وين رايحين".. كوميديا سوداء تبحث عن عراق آمن داخل العراق
حيدر منعثر يتساءل: نحن وعراق ما بعد 2003.. إلى أين؟
الجمعة 2024/11/29
ShareWhatsAppTwitterFacebook
هرب من موت يلاحقهم قبل أوانه
"يولد الإنسان ليعيش حياته، لا يولد ليموت قبل الموت،" هذا ما أراد العراقي حيدر منعثر التعبير عنه في كوميديا سوداء تحمل عنوان "وين رايحين" وتتساءل عن وجهة العراق والمواطن العراقي واحتمالات تحقيق الأمن والأمان مسترجعة ما عاشه العراق خلال الـ21 عاما الأخيرة من حروب وصراعات طائفية نثرت دماءها على أغلب الأسر.
ما الذي فعلته الحروب بالعراق؟ أي قصص مأساوية يمكن أن يرويها لنا العراقيون؟ ذلك ما لا يستطيع المسرح العراقي التخلص منه، فهو يأتي تراجيديا موجعة، وأحيانا كوميديا ساخرة، ويذكرنا بأن الأمل لا يزال قائما وأن من أعظم مواهب الإنسان قدرته على السخرية من آلامه وأحزانه. وذلك هو الأسلوب الذي اتبعه المخرج العراقي الدكتور حيدر منعثر في عمله المسرحي “وين رايحين” الذي عرض في أيام قرطاج المسرحية، والذي هو كوميديا سوداء تسلط الضوء على الحياة في العراق بكل تعقيداتها وتناقضاتها مع توظيف لرموز من الموسيقى العراقية وهوية بلاد الرافدين.
"وين رايحين" إخراج وسينوغرافيا حيدر منعثر عن نص مسرحي بعنوان “الحافلة” للكاتب العراقي خالد جمعة، تمثيل كل من زهرة بدن وإياد الطائي ولؤي أحمد ولمياء بدن وطلال هادي وأمير إحسان ووسام بربن وسجاد شاكر وأحمد نادم. إضاءة عباس قاسم وأزياء زهرة بدن وتقني شاشة حسين إياد؟
سؤال لا إجابة له
◙ "وين رايحين" مقاربة لم تكتف بتقديم عرض كوميدي ساخر بل حولت المسرح إلى زمن للتفكير والنقاش
منذ العنوان يتفطن المتفرج إلى أننا أمام عمل مسرحي وجودي قد يثير فيه تساؤلات حول الزمان والمكان، وحول الوجهة وطريقه في الحياة. وهو بالفعل كذلك فـ”وين رايحين” جاءت تساؤلا عاما حول ثلاثة مسافرين عراقيين في سيارة نحو وجهة لا يعلمونها، مع سائق خبيث ومتهور يقود سيارته بالفطرة، شعاره “السياقة موش شي عادي، السياقة قيادة.. أكو ناس تقود وأكو ناس تنقاد، وتنقلب الدنيا إذا كلها تقود،” يرافقهم راكب لا يتكلم، منزو على يمين الخشبة يكتفي بقرع الطبول ولعب موسيقى حية تدعم نقاط التحول في النص المسرحي بين التراجيديا والكوميديا.
ركاب لا يجمعهم شيء، لا سكة ولا طريق سوى البحث عن الحقيقة التي ضاعت، يقفون مرغمين على ذكرياتهم منذ 21 عاما أي منذ 2003 والغزو الأميركي للعراق إلى الآن.
تتوقف السيارة لأنّ السائق نعسان ويريد أن يرتاح، ويأمر الركاب بتسليته بأن يقصّوا عليه حكاياتهم ومن لا تعجبه حكايته سيرميه في الصحراء، ثلاث حكايات لم تكن مجرد حكايات لشخصيات بل هي حكايات وطن بأكمله، بدءا من حكاية الأم التي تبحث عن ابنها الرضيع الذي سقط من على ظهرها خلال هربها من القصف الجوي لبغداد دون أن تدري أين ومتى سقط، والفتاة الهاربة من الموت الذي لحق بأهلها في أبشع مجزرة لإبادة جماعية شنها مقاتلو تنظيم داعش ضد الإيزيديين، وصولا إلى الرجل الذي بلغ 21 عاما وحصل على شهادته الجامعية ومعها شهادة طبية تؤكد إصابته بالسرطان بسبب إشعاعات الحروب، ولأن أهله قد رحلوا وحبيبته تخلت عنه، صنعهم على هيئة تماثيل يحملها معه في رحلته نحو المجهول.
“يتلاعب السائق بفصول الحكاية ومصير أبطالها لأنها من صنع قيادته، كما هو حالنا مع السائق، القائد، السلطة التي تقود رحلتنا في الحياة. ويتساءل الثلاثة بهروبهم هذا، أحقا هذه السيارة تحركت من مكانها نحو خلاصهم؟” هكذا يختصر حيدر منعثر فكرة عمله المسرحي، السائق هنا هو القائد السياسي للعراق، والشخصيات الثلاث هي نماذج مسرحية لأشخاص يمتلئ بهم العراق.
كل ممثل على حدا يخوض تجربة فنية ونفسية مهمة، يتصارع مع نفسه ومع الآخر، محاولا حماية ذاته ومن ثم حماية المجموعة كلها، مظهرا إلماما بأبعاد الشخصية ومقدرة على مخاطبة المتفرج ليستفز فيه ملكة التفكير في وجهاتنا، لا يهم الوطن الذي ننتمي إليه المهم أننا جميعا نبحث عن الأمان، تحت أي سماء وفوق أي أرض.
ورغم أنهم يسردون حكايات منفصلة بينما تتصل مصائرهم في لحظات الذروة الدرامية إلا أن الممثلين أظهروا تناغما كبيرا فيما بينهم وتمكنا من الإقناع عبر تنويع حركاتهم وانفعالاتهم وأصواتهم جعلت شخصياتهم شديدة الواقعية وهو ما يكشف قدرة المخرج على تأطيرهم وتوجيههم ومنحهم المساحات الزمنية والمكانية اللازمة لإتمام رسالاتهم ورهانه على قدرات فنية احترافية.
مسرح وثائقي تسجيلي
◙ رؤية إخراجية متميزة
إلى جانب التأطير الجيد للممثلين، أظهر حيدر منعثر رؤية إخراجية متميزة وظفت المسرح الوثائقي التسجيلي لتضفي أبعادا سينمائية تعزز من قيمة عرضه المسرحي، حيث عرض في عمق الخشبة مقاطع فيديو تسجيلية وإحصائيات وصورا توثيقية لنساء ورجال ومقاطع فيديو توثق حوادث تفجيرات وآثار الدمار الذي خلفه داعش في المدن التي سيطر عليها.
كذلك تنوعت عناصر الديكور، بين الكراسي الثابتة على الخشبة والتي يجلس عليها الركاب، والمنحوتات، وأخرى متحركة كتلك التي تشير إلى العربة وسيارة “التاتا” والمدرسة ولوحة السبورة والبيوت العراقية وكلها وجدت لتمنح رواية كل شخصية من الشخصيات الثلاث لحكاياتها، لمسة واقعية، وتراوح إيقاع العرض بين الثبات/ الروتين والديناميكية.
◙ "وين رايحين" إخراج وسينوغرافيا حيدر منعثر عن نص مسرحي بعنوان "الحافلة" للكاتب العراقي خالد جمعة
وكانت أزياء الممثلين مقنعة حيث ترتدي المرأة العجوز جلبابا أسود وهو الزي الغالب لنساء العراق، بينما ترتدي الفتاة الإيزيدية ثوبا رسمت عليه ورود حمراء، أما الشاب فيرتدي ثيابا أقرب لشخصيته الفنية، وكذلك تبرز أزياء أخرى شخصيات مقاتلي داعش والسائق والعازف المنزوي يمين الخشبة.
وجاء اختيار الموسيقى ليذكر برموز من الفن العراقي، أولها الفنان ياس خضر ومظفر النواب، ورائعتهما “مرينا بيكم حمد” والتي كتبها النواب وهو مسافر في قطار الدرجة الثالثة بعد أن استمعت لقصة امرأة أربعينية حزينة شاركته الطريق، أما الأغنية الثانية فكانت لكاظم الساهر “عبرت الشط”، وكلتاهما أغنيتان حزينتان ترمزان للتضحيات في سبيل العشق والفرار من الموت.
جاءت كل هذه العناصر داعمة لنص المسرحية الحافل بالرموز والذي قدم استعراضا شاملا للأحداث المؤثرة التي عصفت بالشعب العراقي ولأهم القضايا التي يعاني منها العراق اليوم، مع بعض التغييرات الواضحة التي أحدثها المخرج عليه باعتماده بعض المفردات والرموز التونسية قصد تعزيز الطابع الكوميدي للعمل المسرحي وتقريبه من المشاهد بكسر الغموض الذي قد يشوب اللهجة العراقية الشعبية لدى بعض المتفرجين.
نص عميق وحافل بالرمزية، انتقد الكثير من المفاهيم في المجتمع مثل الأمن والأمومة والفن والدين والديمقراطية والسلطة والوطن والحياة والموت، ونقل مشاعر الضياع والخوف والتعب من البحث عن الأمان التي يشترك فيها أغلب العراقيين، فكان نصا واقعيا فلسفيا.
مشهد منقوص
◙ نص عميق وحافل بالرمزية
منذ بداية العرض، اختار المخرج أن يشرك الجمهور في عمله المسرحي، واضعا بين يديه مغلفا يحتوي على الحلقة المفقودة من النص المسرحي، تلك الحلقة التي أمره بعدم الاطلاع عليها إلا بإشارة منه، لتكشف له في الأخير أن الأمل في عراق آمن وأفضل داخل العراق المضطر أمنيا وسياسيا لا يزال قائما.
حين يترجل الركاب الثلاثة من السيارة يقودهم ملثم داعشي بعد أن سألهم عن هويتهم، يكتشف هوية المرأة العجوز، إنها “خالة فطم” ولأنها خالة عزيزة يقرر تحريرها لكنها ترفض التخلي عن أولادها فيتركهم يكملون طريقهم. يعود الثلاثة إلى السيارة لتستمر رحلتهم في البحث عن الوطن داخل وطنهم.
تفاعل فكري ونفسي وعاطفي عاشه الجمهور مع عرض مسرحي مختلف، يسخر من الوضع القائم، يضع إصبعه على كل داء أصاب العراق منذ عقدين بل يتجاوزها إلى 70 عاما مضت، وكيف تغير شكل العراق وحال أهله.
"وين رايحين" مقاربة لم تكتف بتقديم عرض كوميدي ساخر بل حولت المسرح إلى زمن للتفكير والنقاش حول المشاكل التي تواجه المجتمع والتأمل في صراعات النفس البشرية، هو عمل مسرحي مهم يجعلنا نتساءل نحن “وين رايحين”؟
حيدر منعثر يتساءل: نحن وعراق ما بعد 2003.. إلى أين؟
الجمعة 2024/11/29
ShareWhatsAppTwitterFacebook
هرب من موت يلاحقهم قبل أوانه
"يولد الإنسان ليعيش حياته، لا يولد ليموت قبل الموت،" هذا ما أراد العراقي حيدر منعثر التعبير عنه في كوميديا سوداء تحمل عنوان "وين رايحين" وتتساءل عن وجهة العراق والمواطن العراقي واحتمالات تحقيق الأمن والأمان مسترجعة ما عاشه العراق خلال الـ21 عاما الأخيرة من حروب وصراعات طائفية نثرت دماءها على أغلب الأسر.
ما الذي فعلته الحروب بالعراق؟ أي قصص مأساوية يمكن أن يرويها لنا العراقيون؟ ذلك ما لا يستطيع المسرح العراقي التخلص منه، فهو يأتي تراجيديا موجعة، وأحيانا كوميديا ساخرة، ويذكرنا بأن الأمل لا يزال قائما وأن من أعظم مواهب الإنسان قدرته على السخرية من آلامه وأحزانه. وذلك هو الأسلوب الذي اتبعه المخرج العراقي الدكتور حيدر منعثر في عمله المسرحي “وين رايحين” الذي عرض في أيام قرطاج المسرحية، والذي هو كوميديا سوداء تسلط الضوء على الحياة في العراق بكل تعقيداتها وتناقضاتها مع توظيف لرموز من الموسيقى العراقية وهوية بلاد الرافدين.
"وين رايحين" إخراج وسينوغرافيا حيدر منعثر عن نص مسرحي بعنوان “الحافلة” للكاتب العراقي خالد جمعة، تمثيل كل من زهرة بدن وإياد الطائي ولؤي أحمد ولمياء بدن وطلال هادي وأمير إحسان ووسام بربن وسجاد شاكر وأحمد نادم. إضاءة عباس قاسم وأزياء زهرة بدن وتقني شاشة حسين إياد؟
سؤال لا إجابة له
◙ "وين رايحين" مقاربة لم تكتف بتقديم عرض كوميدي ساخر بل حولت المسرح إلى زمن للتفكير والنقاش
منذ العنوان يتفطن المتفرج إلى أننا أمام عمل مسرحي وجودي قد يثير فيه تساؤلات حول الزمان والمكان، وحول الوجهة وطريقه في الحياة. وهو بالفعل كذلك فـ”وين رايحين” جاءت تساؤلا عاما حول ثلاثة مسافرين عراقيين في سيارة نحو وجهة لا يعلمونها، مع سائق خبيث ومتهور يقود سيارته بالفطرة، شعاره “السياقة موش شي عادي، السياقة قيادة.. أكو ناس تقود وأكو ناس تنقاد، وتنقلب الدنيا إذا كلها تقود،” يرافقهم راكب لا يتكلم، منزو على يمين الخشبة يكتفي بقرع الطبول ولعب موسيقى حية تدعم نقاط التحول في النص المسرحي بين التراجيديا والكوميديا.
ركاب لا يجمعهم شيء، لا سكة ولا طريق سوى البحث عن الحقيقة التي ضاعت، يقفون مرغمين على ذكرياتهم منذ 21 عاما أي منذ 2003 والغزو الأميركي للعراق إلى الآن.
تتوقف السيارة لأنّ السائق نعسان ويريد أن يرتاح، ويأمر الركاب بتسليته بأن يقصّوا عليه حكاياتهم ومن لا تعجبه حكايته سيرميه في الصحراء، ثلاث حكايات لم تكن مجرد حكايات لشخصيات بل هي حكايات وطن بأكمله، بدءا من حكاية الأم التي تبحث عن ابنها الرضيع الذي سقط من على ظهرها خلال هربها من القصف الجوي لبغداد دون أن تدري أين ومتى سقط، والفتاة الهاربة من الموت الذي لحق بأهلها في أبشع مجزرة لإبادة جماعية شنها مقاتلو تنظيم داعش ضد الإيزيديين، وصولا إلى الرجل الذي بلغ 21 عاما وحصل على شهادته الجامعية ومعها شهادة طبية تؤكد إصابته بالسرطان بسبب إشعاعات الحروب، ولأن أهله قد رحلوا وحبيبته تخلت عنه، صنعهم على هيئة تماثيل يحملها معه في رحلته نحو المجهول.
“يتلاعب السائق بفصول الحكاية ومصير أبطالها لأنها من صنع قيادته، كما هو حالنا مع السائق، القائد، السلطة التي تقود رحلتنا في الحياة. ويتساءل الثلاثة بهروبهم هذا، أحقا هذه السيارة تحركت من مكانها نحو خلاصهم؟” هكذا يختصر حيدر منعثر فكرة عمله المسرحي، السائق هنا هو القائد السياسي للعراق، والشخصيات الثلاث هي نماذج مسرحية لأشخاص يمتلئ بهم العراق.
كل ممثل على حدا يخوض تجربة فنية ونفسية مهمة، يتصارع مع نفسه ومع الآخر، محاولا حماية ذاته ومن ثم حماية المجموعة كلها، مظهرا إلماما بأبعاد الشخصية ومقدرة على مخاطبة المتفرج ليستفز فيه ملكة التفكير في وجهاتنا، لا يهم الوطن الذي ننتمي إليه المهم أننا جميعا نبحث عن الأمان، تحت أي سماء وفوق أي أرض.
ورغم أنهم يسردون حكايات منفصلة بينما تتصل مصائرهم في لحظات الذروة الدرامية إلا أن الممثلين أظهروا تناغما كبيرا فيما بينهم وتمكنا من الإقناع عبر تنويع حركاتهم وانفعالاتهم وأصواتهم جعلت شخصياتهم شديدة الواقعية وهو ما يكشف قدرة المخرج على تأطيرهم وتوجيههم ومنحهم المساحات الزمنية والمكانية اللازمة لإتمام رسالاتهم ورهانه على قدرات فنية احترافية.
مسرح وثائقي تسجيلي
◙ رؤية إخراجية متميزة
إلى جانب التأطير الجيد للممثلين، أظهر حيدر منعثر رؤية إخراجية متميزة وظفت المسرح الوثائقي التسجيلي لتضفي أبعادا سينمائية تعزز من قيمة عرضه المسرحي، حيث عرض في عمق الخشبة مقاطع فيديو تسجيلية وإحصائيات وصورا توثيقية لنساء ورجال ومقاطع فيديو توثق حوادث تفجيرات وآثار الدمار الذي خلفه داعش في المدن التي سيطر عليها.
كذلك تنوعت عناصر الديكور، بين الكراسي الثابتة على الخشبة والتي يجلس عليها الركاب، والمنحوتات، وأخرى متحركة كتلك التي تشير إلى العربة وسيارة “التاتا” والمدرسة ولوحة السبورة والبيوت العراقية وكلها وجدت لتمنح رواية كل شخصية من الشخصيات الثلاث لحكاياتها، لمسة واقعية، وتراوح إيقاع العرض بين الثبات/ الروتين والديناميكية.
◙ "وين رايحين" إخراج وسينوغرافيا حيدر منعثر عن نص مسرحي بعنوان "الحافلة" للكاتب العراقي خالد جمعة
وكانت أزياء الممثلين مقنعة حيث ترتدي المرأة العجوز جلبابا أسود وهو الزي الغالب لنساء العراق، بينما ترتدي الفتاة الإيزيدية ثوبا رسمت عليه ورود حمراء، أما الشاب فيرتدي ثيابا أقرب لشخصيته الفنية، وكذلك تبرز أزياء أخرى شخصيات مقاتلي داعش والسائق والعازف المنزوي يمين الخشبة.
وجاء اختيار الموسيقى ليذكر برموز من الفن العراقي، أولها الفنان ياس خضر ومظفر النواب، ورائعتهما “مرينا بيكم حمد” والتي كتبها النواب وهو مسافر في قطار الدرجة الثالثة بعد أن استمعت لقصة امرأة أربعينية حزينة شاركته الطريق، أما الأغنية الثانية فكانت لكاظم الساهر “عبرت الشط”، وكلتاهما أغنيتان حزينتان ترمزان للتضحيات في سبيل العشق والفرار من الموت.
جاءت كل هذه العناصر داعمة لنص المسرحية الحافل بالرموز والذي قدم استعراضا شاملا للأحداث المؤثرة التي عصفت بالشعب العراقي ولأهم القضايا التي يعاني منها العراق اليوم، مع بعض التغييرات الواضحة التي أحدثها المخرج عليه باعتماده بعض المفردات والرموز التونسية قصد تعزيز الطابع الكوميدي للعمل المسرحي وتقريبه من المشاهد بكسر الغموض الذي قد يشوب اللهجة العراقية الشعبية لدى بعض المتفرجين.
نص عميق وحافل بالرمزية، انتقد الكثير من المفاهيم في المجتمع مثل الأمن والأمومة والفن والدين والديمقراطية والسلطة والوطن والحياة والموت، ونقل مشاعر الضياع والخوف والتعب من البحث عن الأمان التي يشترك فيها أغلب العراقيين، فكان نصا واقعيا فلسفيا.
مشهد منقوص
◙ نص عميق وحافل بالرمزية
منذ بداية العرض، اختار المخرج أن يشرك الجمهور في عمله المسرحي، واضعا بين يديه مغلفا يحتوي على الحلقة المفقودة من النص المسرحي، تلك الحلقة التي أمره بعدم الاطلاع عليها إلا بإشارة منه، لتكشف له في الأخير أن الأمل في عراق آمن وأفضل داخل العراق المضطر أمنيا وسياسيا لا يزال قائما.
حين يترجل الركاب الثلاثة من السيارة يقودهم ملثم داعشي بعد أن سألهم عن هويتهم، يكتشف هوية المرأة العجوز، إنها “خالة فطم” ولأنها خالة عزيزة يقرر تحريرها لكنها ترفض التخلي عن أولادها فيتركهم يكملون طريقهم. يعود الثلاثة إلى السيارة لتستمر رحلتهم في البحث عن الوطن داخل وطنهم.
تفاعل فكري ونفسي وعاطفي عاشه الجمهور مع عرض مسرحي مختلف، يسخر من الوضع القائم، يضع إصبعه على كل داء أصاب العراق منذ عقدين بل يتجاوزها إلى 70 عاما مضت، وكيف تغير شكل العراق وحال أهله.
"وين رايحين" مقاربة لم تكتف بتقديم عرض كوميدي ساخر بل حولت المسرح إلى زمن للتفكير والنقاش حول المشاكل التي تواجه المجتمع والتأمل في صراعات النفس البشرية، هو عمل مسرحي مهم يجعلنا نتساءل نحن “وين رايحين”؟