتابة، أو بتلك القوارب التي تمر في إسطنبول أو نيويورك، أو بمشكلات رواية ما، أو بفكرة مبتكرة، أو بالكتّاب والفنانين الذين أثروا فيّ، بدءًا من تولستوي وصولًا إلى ويليام بليك وفيرجينيا وولف وكالفينو.
بني صدر: أثناء قراءتي لكتابك، كنت أفكر في ويليام بليك، وبالطبع هناك صفحة تتحدث عنه. لكن بخلاف بليك، تذكر أيضًا ساي تومبلي، ورايموند بيتيبون.
باموق: ساي تومبلي، وبيتيبون، وأنسليم كييفر، هؤلاء فنانون كتبوا فوق لوحاتهم، وأنا أُقدّرهم.
بني صدر: يمكن أن تكون دفاتر الملاحظات أشياء شخصية جدًا. أعرف ذلك عن نفسي، لأنه مثلما هو الحال معك، لدي العديد من دفاتر الملاحظات التي أكتب فيها. لكن في مرحلة ما، فصلت بين الكتابة والأمور البصرية. في العام المقبل، سأنشر مجموعة من دفاتري البصرية مع دار ييل للنشر.
باموق: هل سيكون هناك أي نص فيها؟
بني صدر: قليلًا.
باموق: صديقي، اجعلها أكثر، وليس قليلًا.
بني صدر: حسنًا، لدي دفتر آخر مخصص للكتابة فقط، لأن ذهني مليء بالفوضى. يجب أن أرسخ أفكاري، لأنه إذا لم أفعل، فإنها ستبقى تتخبط في ذهني وتسبب لي الجنون. لذا، لابد لي من تثبيتها لكي أفهمها وأتعامل معها. أعلم أنه كان عليك المرور بحوالي 30 دفترًا. هل كان ذلك صعبًا؟
باموق: كان الأمر صعبًا، وقد ساعدتني المحررة التركية بيلين كيفراك. أولًا وقبل كل شيء، ما نهتم به هو فقط الصفحات التي تحتوي على صور، وهي أقل من عشرة بالمئة. لكن حتى في تلك الحالة، كان الأمر صعبًا. ثم كانت هناك صفحات أُنتِجت لجعل الكتاب أكثر اكتمالًا. على سبيل المثال، قالت لي المحررة إنه هناك نصوص جميلة تتعلق بنفس الموضوعات، لكن في منتصف الصفحة المزدوجة، لا توجد صورة. لماذا لا ترسم صورة تتعلق بهذا الموضوع لضمان الاستمرارية؟ لذا هناك أيضًا بعض التعديلات.
لقد تأثرت بالعديد من الكتاب الآخرين. في ثلاثينيات القرن الماضي، تغيرت فكرة الاحتفاظ باليوميات عندما نشر الكاتب الفرنسي أندريه جيد مذكراته وهو لا يزال على قيد الحياة، وهو ما لم يكن يقوم به أحد آنذاك. فجأة، تحول هذا الفضاء الخاص جدًا إلى مساحة حيوية وإبداعية. قبل ذلك، كانت اليوميات تُستخدم لتدوين الرؤى السرية، أو كدفن للأسرار، أو للتعبير عن كراهيتك لملكك أو والدك أو أي شخص آخر. بدأ كتّاب معاصرون، مثل الروائي النمساوي بيتر هاندكه والعديد من الكتاب الأتراك، بتأثر إيجابي، في إعادة كتابة اليوميات ونشرها. لم يسجل هؤلاء الكتاب مجرد الأحداث اليومية والأفكار التي اعتقدوا أنها مهمة، بل كتبوا أيضًا مذكرات إبداعية وتجريبية كفضاء للابتكار.
تتميز اليوميات في "ذكريات الجبال البعيدة" بهذه الخصوصية أيضًا. يمكنني أن أفتح صفحة من مذكرات كتبتها منذ 10 سنوات وأضيف بعض السطور هنا، ولقطة طبيعية هناك، مما يجعل يومياتي لا تنتهي أبدًا. أدمج بين اللوحات والنصوص. أحيانًا أرسم قاربًا على صفحة فارغة وأتركه دون أن ألمسه مرة أخرى. أو أكتب نصًا وأترك مساحة لرسم لم أقم بإنجازه. أو، بعد خمس سنوات، أعود لأرسم ذلك القارب. بهذا الشكل، تم اختيار الصفحات المزدوجة في "ذكريات الجبال البعيدة".
بني صدر: تتحدث كثيرًا عن الأحلام. هناك اقتباس أحببته حقًا وتناولتَ فيه: "الأحلام ليست وصفية. لا يمكن وصف الأحلام، بل يمكن فقط الشعور بها. الطريقة الوحيدة لنقل إحساس الحلم على الورق هي بأن نرسمه بالألوان المائية." هل تكتب أحلامك؟
غلاف كتاب "Memories of Distant Mountains" (ميغازين)
باموق: لا. مرة واحدة في السنة، أو مرة كل 15 شهرًا، عندما يراودني حلم غريب ومخيف ومؤثر أتذكره لمدة 10 دقائق. إذا كتبت عنه في تلك الدقائق العشر، سأحتفظ به في ذاكرتي. ولكن إذا لم أكتب عنه، سأنساه إلى الأبد. كان الروائي هنري جيمس يقول "احكي حلمًا في رواية وستفقد قارئًا". [يضحك.]
بني صدر: لكنك تتحدث أيضًا عن كيف أن الحلم والذاكرة يتداخلان أحيانًا.
أورهان باموق: أوافق على أن قوة الأحلام تكمن في أن 99% منها ذات طابع بصري. لا يوجد شيء حرفي في الأحلام. إن تحويل عالم بصري بنسبة 99% إلى كلمات هو مهمة مستحيلة. لكننا نحاول، نقوم بشرح أحلامنا.
لقد جادلت في كتابي "The Naive and Sentimental Novelist" بأن كتابة الرواية تبدأ بتخيل المشهد كصورة، ثم تحدث أزمة في تلك الصورة، بحيث يقرأ القارئ النص ويحاول تشكيل نفس الصورة التي في ذهن الكاتب. لذا، تعتبر الصور مهمة.
ما أراه في عقلي يمكن أن يتداخل أيضًا مع ما أراه في العالم. في الواقع، هذا التداخل هو جوهر الفن نفسه، النشاط الفني. لكن في النهاية، أؤكد بشدة أن هناك صورًا، وأشياء، كانت موجودة قبل الكلمات. ربما لأنني كنت أريد أن أكون رسامًا.
بني صدر: السؤال الأخير بشأن مشاريعك المستقبلية. لقد رأيت عنوان "قصة رسام"، وأنا فضولي جدًا إزاؤه.
باموق: خيالي ينتج الكثير من قصص الرسامين. لقد كتبت واحدة منها، بشكل غامض جدًا، في رواية "اسمي أحمر". لدي أيضًا روايات قصيرة ومشاريع روايات تتعلق بالرسامين. هذا الموضوع، الرسام المعاصر الذي لا يريد أن يتأثر، ولكنه في الوقت نفسه يسعى لأن يكون أصيلاً، عميقًا، ناجحًا، وسعيدًا هو مشكلتي.
أحد الأسباب التي جعلتني أقرر عدم أن أكون رسامًا هو أنه عندما كنت في الثامنة عشرة في إسطنبول، كانت هناك ثلاثة معارض فنية فقط. واحد منها تديره الحكومة، والآخر تديره امرأة عزيزة جدًا كانت أكبر من والدي، والثالث كان صغيرًا وعرضيًا. قد ترغب في الرسم، ولكن تحتاج بعد ذلك إلى العثور على أشخاص يقدرون لوحاتك. لا أستطيع أن أقول إنني نادم على عدم كوني رسامًا، لكن لا أستطيع أيضًا أن أنكر أنني أشعر بالندم لعدم كوني رسامًا.
بني صدر: لا يزال ذلك موجودًا هنا، في رواياتك وفي كتابك الجديد.
منقولاتالخيط الرفيع بين الرسم والكتابة
ترجمة لحوار بين الفنان التشكيلي علي بني صدر، والروائي التركي أورهان باموق، عن العلاقة المتداخلة بين الرسم والكتابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أول كتاب قرأته لأورهان باموق كان "اسمي أحمر". كان ذلك في ليلة رأس السنة عندما فتحت الكتاب للمرة الأولى. كنت في كاليفورنيا أزور والدتي، التي كانت ستذهب إلى منزل عمي في تلك الليلة. كان من المفترض أن أرافقها، لكنني فضلت البقاء في المنزل وقراءة الكتاب، غارقًا في العالم الذي بناه باموق. بعد تلك التجربة، أصبحت شغوفًا بكتبه، وقرأت كل ما تمكنت من الحصول عليه من تلك الكتب.
يرى باموق العالم بعين رسام، وهذا منطقي بالنظر إلى خلفيته. فالرسام يحتاج إلى وقت لدراسة موضوعه، لتفكيكه وإعادة تركيبه وترتيبه تدريجيًا. شعرت أن أسلوب باموق في الكتابة يشبه ذلك تمامًا، هو دائم الملاحظة، دائم التساؤل، ودائم إعادة ترتيب الأمور حتى تكتسب معنى جديدًا. تعكس كتاباته مزيجًا رائعًا من الأفكار والعواطف والتاريخ الذي يلامسني بعمق.
في عام 2014، كنت في باريس لبضعة أيام، ودعاني الموزع الفني الخاص بي، ثاديوس روباتش، إلى عشاء. قال إنه سيكون هناك مجموعة صغيرة من الأصدقاء، لكنه لم يخبرني بالضبط من سيكون موجودًا. عندما وصلت، وجدت نفسي جالسًا بين أنسليم كييفر (فنان أعجبت به لسنوات) وأورهان باموق.
اللقاء التالي مع باموق كان في شباط/فبراير 2020، قبيل إغلاق العالم بسبب جائحة كورونا، في مكتبة مورغان في نيويورك، حيث جمعتنا صدفة غير متوقعة في المعرض نفسه الذي يحتفي بالمعماري الرؤيوي جان-جاك ليكو. كانت القاعات شبه فارغة، مما أضفى طابعًا خاصًا على تلك اللحظة، بينما كنا نتجول معًا بين الأعمال الفنية. كان ذلك آخر معرض حضرته قبل أن تُفرض القيود، لتظل هذه الذكرى حاضرة وتحمل أهمية استثنائية في ذاكرتي.
كان من دواعي سروري أن أتحدث مع باموق مجددًا، هذه المرة بمناسبة إصدار كتابه الجديد "ذكريات الجبال البعيدة: دفاتر ملاحظات مصورة، 2009-2022".
بني صدر: حصلت على كتابك الأسبوع الماضي، وقد أعادني إلى واحدة من دفاتر ديلاكروا المفضلة لدي.
باموق: واو، نعم. لقد كتبت عنه. إنه مجتهد جدًا، وجاد للغاية، لكنه يفتقر إلى حس الفكاهة. يمكنك أن تشعر بأنه شخصية استبدادية.
بني صدر: بعد قراءة العديد من كتبك، كان من الرائع أن أستكشف عالمك الداخلي وأرى كيف تتعامل مع الأفكار المتعلقة برواياتك، والذاكرة، والمناظر الطبيعية، والأحلام، والكلمات، والصور. لكن ما كان مثيرًا للاهتمام بالنسبة لي كرسام هو الجزء الذي تتحدث فيه عن كيف أن يدك تبدأ بالرسم من تلقاء نفسها أحيانًا.
من كتاب "Memories of Distant Mountains" (ميغازين)
باموق: الآن أنا روائي معروف عالميًا، لكن بين 7 و22 عامًا، كنت أرغب في أن أكون رسامًا، وقد رسمت كثيرًا. لاحقًا، عندما انتقلت من الرسم إلى كتابة الروايات لسبب غير معلوم، شعرت أنه كان هناك برغي يتفكك في رأسي. أردت أن أقتل الرسام الذي بداخلي، لأنني كنت أرغب في أن أكون رسامًا لمدة 15 عامًا. لكن الرسام في داخلي لم يمت في النهاية. ذات يوم، ذهبت إلى متجر واشتريت الكثير من مستلزمات الرسم. ثم أكملت روايتي لعام 2008 "متحف البراءة"، والتي تعتبر محاولة لدمج الرسم والأدب معًا.
ثم قررت أن أكتب رواية عن متعة الرسم، والتي أصبحت لاحقًا رواية "اسمي أحمر". لا أكتب رواياتي في جلسة واحدة. كانت محاولتي الأولى تدور حول فنان معاصر مثلك، حيث تجري الأحداث في إسطنبول، لكن الفن الخاص بي كان يتعرض لتأثير غربي كبير جدًا. لم أرغب في أن يدور موضوع روايتي حول مشكلات التأثير أو تقليد الشرق والغرب. لم أرد الخوض في هذا الموضوع، مثل ما بعد الاستعمار، والاستشراق، والغربنة، والحداثة.. لقد كتبت عن هذه المواضيع كثيرًا بالفعل.
ما أردت الكتابة عنه هو الفرح الذي شعرت به. عندما اكتشفت المتعة التي يعيشها الفنانون أثناء الرسم. كنت أذهب إلى متحف المتروبوليتان وأراقب الأعمال الفنية المصغرة التي لا يهتم بها أحد، وأحاول تخيل "اسمي أحمر".
بني صدر: هذا هو المكان الذي أذهب إليه لرؤية الرسوم المصغرة من تبريز.
باموق: أجل، تلك التي نهبها العثمانيون عندما غزوا تبريز.
لذلك، أردت أن أكتب رواية تحمل طابعًا تشكيليًا عن متعة الرسم. عندما أرسم، أشعر كما لو أنني رجل يغني في الحمام. أما عندما أكتب، فأشعر كأني رجل في غرفة صامتة يلعب الشطرنج أو يقوم بحسابات عقلية ويتأمل. أشعر بأنني مثقف أكثر ككاتب، وأقل ثقافة كرسام. الآن أطرح على نفسي السؤال: هل كان من الأهم أن أكون مثقفًا عندما كنت في العشرينات من عمري؟
بني صدر: لم تقتل الرسام الذي بداخلك. فالرسامون يمعنون النظر في الأشياء لفترات طويلة، ثم يفككونها ويعيدون تركيبها ببطء. لذلك أرى أن الطريقة التي تصنع بها دفاترك، حيث تدمج المناظر الطبيعية مع الكلمات، تعكس جوهرك الحقيقي. أنت تشاهدها كرسام، ثم ترسمها بالكلمات.
باموق: نعم، لكن من ناحية أخرى، ما هو هذا الكتاب؟ إنه مجموعة مختارة من مذكراتي. لقد احتفظت بجميع هذه المذكرات في دفاتر "موليكينا" يوميًا لمدة 15 عامًا. أمارس الرسم فيها بين الحين والآخر، وأقوم بعمل صفحات مزدوجة، واستخدم الألوان المائية. لدي 35 دفتر "موليكينا" صغير كهذا، وقد ملأت 32 منها. تحتوي على ما يقرب من 6000 صفحة مزدوجة، من بينها، هناك 800 صورة.
إنها ليست مرتبة ترتيبًا زمنيًا، بل وفقًا لموضوعات أو حتى مشاعر معينة. ترى أولًا صفحة من عام 2014، ثم تقلب الصفحة وتجد نفسك في 2008، ثم 2017، وهكذا. ماذا يحدث؟ ولماذا؟ لأن جميع هذه الصفحات تتعلق بالطبيعة، أو تتعلق بالهند، أو تتعلق بعدم القدرة على الكتابة، أو بتلك القوارب التي تمر في إسطنبول أو نيويورك، أو بمشكلات رواية ما، أو بفكرة مبتكرة، أو بالكتّاب والفنانين الذين أثروا فيّ، بدءًا من تولستوي وصولًا إلى ويليام بليك وفيرجينيا وولف وكالفينو.
بني صدر: أثناء قراءتي لكتابك، كنت أفكر في ويليام بليك، وبالطبع هناك صفحة تتحدث عنه. لكن بخلاف بليك، تذكر أيضًا ساي تومبلي، ورايموند بيتيبون.
باموق: ساي تومبلي، وبيتيبون، وأنسليم كييفر، هؤلاء فنانون كتبوا فوق لوحاتهم، وأنا أُقدّرهم.
بني صدر: يمكن أن تكون دفاتر الملاحظات أشياء شخصية جدًا. أعرف ذلك عن نفسي، لأنه مثلما هو الحال معك، لدي العديد من دفاتر الملاحظات التي أكتب فيها. لكن في مرحلة ما، فصلت بين الكتابة والأمور البصرية. في العام المقبل، سأنشر مجموعة من دفاتري البصرية مع دار ييل للنشر.
باموق: هل سيكون هناك أي نص فيها؟
بني صدر: قليلًا.
باموق: صديقي، اجعلها أكثر، وليس قليلًا.
بني صدر: حسنًا، لدي دفتر آخر مخصص للكتابة فقط، لأن ذهني مليء بالفوضى. يجب أن أرسخ أفكاري، لأنه إذا لم أفعل، فإنها ستبقى تتخبط في ذهني وتسبب لي الجنون. لذا، لابد لي من تثبيتها لكي أفهمها وأتعامل معها. أعلم أنه كان عليك المرور بحوالي 30 دفترًا. هل كان ذلك صعبًا؟
باموق: كان الأمر صعبًا، وقد ساعدتني المحررة التركية بيلين كيفراك. أولًا وقبل كل شيء، ما نهتم به هو فقط الصفحات التي تحتوي على صور، وهي أقل من عشرة بالمئة. لكن حتى في تلك الحالة، كان الأمر صعبًا. ثم كانت هناك صفحات أُنتِجت لجعل الكتاب أكثر اكتمالًا. على سبيل المثال، قالت لي المحررة إنه هناك نصوص جميلة تتعلق بنفس الموضوعات، لكن في منتصف الصفحة المزدوجة، لا توجد صورة. لماذا لا ترسم صورة تتعلق بهذا الموضوع لضمان الاستمرارية؟ لذا هناك أيضًا بعض التعديلات.
لقد تأثرت بالعديد من الكتاب الآخرين. في ثلاثينيات القرن الماضي، تغيرت فكرة الاحتفاظ باليوميات عندما نشر الكاتب الفرنسي أندريه جيد مذكراته وهو لا يزال على قيد الحياة، وهو ما لم يكن يقوم به أحد آنذاك. فجأة، تحول هذا الفضاء الخاص جدًا إلى مساحة حيوية وإبداعية. قبل ذلك، كانت اليوميات تُستخدم لتدوين الرؤى السرية، أو كدفن للأسرار، أو للتعبير عن كراهيتك لملكك أو والدك أو أي شخص آخر. بدأ كتّاب معاصرون، مثل الروائي النمساوي بيتر هاندكه والعديد من الكتاب الأتراك، بتأثر إيجابي، في إعادة كتابة اليوميات ونشرها. لم يسجل هؤلاء الكتاب مجرد الأحداث اليومية والأفكار التي اعتقدوا أنها مهمة، بل كتبوا أيضًا مذكرات إبداعية وتجريبية كفضاء للابتكار.
تتميز اليوميات في "ذكريات الجبال البعيدة" بهذه الخصوصية أيضًا. يمكنني أن أفتح صفحة من مذكرات كتبتها منذ 10 سنوات وأضيف بعض السطور هنا، ولقطة طبيعية هناك، مما يجعل يومياتي لا تنتهي أبدًا. أدمج بين اللوحات والنصوص. أحيانًا أرسم قاربًا على صفحة فارغة وأتركه دون أن ألمسه مرة أخرى. أو أكتب نصًا وأترك مساحة لرسم لم أقم بإنجازه. أو، بعد خمس سنوات، أعود لأرسم ذلك القارب. بهذا الشكل، تم اختيار الصفحات المزدوجة في "ذكريات الجبال البعيدة".
بني صدر: تتحدث كثيرًا عن الأحلام. هناك اقتباس أحببته حقًا وتناولتَ فيه: "الأحلام ليست وصفية. لا يمكن وصف الأحلام، بل يمكن فقط الشعور بها. الطريقة الوحيدة لنقل إحساس الحلم على الورق هي بأن نرسمه بالألوان المائية." هل تكتب أحلامك؟
غلاف كتاب "Memories of Distant Mountains" (ميغازين)
باموق: لا. مرة واحدة في السنة، أو مرة كل 15 شهرًا، عندما يراودني حلم غريب ومخيف ومؤثر أتذكره لمدة 10 دقائق. إذا كتبت عنه في تلك الدقائق العشر، سأحتفظ به في ذاكرتي. ولكن إذا لم أكتب عنه، سأنساه إلى الأبد. كان الروائي هنري جيمس يقول "احكي حلمًا في رواية وستفقد قارئًا". [يضحك.]
بني صدر: لكنك تتحدث أيضًا عن كيف أن الحلم والذاكرة يتداخلان أحيانًا.
أورهان باموق: أوافق على أن قوة الأحلام تكمن في أن 99% منها ذات طابع بصري. لا يوجد شيء حرفي في الأحلام. إن تحويل عالم بصري بنسبة 99% إلى كلمات هو مهمة مستحيلة. لكننا نحاول، نقوم بشرح أحلامنا.
لقد جادلت في كتابي "The Naive and Sentimental Novelist" بأن كتابة الرواية تبدأ بتخيل المشهد كصورة، ثم تحدث أزمة في تلك الصورة، بحيث يقرأ القارئ النص ويحاول تشكيل نفس الصورة التي في ذهن الكاتب. لذا، تعتبر الصور مهمة.
ما أراه في عقلي يمكن أن يتداخل أيضًا مع ما أراه في العالم. في الواقع، هذا التداخل هو جوهر الفن نفسه، النشاط الفني. لكن في النهاية، أؤكد بشدة أن هناك صورًا، وأشياء، كانت موجودة قبل الكلمات. ربما لأنني كنت أريد أن أكون رسامًا.
بني صدر: السؤال الأخير بشأن مشاريعك المستقبلية. لقد رأيت عنوان "قصة رسام"، وأنا فضولي جدًا إزاؤه.
باموق: خيالي ينتج الكثير من قصص الرسامين. لقد كتبت واحدة منها، بشكل غامض جدًا، في رواية "اسمي أحمر". لدي أيضًا روايات قصيرة ومشاريع روايات تتعلق بالرسامين. هذا الموضوع، الرسام المعاصر الذي لا يريد أن يتأثر، ولكنه في الوقت نفسه يسعى لأن يكون أصيلاً، عميقًا، ناجحًا، وسعيدًا هو مشكلتي.
أحد الأسباب التي جعلتني أقرر عدم أن أكون رسامًا هو أنه عندما كنت في الثامنة عشرة في إسطنبول، كانت هناك ثلاثة معارض فنية فقط. واحد منها تديره الحكومة، والآخر تديره امرأة عزيزة جدًا كانت أكبر من والدي، والثالث كان صغيرًا وعرضيًا. قد ترغب في الرسم، ولكن تحتاج بعد ذلك إلى العثور على أشخاص يقدرون لوحاتك. لا أستطيع أن أقول إنني نادم على عدم كوني رسامًا، لكن لا أستطيع أيضًا أن أنكر أنني أشعر بالندم لعدم كوني رسامًا.
بني صدر: لا يزال ذلك موجودًا هنا، في رواياتك وفي كتابك الجديد.