زهير سلمي
Zuhayr ibn abi Salma - Zuhayr ibn abi Salma
زهير بن أبي سُلمى
(نحو520 ـ 609م)
زهير بن أبي سُلمى شاعر جاهلي، وليس عند العرب سُْلمى، بضم السين، غيرها، وهي أخته التي تكنى بها أبوه ربيعة بن رياح بن عثمان من قبيلة مُزيَنة. عاش في الحاجر، جنوب الرياض اليوم، وهي ديار آل أبي سلمى إلى ما بعد الإسلام، وبها كانت ولادته إذ نشأ عند أخواله من بني سَهْم بن مُرّة بن عوف، ثم عند بني عبد الله بن غطفان بعد زواجه من ابنة القبيلة كبشة بنت عمّار، ولعل هذا وراء نسبته إلى غطفان ووراء تراجع العصبية القبلية في حياته وشعره.
لم تذكر الأخبار والأشعار شيئاً ذا بال عن أسرته، ولكن يبدو من شعره أنه أحب زوجته الأولى «أم أوفى» ولكنهما انفصلا لسبب ما، ولقد توفي أولاده الثلاثة منها في حياته. أما أولاده كعب[ر] وبجير وسالم فمن زوجته الثانية «كبشة». ولقد أدرك كعب وبجير الإسلام أما سالم فقد توفي فرثاه بأبيات مؤثرة. أصاب زهير مالاً كثيراً وعاش تسعين سنة، ويرجح انه مات قبيل البعثة الإسلامية.
كان زهير متعبداً متعففاً في حياته وشعره، إذ يُستدل من أخباره وأشعاره أنه كان على مذهب الحنيفية، وهو القائل:
أقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجُرْهُم
ولم يشارك في الأحداث المحيطة به حتى سعى هرم بن سنان والحارث بن عوف بالصلح بين قبيلتي عبس وذبيان لإنهاء حرب «داحس والغبراء» بعد أن دامت أربعين سنة، فمدحهما إعجاباً بصنيعهما الذي وافق أخلاقه الكريمة وإيثاره للسلم وكراهيته للغدر والقتل. وقد عمّقت تجربته الطويلة كل ما يؤمن به من مبادئ وهو القائل:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم
تناول زهير الكثير من الموضوعات الشعرية وعلى رأسها المدح والحِكَم والأمثال، ولم يغفل الغزل والرثاء والفخر والهجاء، أما الوصف فله شأن خاص في فنه، أكان ذلك في وصف الأطلال أم مشهد الحيوان ورحلة الظعائن. ولم يقع مدحه إلا في السادة وأشراف العرب ولاسيما أشراف غطفان، وأكثر مدحه في آل سنان، وخاصة هرم بن سنان، الذي عُدَّ من أجواد العرب، ومامدحه زهير إلا أجزل عطاءه، وزاد هرم في عطائه حتى استحيا زهير منه فكان يقول إذا رآه: «عمّوا صباحاً غير هرم وخيرَكم استثنيت». ولقد قال عمر بن الخطاب[ر] لابن زهير حين أخبره أن الحلل التي كسا هرم أباه قد بليت: «لكن الحلل التي كساها أبوك هرم لم يبْلها الدهر»، ولعل هذا دعا بعض النقاد إلى عدّه أحد مَن تكسَّب في شعره.
رسم زهير الصورة المثلى والأرحب للممدوح في صفاته ونفسه، وهي صفات تواضع عليها الجاهليون كالنسب والحسب والشرف والإباء والحلم والوفاء والشجاعة والقدرة والإقدام والثبات في المعارك والكرم وإغاثة الملهوف وحماية الجار، ثم رسم معاني جديدة اختطها في قيم المدح كالنقاء من العيوب والصفاء والطهر والعفة وصلة الأرحام. لكن زهير الذي شب على التقى والورع والصدق وكره الغلو الممقوت في المدح، اعتدل في وصف الممدوح إذ كان لا يمدح أحداً إلا بما فيه، وتبقى معلقته أطول مدائحه، وأكثرها سيرورة على ألسنة الناس، وهي تبدأ بقوله:
أمِـن أُمِّ أوفـى دِمنةٌ لـم تكلَّم
بـحَـوْمانَـةِ الـدَرَّاجِ فالمُتـَثـَلَّمِ
غزل زهير بدوي تقليدي غير مقصود لذاته ويأتي في مقدمات قصائده وهو سبيل إلى موضوع آخر، ولعله امتزج برحلة الظعائن، وهو وجداني مؤثر، يطوف بالأوصاف المادية الخارجية لمن تعرّض لهن من النساء كزوجته أم أوفى أو من الأسماء التي استعملها العرب من مثل ليلى وفاطمة وغيرها. أما ألفاظه فترفل بثوب الرقة والعذوبة والوضوح وتنساب تراكيبه بيسر ودقة، وتتحرك صوره الفنية متموجة لتعلق بالنفس، فإذا غابت العاطفة الحقيقية عن غزله فإن صدقه الفني وتمكنه من التعبير عن طبيعة الغزل التقليدي عوّض عن ذلك كله، ومن غزله ما قاله في مقدمة مدحه لهرم:
إنَّ الخـليط أجـَدَّ البـَيْنَ فانفرقا
وعُـلّـق القلب من أسماءَ ما عـَلقا
وفارقـتـك برَهْن لا فكاك لـه
يوم الوداع، فأمسى الرهن قد غـلقا
قامت تراءى بذي ضَالٍ لتحزنني
ولا مـحـالـة أن يشـتاق من عشقا
بجـيد مُغْـزلةٍ، أدمـاءَ، خاذلةٍ
من الظـبـاء، تراعي شادنـاً خَـرِقا
أما هجاء زهير فذو طبيعة خاصة تنبع من طبائعه ونفسيته، فلقد كره الظلم والشر، وأزرى بأهل الغدر واللؤم، وتألم إن وقع عليه أو على غيره فهب يدفع الأذى والضرر إنذاراً وتهديداً؛ فإذا تمادى الباغي وانغمس في غِيّه جاءه هجاء مرٌّ رده إلى صوابه. فهجاء زهير من النوع الوقائي في الدفاع عن النفس أو عن المظلوم. وهو يلجأ إلى أسلوب التصوير الإيحائي الساخر.
وكان رثاء زهير أقل من هجائه حجماً وفيه قصائد تقليدية ومقطعات، وهو تأبين يدور حول القيم والفضائل المدحية، وإن توشح بوشاح الحزن كما في رثائه لهرم بن سنان الذي قدَّم له بوصفٍ موحٍ للأطلال، ثم قال:
يا دهر قد أكثرتَ فجعتنا
بسراتنا، وقرعتَ، في العظْم
افتقر الفخر عند زهير إلى النزعة القبلية أو الجماعية، وكذلك لم يكن الفخر بالذات من طبعه، ومن ثم فهو أبعد ما يكون عنه، وما وقع منه، وهو نادر جداً، ورد في صميم الهجاء في معرض الدفاع عن النفس ومدحها بالخصال الجاهلية الكريمة لإبراز مثالب المهجو:
فلا تحسبني، يا ابن أزنمَ، شحـمةً
تعجلّها طـاهٍ بـشيٍّ مـُلَهـوَجِ
لذي الفضل من ذبيان عندي مودة
وحِفْظٌ، ومَن يُلحِم من الشر أنسجِ
وإنّـي لطـلاّب الرجال مُطـَلَّب
ولستُ بمثلوجٍ ولا بـمُـعَلْهَـج
إن تجربة زهير الطويلة جعلته ينفذ إلى دخائل النفوس، ويعبر عنها بحكَم تعالج مختلف شؤونهم الحياتية والخُلقية، مما جعله يرسل الحكمة إرسالاً من دون تصنّع، ويطبعها بطابع الأمثال التي تسير على الألسنة قديماً وحديثاً، فالحكَم والأمثال عنده ذات طابع اجتماعي إنساني، وإن كانت تعبر عن شخصيته وطباعه:
ومن يكُ ذا فضلٍ فيـبخل بفضله
على قومه يُستغنَ عنه ويُذمَمِ
ومن يَغتربْ يحسب عدواً صديقَه
ومَن لا يُكرِم نفسَه لا يُـكرَمِ
لسان الفتى نِصفٌ ونصفٌ فؤادُه
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدمِ
يُعَد زهير من الوصّافين المعروفين بدقة الحس ونفاذ البصر، ولاسيما حين يعرض مشاهد الطبيعة الحية أو الجامدة في معرض أغراضه، وحظيت الناقة والخيل (الراحلة) بقسط وافر من وصفه، وتحدث عن الأطلال ورحلة الظعائن ومشهد الصيد والوحش. ولعل خصائص فنه تظهر في الوصف أكثر من أي موضوع آخر، لما يمتلئ به من الحيوية والحركة مع مراعاة الجوانب النفسية والمعنوية للموصوف مصوراً إياها بكل دقة وبراعة وجمال. وهو يؤدي أجمل صوره في ألفاظ قليلة، وصيغ مثيرة عذبة الإيقاع منسجمة الألحان، خالية من الغرابة، لتقع على النفس والأذن موقعاً جميلاً ومؤثراً، وهي تتساوق في تراكيب سهلة تتهادى بأسلوب محكم النسج دقيق النظم عليه البهاء والرونق لخلوه من التعقيد والحشو والمعاظلة، كما في مدحه لحصن بن حذيفة:
وأبيضَ، فيّاضٍ، يداه غمامة
على مُعْتفيه، ما تُغبُّ فواضلُه
تراه، إذا ما جئتَهُ، متهـللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أو في تصويره للحرب والتنفير منها في معلقته:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المُرَجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً
وتَضْرَ إذا ضرَّيتموها فتَضْرَمِ
فتعرككم عَرْكَ الرَّحى بثفالها
وتـلقَح كشافاً، ثم تنتج فتُتئـمِ
فالشاعر يُلم بلوحته الفنية أو بموضوعه إلماماً عاماً ثم يعمد إلى مبدأ الإحاطة والاستقصاء لكل عنصر من العناصر الفنية والفكرية فيتتبع جزيئاتها من دون نبو أو اضطراب، فينسق كل حركة فيها أو لون، ويرتب أحجامها وأبعادها المكانية والزمانية، ثم يوشيها بالانفعال الصادق.
جمع زهير في شعره بين الطبع الأصيل المواتي والنقي وبين الأناة والدربة والصقل والتنقيح من دون تكلف أو تصنّع، فكان وارثاً لشعر أبيه وجده وخاله بشامة بن الغدير، ولأشعار أستاذه أوس بن حجر وأستاذ أستاذه طفيل الغنوي، رواها وثقفها فتفوق على أصحابها، ثم صار رأس مدرسة أطلق عليها الأصمعي[ر] مدرسة «عبيد الشعر» ومن تلاميذها ابنه كعب والشاعر العبسي الحطيئة[ر] ثم هُدبة ابن الخشرم[ر] وجميل[ر] بثينة وكثيّر[ر] عزة وجرير[ر]. فأصحاب هذه المدرسة جعلوا عقولهم عياراً على فطرتهم وبديهتهم، فأعادوا النظر في كل ما صدر عن طبعهم وعاطفتهم ليرضوا أنفسهم وسامعيهم، حتى قيل إن أحدهم كان يترك قصيدته حولاً كاملاً يُردّد الرأي فيها ويعرضها على الناس لتخرج محكمة تتصف بالكمال الفني، ولهذا سميت الحوليات، أو المُحكمات، أو المنَقَحات، أو المقلّدات، ومن ثم سُمي صاحبها شاعراً خنذيذاً وشاعراً مُفْلِقاً.
عني زهير بالوحدة الموضوعية والمعنوية المسندة إلى مبدأ الاستطراد الفني في جميع قصائده سواء أكانت قصائد مركبة أو مقطعات بسيطة طرقت موضوعاً واحداً، فيثب بواساطة هذا المبدأ من فكرة إلى أخرى، ولكنها تظل مطردة الأجزاء تتحقق فيها الوحدة الشعرية على أكمل وجه وأدقه، في البدء والخروج والنهاية، بعد أن يهيئ الجو الشاعري لسامعه وقارئه، كل ذلك من دون إسفاف أوسقوط أو اضطراب. ولعل معلقته التي بلغت في بعض الروايات أربع وستين بيتاً تجسد ذلك، فلقد استهلها بالوقوف على أطلال زوجته أم أوفى، وتناول فيها شيئاً من الوصف الطريف الذي أشاع الحياة والحيوية رداً على الفناء، واسترجع أيامه الجميلة مع زوجته، ثم مدَّ بصره إلى رحلة الظعائن فعني بتصويرها أيّما عناية، فتجلت عنده روح الفنان المدقق، ثم مضى إلى المدح فأثنى على صنيع هرم بن سنان وابن عمه الحارث بن عوف. ومن ثم وقف موقف الناصح الحكيم الخبير، فحذّر من شرور الحرب وأوزارها وما تجلبه على الأحلاف والناس من فتك ودمار وقطع لأواصر الرحم من ذوي القُربى، ثم وضع بين أيديهم خلاصة تجاربه بعبارات قوية النسج سهلة واضحة تمتلئ بروح الحكمة والصفاء الخلقي.
حاز زهير مكانة فريدة في الشعر الجاهلي خاصة وفي الشعر العربي عامة، فكان نسيج وحده في كل ضروب الشعر التي أبدع فيها، حتى استحق لقب الفنان الحكيم. قال عنه ابن سلام[ر]:«أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأكثرهم أمثالا». وهو المفضّل عند تلميذه وراويته الحطيئة فقال فيه: «ما رأيت مثله في تكفّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء من اختلاف معانيها امتداحاً وذماً «وهو أشعر الشعراء عند أمير المؤمنين عمرt لأنه كان لا يعاظل بين الكلام ولا يتّبع وحشيَّه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه». ولهذا كله استحق مكانته في الطبقة الأولى عند ابن سلام، وهو في الثلاثة المقدمين عند ابن قتيبة وأبي الفرج الأصفهاني[ر] الذي أورد في كتابه «الأغاني» الكثير من أشعاره التي غناها المغنون في العصر العباسي، وهو مُقدّم عند أصحاب اللسان والنحو لما يمتلكه من قدرة لغوية. ولقد لقي شعره ولا سيما معلقته عناية القدماء والمحدثين، فاختيرت وشُرِحت في أمهات الكتب من مثل «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي و«شرح المعلقات السبع» للزوزني[ر]، وتُرجمت إلى لغات عالمية عدة منها الفرنسية والإنكليزية واللاتينية. وإذا كان شعر زهير كغيره من الشعر الجاهلي ووصل إلينا منه قسم وضاع قسم؛ فإنه أصيب بالزيادة والتحريف والنقص تبعًا لرواية الرواة، وانتقالها في الزمان والمكان، إلا انه يظل ثمرة نهائية لتجارب من سبقه ولتجارب عصره ومجتمعه وبيئته، إضافة إلى تجاربه الشخصية التي أبدعت شعراً ناضجاً وعميقاً يؤكد فرادته في الشعر العربي.
حسين جمعة
ـ محمد بن سلام، طبقات فحول الشعراء، شرحه محمود شاكر (مطبعة المدني، القاهرة 1974).
ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، حققه أحمد شاكر (دار المعارف بمصر 1966).
ـ إحسان النص، زهير بن أبي سلمى (دار الفكر، دمشق، ط2 1985).
Zuhayr ibn abi Salma - Zuhayr ibn abi Salma
زهير بن أبي سُلمى
(نحو520 ـ 609م)
زهير بن أبي سُلمى شاعر جاهلي، وليس عند العرب سُْلمى، بضم السين، غيرها، وهي أخته التي تكنى بها أبوه ربيعة بن رياح بن عثمان من قبيلة مُزيَنة. عاش في الحاجر، جنوب الرياض اليوم، وهي ديار آل أبي سلمى إلى ما بعد الإسلام، وبها كانت ولادته إذ نشأ عند أخواله من بني سَهْم بن مُرّة بن عوف، ثم عند بني عبد الله بن غطفان بعد زواجه من ابنة القبيلة كبشة بنت عمّار، ولعل هذا وراء نسبته إلى غطفان ووراء تراجع العصبية القبلية في حياته وشعره.
لم تذكر الأخبار والأشعار شيئاً ذا بال عن أسرته، ولكن يبدو من شعره أنه أحب زوجته الأولى «أم أوفى» ولكنهما انفصلا لسبب ما، ولقد توفي أولاده الثلاثة منها في حياته. أما أولاده كعب[ر] وبجير وسالم فمن زوجته الثانية «كبشة». ولقد أدرك كعب وبجير الإسلام أما سالم فقد توفي فرثاه بأبيات مؤثرة. أصاب زهير مالاً كثيراً وعاش تسعين سنة، ويرجح انه مات قبيل البعثة الإسلامية.
كان زهير متعبداً متعففاً في حياته وشعره، إذ يُستدل من أخباره وأشعاره أنه كان على مذهب الحنيفية، وهو القائل:
أقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجُرْهُم
ولم يشارك في الأحداث المحيطة به حتى سعى هرم بن سنان والحارث بن عوف بالصلح بين قبيلتي عبس وذبيان لإنهاء حرب «داحس والغبراء» بعد أن دامت أربعين سنة، فمدحهما إعجاباً بصنيعهما الذي وافق أخلاقه الكريمة وإيثاره للسلم وكراهيته للغدر والقتل. وقد عمّقت تجربته الطويلة كل ما يؤمن به من مبادئ وهو القائل:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم
تناول زهير الكثير من الموضوعات الشعرية وعلى رأسها المدح والحِكَم والأمثال، ولم يغفل الغزل والرثاء والفخر والهجاء، أما الوصف فله شأن خاص في فنه، أكان ذلك في وصف الأطلال أم مشهد الحيوان ورحلة الظعائن. ولم يقع مدحه إلا في السادة وأشراف العرب ولاسيما أشراف غطفان، وأكثر مدحه في آل سنان، وخاصة هرم بن سنان، الذي عُدَّ من أجواد العرب، ومامدحه زهير إلا أجزل عطاءه، وزاد هرم في عطائه حتى استحيا زهير منه فكان يقول إذا رآه: «عمّوا صباحاً غير هرم وخيرَكم استثنيت». ولقد قال عمر بن الخطاب[ر] لابن زهير حين أخبره أن الحلل التي كسا هرم أباه قد بليت: «لكن الحلل التي كساها أبوك هرم لم يبْلها الدهر»، ولعل هذا دعا بعض النقاد إلى عدّه أحد مَن تكسَّب في شعره.
رسم زهير الصورة المثلى والأرحب للممدوح في صفاته ونفسه، وهي صفات تواضع عليها الجاهليون كالنسب والحسب والشرف والإباء والحلم والوفاء والشجاعة والقدرة والإقدام والثبات في المعارك والكرم وإغاثة الملهوف وحماية الجار، ثم رسم معاني جديدة اختطها في قيم المدح كالنقاء من العيوب والصفاء والطهر والعفة وصلة الأرحام. لكن زهير الذي شب على التقى والورع والصدق وكره الغلو الممقوت في المدح، اعتدل في وصف الممدوح إذ كان لا يمدح أحداً إلا بما فيه، وتبقى معلقته أطول مدائحه، وأكثرها سيرورة على ألسنة الناس، وهي تبدأ بقوله:
أمِـن أُمِّ أوفـى دِمنةٌ لـم تكلَّم
بـحَـوْمانَـةِ الـدَرَّاجِ فالمُتـَثـَلَّمِ
غزل زهير بدوي تقليدي غير مقصود لذاته ويأتي في مقدمات قصائده وهو سبيل إلى موضوع آخر، ولعله امتزج برحلة الظعائن، وهو وجداني مؤثر، يطوف بالأوصاف المادية الخارجية لمن تعرّض لهن من النساء كزوجته أم أوفى أو من الأسماء التي استعملها العرب من مثل ليلى وفاطمة وغيرها. أما ألفاظه فترفل بثوب الرقة والعذوبة والوضوح وتنساب تراكيبه بيسر ودقة، وتتحرك صوره الفنية متموجة لتعلق بالنفس، فإذا غابت العاطفة الحقيقية عن غزله فإن صدقه الفني وتمكنه من التعبير عن طبيعة الغزل التقليدي عوّض عن ذلك كله، ومن غزله ما قاله في مقدمة مدحه لهرم:
إنَّ الخـليط أجـَدَّ البـَيْنَ فانفرقا
وعُـلّـق القلب من أسماءَ ما عـَلقا
وفارقـتـك برَهْن لا فكاك لـه
يوم الوداع، فأمسى الرهن قد غـلقا
قامت تراءى بذي ضَالٍ لتحزنني
ولا مـحـالـة أن يشـتاق من عشقا
بجـيد مُغْـزلةٍ، أدمـاءَ، خاذلةٍ
من الظـبـاء، تراعي شادنـاً خَـرِقا
أما هجاء زهير فذو طبيعة خاصة تنبع من طبائعه ونفسيته، فلقد كره الظلم والشر، وأزرى بأهل الغدر واللؤم، وتألم إن وقع عليه أو على غيره فهب يدفع الأذى والضرر إنذاراً وتهديداً؛ فإذا تمادى الباغي وانغمس في غِيّه جاءه هجاء مرٌّ رده إلى صوابه. فهجاء زهير من النوع الوقائي في الدفاع عن النفس أو عن المظلوم. وهو يلجأ إلى أسلوب التصوير الإيحائي الساخر.
وكان رثاء زهير أقل من هجائه حجماً وفيه قصائد تقليدية ومقطعات، وهو تأبين يدور حول القيم والفضائل المدحية، وإن توشح بوشاح الحزن كما في رثائه لهرم بن سنان الذي قدَّم له بوصفٍ موحٍ للأطلال، ثم قال:
يا دهر قد أكثرتَ فجعتنا
بسراتنا، وقرعتَ، في العظْم
افتقر الفخر عند زهير إلى النزعة القبلية أو الجماعية، وكذلك لم يكن الفخر بالذات من طبعه، ومن ثم فهو أبعد ما يكون عنه، وما وقع منه، وهو نادر جداً، ورد في صميم الهجاء في معرض الدفاع عن النفس ومدحها بالخصال الجاهلية الكريمة لإبراز مثالب المهجو:
فلا تحسبني، يا ابن أزنمَ، شحـمةً
تعجلّها طـاهٍ بـشيٍّ مـُلَهـوَجِ
لذي الفضل من ذبيان عندي مودة
وحِفْظٌ، ومَن يُلحِم من الشر أنسجِ
وإنّـي لطـلاّب الرجال مُطـَلَّب
ولستُ بمثلوجٍ ولا بـمُـعَلْهَـج
إن تجربة زهير الطويلة جعلته ينفذ إلى دخائل النفوس، ويعبر عنها بحكَم تعالج مختلف شؤونهم الحياتية والخُلقية، مما جعله يرسل الحكمة إرسالاً من دون تصنّع، ويطبعها بطابع الأمثال التي تسير على الألسنة قديماً وحديثاً، فالحكَم والأمثال عنده ذات طابع اجتماعي إنساني، وإن كانت تعبر عن شخصيته وطباعه:
ومن يكُ ذا فضلٍ فيـبخل بفضله
على قومه يُستغنَ عنه ويُذمَمِ
ومن يَغتربْ يحسب عدواً صديقَه
ومَن لا يُكرِم نفسَه لا يُـكرَمِ
لسان الفتى نِصفٌ ونصفٌ فؤادُه
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدمِ
يُعَد زهير من الوصّافين المعروفين بدقة الحس ونفاذ البصر، ولاسيما حين يعرض مشاهد الطبيعة الحية أو الجامدة في معرض أغراضه، وحظيت الناقة والخيل (الراحلة) بقسط وافر من وصفه، وتحدث عن الأطلال ورحلة الظعائن ومشهد الصيد والوحش. ولعل خصائص فنه تظهر في الوصف أكثر من أي موضوع آخر، لما يمتلئ به من الحيوية والحركة مع مراعاة الجوانب النفسية والمعنوية للموصوف مصوراً إياها بكل دقة وبراعة وجمال. وهو يؤدي أجمل صوره في ألفاظ قليلة، وصيغ مثيرة عذبة الإيقاع منسجمة الألحان، خالية من الغرابة، لتقع على النفس والأذن موقعاً جميلاً ومؤثراً، وهي تتساوق في تراكيب سهلة تتهادى بأسلوب محكم النسج دقيق النظم عليه البهاء والرونق لخلوه من التعقيد والحشو والمعاظلة، كما في مدحه لحصن بن حذيفة:
وأبيضَ، فيّاضٍ، يداه غمامة
على مُعْتفيه، ما تُغبُّ فواضلُه
تراه، إذا ما جئتَهُ، متهـللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أو في تصويره للحرب والتنفير منها في معلقته:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المُرَجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً
وتَضْرَ إذا ضرَّيتموها فتَضْرَمِ
فتعرككم عَرْكَ الرَّحى بثفالها
وتـلقَح كشافاً، ثم تنتج فتُتئـمِ
فالشاعر يُلم بلوحته الفنية أو بموضوعه إلماماً عاماً ثم يعمد إلى مبدأ الإحاطة والاستقصاء لكل عنصر من العناصر الفنية والفكرية فيتتبع جزيئاتها من دون نبو أو اضطراب، فينسق كل حركة فيها أو لون، ويرتب أحجامها وأبعادها المكانية والزمانية، ثم يوشيها بالانفعال الصادق.
جمع زهير في شعره بين الطبع الأصيل المواتي والنقي وبين الأناة والدربة والصقل والتنقيح من دون تكلف أو تصنّع، فكان وارثاً لشعر أبيه وجده وخاله بشامة بن الغدير، ولأشعار أستاذه أوس بن حجر وأستاذ أستاذه طفيل الغنوي، رواها وثقفها فتفوق على أصحابها، ثم صار رأس مدرسة أطلق عليها الأصمعي[ر] مدرسة «عبيد الشعر» ومن تلاميذها ابنه كعب والشاعر العبسي الحطيئة[ر] ثم هُدبة ابن الخشرم[ر] وجميل[ر] بثينة وكثيّر[ر] عزة وجرير[ر]. فأصحاب هذه المدرسة جعلوا عقولهم عياراً على فطرتهم وبديهتهم، فأعادوا النظر في كل ما صدر عن طبعهم وعاطفتهم ليرضوا أنفسهم وسامعيهم، حتى قيل إن أحدهم كان يترك قصيدته حولاً كاملاً يُردّد الرأي فيها ويعرضها على الناس لتخرج محكمة تتصف بالكمال الفني، ولهذا سميت الحوليات، أو المُحكمات، أو المنَقَحات، أو المقلّدات، ومن ثم سُمي صاحبها شاعراً خنذيذاً وشاعراً مُفْلِقاً.
عني زهير بالوحدة الموضوعية والمعنوية المسندة إلى مبدأ الاستطراد الفني في جميع قصائده سواء أكانت قصائد مركبة أو مقطعات بسيطة طرقت موضوعاً واحداً، فيثب بواساطة هذا المبدأ من فكرة إلى أخرى، ولكنها تظل مطردة الأجزاء تتحقق فيها الوحدة الشعرية على أكمل وجه وأدقه، في البدء والخروج والنهاية، بعد أن يهيئ الجو الشاعري لسامعه وقارئه، كل ذلك من دون إسفاف أوسقوط أو اضطراب. ولعل معلقته التي بلغت في بعض الروايات أربع وستين بيتاً تجسد ذلك، فلقد استهلها بالوقوف على أطلال زوجته أم أوفى، وتناول فيها شيئاً من الوصف الطريف الذي أشاع الحياة والحيوية رداً على الفناء، واسترجع أيامه الجميلة مع زوجته، ثم مدَّ بصره إلى رحلة الظعائن فعني بتصويرها أيّما عناية، فتجلت عنده روح الفنان المدقق، ثم مضى إلى المدح فأثنى على صنيع هرم بن سنان وابن عمه الحارث بن عوف. ومن ثم وقف موقف الناصح الحكيم الخبير، فحذّر من شرور الحرب وأوزارها وما تجلبه على الأحلاف والناس من فتك ودمار وقطع لأواصر الرحم من ذوي القُربى، ثم وضع بين أيديهم خلاصة تجاربه بعبارات قوية النسج سهلة واضحة تمتلئ بروح الحكمة والصفاء الخلقي.
حاز زهير مكانة فريدة في الشعر الجاهلي خاصة وفي الشعر العربي عامة، فكان نسيج وحده في كل ضروب الشعر التي أبدع فيها، حتى استحق لقب الفنان الحكيم. قال عنه ابن سلام[ر]:«أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأكثرهم أمثالا». وهو المفضّل عند تلميذه وراويته الحطيئة فقال فيه: «ما رأيت مثله في تكفّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء من اختلاف معانيها امتداحاً وذماً «وهو أشعر الشعراء عند أمير المؤمنين عمرt لأنه كان لا يعاظل بين الكلام ولا يتّبع وحشيَّه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه». ولهذا كله استحق مكانته في الطبقة الأولى عند ابن سلام، وهو في الثلاثة المقدمين عند ابن قتيبة وأبي الفرج الأصفهاني[ر] الذي أورد في كتابه «الأغاني» الكثير من أشعاره التي غناها المغنون في العصر العباسي، وهو مُقدّم عند أصحاب اللسان والنحو لما يمتلكه من قدرة لغوية. ولقد لقي شعره ولا سيما معلقته عناية القدماء والمحدثين، فاختيرت وشُرِحت في أمهات الكتب من مثل «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي و«شرح المعلقات السبع» للزوزني[ر]، وتُرجمت إلى لغات عالمية عدة منها الفرنسية والإنكليزية واللاتينية. وإذا كان شعر زهير كغيره من الشعر الجاهلي ووصل إلينا منه قسم وضاع قسم؛ فإنه أصيب بالزيادة والتحريف والنقص تبعًا لرواية الرواة، وانتقالها في الزمان والمكان، إلا انه يظل ثمرة نهائية لتجارب من سبقه ولتجارب عصره ومجتمعه وبيئته، إضافة إلى تجاربه الشخصية التي أبدعت شعراً ناضجاً وعميقاً يؤكد فرادته في الشعر العربي.
حسين جمعة
مراجع للاستزادة: |
ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، حققه أحمد شاكر (دار المعارف بمصر 1966).
ـ إحسان النص، زهير بن أبي سلمى (دار الفكر، دمشق، ط2 1985).