ألوان هنري ماتيس الجامحة أسست لمدرسة فنية جديدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ألوان هنري ماتيس الجامحة أسست لمدرسة فنية جديدة

    ألوان هنري ماتيس الجامحة أسست لمدرسة فنية جديدة


    رسام جرب أكثر من مدرسة ليصنع أسلوبه الوحشي الفريد.
    الاثنين 2024/11/18
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أجواء حمراء وديكور ملهم

    ما الذي دفع هنري ماتيس ليرسم بكثير من الوحشية وبألوان حادة ومبهمة؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عنه دون معرفة سيرة الرسام الفرنسي الشهير، ومنها يكتشف سر انبهاره بالمغرب وثرائه الثقافي وتخليه عن هذه المدرسة نهائيا.

    كان العام 1905 عاما مفصليا للرسام الفرنسي هنري ماتيس (1869 – 1954) وللفن التشكيلي العالمي ككل. في هذا العام تأسست مدرسة فنية جديدة سميت بالمدرسة الوحشية على يد ماتيس وأصدقائه الرسامين أندريه ديران وموريس دي فلامينك وتحديدا بعد معرضهم الذي أقاموه في باريس وعرضوا فيه لوحاتهم حيث شارك ماتيس بلوحته الشهيرة “امرأة القبعة – 1905” التي تصور زوجته إميلي ماتيس باردة المعالم وهي جالسة على كرسي بكامل أناقتها تضع قبعة من الريش فوق رأسها وتنظر إليه!

    المشكلة لم تكن بموضوع اللوحة وإنما كانت بالألوان الصارخة التي استخدمها ماتيس وهي الأزرق الغامق والأخضر بتدرجاته والبرتقالي بتدرجاته والزهري بأسلوب تزييني غير منتظم، فالوجه لونه بالأخضر الفاتح والشعر بالبرتقالي واليدين بالأخضر الغامق والقبعة بالأزرق الغامق مع بعض البرتقالي والأخضر ولون الخلفية المبهمة بالزهري والأخضر والأزرق، وكامل الألوان هذه لون فيها وجه المرأة فبدت كأنها حائط ملون مما أثار استياء الزوار الذين شاهدوها والنقاد على حد سواء بسبب فقدان التسلسل الهرمي للأمام والخلفية والتأثير اللوني الجامح.
    وحشية لونية




    كانت لوحة “امرأة القبعة” واحدة من عشرات اللوحات التي عرضت في ذاك المعرض الكارثي ما دفع الناقد الفني الفرنسي لويس فاوكسيلز إلى وصف الفنانين الذين أقاموا ذلك المعرض “بالوحوش البرية”، ونتيجة لهذا الوصف أطلق اسم المدرسة الوحشية على أعمال ماتيس وأصدقائه ليتم استخدام هذا المصطلح لاحقا على أي عمل مشابه لأعمال هنري ماتيس الذي رسم في نفس العام لوحتين أخريين أطلقتا شهرته وهما “الشريط الأخضر – 1905” وتعرف أيضا باسم “صورة مدام ماتيس”.

    هذه اللوحة هي عبارة عن منظر مقرب لوجه إميلي ماتيس وقد انقسم لقسمين بواسطة خط أخضر ابتداء من الجبين وانتهاء بالأنف. ونسبة لهذا الخط سميت اللوحة بهذا الاسم “الشريط الأخضر” الشريط الذي قسم الوجه إلى قسمين أحدهما بلون البشرة الطبيعية للإنسان والآخر باللون الأصفر والشعر بالأزرق، أما خلفية اللوحة فكانت بالأخضر الفاتح، والمتأمل لهذه اللوحة يشعر بأنه أمام منظر لوجه امرأة يابانية بسبب ملامحها وتسريحة شعرها.

    وكان ماتيس من المعجبين بالفن الياباني والمتأثرين به وخصوصا الحركة الفنية اليابانية المسماة “أوكيو – أي” أو “صور العالم العائم”، وهي حركة فنية بالغة القدم في اليابان حيث تعتمد رسم الزخارف والمنمنمات الصغيرة كالأزهار والنباتات. بالنسبة للفنانين اليابانيين كانت هذه الحركة عبارة عن حالة تأمل فلسفية لما يحصل بالطبيعة أمامهم كتفتح أزهار الكرز، حيث قالوا عن أنفسهم “نعيش اللحظة فقط ونصبح هائمين بما نشاهده كيقطينة عائمة مع تيار النهر”. وقد تأثرت المدرسة الانطباعية بهذه الحركة الفنية اليابانية وتحديدا أعمال رائدها كلود مونيه (1840 – 1926).

    أما اللوحة الثالثة التي أنجزها هنري ماتيس ذاك العام فهي “فرحة الحياة – 1905” التي تصور مجموعة من النساء العاريات في غابة وكأنهن حوريات في جنة موعودة يمارسن طقوسا مختلفة وخلفهن نهر يجري بألوان مزركشة صارخة، ففي بداية اللوحة على اليمين امرأة تعانق رجلا عاريا وبقربهما امرأة تعزف على الناي وعلى اليسار امرأة منحنية تقطف العشب وبجانبها امرأة تصنع عقدا من الزهور وخلفها امرأتان تتعانقان وفي المنتصف امرأتان عاريتان ممددتان على العشب تسندان رأسيهما على ذراعيها، وفي أقصى اليمين امرأة أخرى تعزف على الناي وبقربها ظبيان يتناولان العشب، أما في عمق اللوحة فتظهر ست نساء يمسكن أيديهن ويرقصن بفرح غامر.

    بعدها بعامين سوف يرسم ماتيس لوحة تشبهها وهي “الموسيقى – 1907” لعدة نساء عاريات هائمات لونت أجسادهن بالأحمر يمسكن أيديهن ويرقصن بشكل دائري أعلى تل أخضر. ويقال إن لوحته “فرحة الحياة” كانت مرجعية للفنان الإسباني بابلو بيكاسو حين رسم لوحته الشهيرة “نساء أفينيون” عام 1907، ذاك العام الذي كان حافلا بالنسبة لماتيس والذي رسم فيه لوحته الشهيرة الأخرى “الأزرق العاري” وهي عبارة عن امرأة عارية ممدة على العشب بفخذين كبيرين أشبه بأفخاذ الرجال ولون جسدها بالأزرق الأمر الذي وجه إليه انتقادات واسعة لرسمه الجسد الأنثوي بهذه الطريقة المنفرة.
    الصحراء الحمراء




    عندما رسم هنري ماتيس لوحته الشهيرة “تناغم الأحمر” أو “الحلوى” عام 1908 أراد في البداية أن يكون اللون الأزرق بدل الأحمر بحيث كان اسمها “تناغم الأزرق” لكنه سرعان ماعدلها فأصبح الأحمر الداكن هو الطاغي، حيث لون الجدار خلف المرأة التي تضع أطباق الفاكهة على المائدة كما جعل لون غطاء المائدة أحمر وتزينه نفس النقوش التي تزين الحائط ورسمها بالأزرق الغامق، وهي نقوش استوحاها من زخارف الفن الإسلامي الذي تأثر به كثيرا وأدخله كعنصر أساسي في لوحاته اللاحقة إضافة إلى المنهج الياباني “أوكيو – أي”، واللوحة أطلق عليها بعد انتهائه منها اسم “الصحراء الحمراء” وأرسلها إلى جامع اللوحات الروسي سيرجي شتشتوكين الذي اشتراها منه بعد مشاهدتها في المعرض الذي أقامه عام 1908.

    اللوحة عبارة عن مشهد عام لامرأة داخل منزلها تقوم بترتيب أطباق الفواكه وملامح وجهها غير ظاهرة كثيرا وزجاجات النبيذ على المائدة، وفي الخارج تبدو بعض الأشجار وكأن الظلام قد حل واللوحة كانت مرجعا للكثير من الفنانين ومنهم سينمائيون ومن أشهرهم المخرج السويدي إنغمار برغمان حيث استوحى أجواءها الحمراء وديكورها الداخلي في فيلمه الشهير “صرخات وهمسات” حيث طغى اللون الأحمر على منزل الشقيقات الثلاث في الفيلم.

    ولا بد أن نذكر أن هنري ماتيس مثله مثل الفنانين الانطباعيين الذين تأثر بهم كان يركز على المنظر العام في اللوحة مهملا التفاصيل الصغيرة. كما تأثر بالمدرسة الانطباعية الجديدة أو “ما بعد الانطباعية” التي أسسها جورج سورا (1859 – 1891) أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا وظهر ذلك جليا في لوحاته ذات الوجوه بلا معالم كلوحته “الرسام والموديل – 1917” ولوحة “زهر البرقوق 1948”.

    يظهر الأشخاص في هذه اللوحات دون أن تظهر معالم وجوههم وكأنهم بلا وجوه، وهذه الميزة كان قد اكتسبها من لوحات سورا وشخصياته التي كانت أشبه بالدمى أو التماثيل، فكان إذا ماتيس يجمع بين عدة تيارات فنية في لوحاته كالانطباعية وما بعد الانطباعية والحداثية والفن الياباني والفن الإسلامي ليصنع لنا خلطة فنية جديدة أطلق عليها اسم "المدرسة الوحشية".
    الغرفة 35


    زار ماتيس مدينة طنجة في المغرب لأول مرة عام 1912 وافتتن بها وبخليجها وشاطئها البحري، فتكررت زياراته إليها حتى العام 1913، وكان حين يصل يقيم في فندق فيلا دي فرانس وتحديدا في الغرفة رقم خمسة وثلاثين التي تطل على طنجة كلها ومنها رسم أجمل لوحاته للمدينة وخليجها أهمها “نافذة فندق فيلا دي فرانس” التي يصور بها نافذة غرفته المفتوحة المطلة على الشاطئ البحري وقد ألهمته هذه النافذة كثيرا ليرسم منها عشرات اللوحات لهذه الإطلالة على خليج طنجة الممتد في زرقته وبهائه، كما أغرته تفاصيل المدينة القديمة وأسوارها البرتغالية وخلفها جبال أوروبا فرصدها بعينه وأبدعها بريشته.

    وبقي ماتيس ينوع أساليبه الفنية حتى نهاية حياته كما أنه كان دائم التجريب ومحبا للألوان الصارخة وفي آخر حياته اهتم بفن الكولاج ونشر عام 1947 كتابه “الجاز” ذا الطبعات القليلة والذي يحتوي داخله على لوحات مطبوعة ملونة بتقنية الكولاج.

    وفي سنواته الأخيرة وتحديدا في العام 1951، انهمك لمدة أربع سنوات في تصميم المدخل والنوافذ الزجاجية والديكورات الداخلية لكنيسة فونس إلى أن توفي بنوبة قلبية عام 1954 عن أربعة وثمانين عاما ودفن في مقبرة بالقرب من مدينة نيس الفرنسية.


    عوالم فنية فيها بصمة الفنان




    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    إلياس حموي
    كاتب سوري
يعمل...
X