القراءة والكتابة ليستا ترفا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القراءة والكتابة ليستا ترفا

    القراءة والكتابة ليستا ترفا


    الكتب تنقذ العقل من الخواء وقد تخرج الإنسان من فترات سجن طويلة.


    بالقراءة تتقدم الشعوب

    يبتعد العرب تدريجيا عن القراءة والكتابة، ويميلون إلى اكتساب عادات جديدة تفرغ عقولهم، فحتى السياسات الحكومية تعمل ببطء شديد في التشجيع على هاتين الملكتين ولا تهتم كثيرا لذلك، وبينما تحذر المنظمات من أزمات مرتقبة في الغذاء وبطون ستصبح خاوية، من المهم أيضا التحذير من العقول الخاوية وشدة تأثيرها في المجتمعات.

    تعدّ القراءة والكتابة عمليتين متكاملتين رئيسيتين في نهضة الأمم وتطورها، حيث تدعمان الإنسان وتعززان دوره في مجتمعه. وتسبق عملية الكتابة منطقيا فعل القراءة؛ فالإنسان يقرأ ما يكتب ويكتب ما يقرأ. ونحن اليوم بفضل الكتابة، نقرأ ما توصل إليه السابقون والحاضرون من علوم وفنون وفلسفة، فنكتسب أحيانا معارف ومهارات لا تتيحها لنا الحياة بالمجان.

    ورغم تطور الشعوب وتقدمها وتنافسها على الإقبال على القراءة والكتابة، إلا أن أغلب الشعوب العربية لا تزال تنظر إلى فعل القراءة والكتابة على أنه لا يتعدى كونه ترفا لا يقدّم ولا يؤخر ولا يقبل عليهما سوى من يمتلك الكثير من الفراغ.

    ويثبت المرور السريع للزمن أن المجتمعات الإسلامية و”أمة اقرأ” تتذيل ترتيب الشعوب التي تقرأ وتكتب.

    وإذا ما كنت فتاة، ومسكت كتابا تقرئينه أو ألفت كتابا، سرعان ما ترمقك نظرات ساخرة، تتهمك بـ”الفراغ” و”التفاهة” فنظيراتك في السنّ تزوجن وأسسن أسرا وأنت لا زلت تقرئين الكتب وتخصصين لها وقتا ضمن جدولك اليومي. وإن تجاوزت الخامسة والعشرين ولا زلت تقومين بطقوسك في المطالعة، ليس من الغريب أن تصبحي موضوع تندر وسخرية من قبل أغلب المحيطين بك. وحدهم من يوافقونك الرأي والسلوك يحترمون ذلك الفعل.

    بعض السجون العربية أثبتت أن القراءة والكتابة لم تعودا في عصرنا فعلا يدلّ على الترف في الوقت والتفكير والانشغالات

    ووحدها بعض السجون العربية أثبتت أن القراءة والكتابة لم تعد في عصرنا فعلا يدلّ على الترف، الترف في الوقت والتفكير والانشغالات.

    استرجعت هذه الأفكار وأنا أقرأ مقالا حول السجون والمعتقلات في بوليفيا التي صارت تنظم برنامج قراءة مدعوما من السلطات الحكومية للمحتجزين لتكون فرصة لهم للخروج من السجن قبل أيام أو أسابيع من موعد الإفراج عنهم، بتشجيعهم على القراءة مقابل تقليل فترات عقوبتهم.

    ويستطيع النزلاء في سجون بوليفيا المكتظة تقليص فترات سجنهم من خلال برنامج “كتب خلف القضبان” الذي يهدف إلى محو الأمية والتعليم ومنح المحتجزين الأمل في حياة أفضل على الرغم من بطء الإجراءات القضائية.

    وتذكر التجربة البوليفية بتجربة مماثلة في العديد من الدول الغربية إلا أنها لم تعتمد بعد في الدول العربية، رغم أن سجونها لا تخلو بالتأكيد ممن يرغبون في التعلم واستغلال حبهم للاطلاع والدراسة في تخفيف عقوباتهم السجنية.

    ففي البرازيل مثلا، لدى المؤسسة السجنية برنامج اسمه “الإصلاح عبر القراءة”، فعندما ينتهي أحد السجناء من قراءة كتاب، فإنه ينتقص أربعة أيام من مدة عقوبته. هكذا بكل بساطة.

    وتأتي قائمة الكتب من مواضيع معتمدة في العلوم والأدب والفلسفة. ويتعين على السجناء أن يكتبوا مقالة تبيّن أنهم فهموا الكتاب، على أن تكون المقالة مكتوبة بخط واضح، وخالية من الأخطاء الإملائية.

    ويحظى السجين البرازيلي بمهلة شهر واحد لإنهاء الكتاب، أي يمكنهم أن يقرأوا اثني عشر كتابا في السنة الواحدة، مما يعني أنه بإمكانه أن يخفف سبعة أسابيع من مدة عقوبته. وبهذا يمكن أن تقلص القراءة مدة سنة من عقوبة بالسجن مدتها سبعة أعوام، وما يصل إلى عامين من مدة 14 سنة سجنا.


    "أمة اقرأ" تتذيل ترتيب الشعوب التي تقرأ


    الأمر نفسه في إيطاليا، حيث تعتمد الدولة منذ العالم 2014 قانونا يجيز تخفيض عقوبة الحبس مقابل قراءة الكتب، وبوسع كل سجين الحصول على تخفيض بثلاثة أيام من عقوبته وبحد أقصى 48 يوما في السنة إذا قرأ 16 كتابا في عام واحد، على أن يكون محكوما بستة أشهر على الأقل.

    وفي بريطانيا، التي يتداول أبناؤها منذ عقود مزحة تفيد بأن الكتب هي أفضل طريقة للهرب من السجون، صارت القراءة تلعب دورا كبيرا في تغيير سلوكيات النزلاء بالسجون وتخرجهم من الحالة النفسية التي يقبعون بها على إثر ما اقترفوه من جرائم.

    وصارت “الحرية” دافعا عمليا لقراءة الكتب، ولكن بينما يقرأ السجناء، فإنهم يتعلمون أيضا بأن هناك طريقة أخرى للحياة، ويتعلمون عادة القراءة لاكتساب المعرفة، وتمكن المقتنيات التي توفرها السجون بناء على اختيار متخصصين نفسيين، من إعادة تشكيل وعي السجين وتؤطره وتحسّن من سلوكه ومن فهمه لنفسه وللحياة من حوله، فيغادر عدد كبير من السجناء بأرواح وعقول جديدة، لا تعيدهم إلى أسوار الحبس ولا إلى أسوار الجهل.

    وفي تونس، الدولة التي يتباهى أبناؤها بتقدمها عن جيرانهم العرب في القضايا الحقوقية والإنسانية، لم تصل السجون بعد إلى مثل هذه الممارسات، وإنما تظل الكتابة والقراءة فعلا محدودا تدعمه بعض الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والهدف الرئيسي منه محاربة التطرف الفكري.

    وصارت الكتب خلال الأعوام الماضية متاحة داخل السجون التونسية بفضل المبادرة التي أطلقتها المدونة والحقوقية الراحلة لينا بن مهني من شبكات التواصل الاجتماعي تحت شعار “من حق السجين أن يقرأ” وكانت تهدف إلى جمع الآلاف من الكتب وتوزيعها على كافة السجون التونسية لحث المساجين على المطالعة وتنمية القراءة لديهم من أجل رفع المستوى المعرفي لديهم وحمايتهم من كل أشكال الدمغجة.

    بينما صارت القراءة والكتابة فعلا طبيعيا بين أسوار السجون، يبدو أن من يقبعون خارجها سجنوا أنفسهم في أفكار وعقول تحيد يوما تلو الآخر بعيدا عن هاذين الفعلين

    وفي السجون الإسرائيلية، لا يعدّ الكتاب بالنسبة إلى الأسرى الفلسطينيين “كتابا فقط” بل هو حرية وحياة للقابعين بين الأسوار، توفرها المكتبات والمقتنيات العائلية وحتى أرشيفات السجون، وإن منع عن المساجين القراءة والكتابة، اجتمعوا في حلقات ليروي لهم شفويا حكواتي، يتم اختياره من بينهم، قصصا وحكايات من الكتب والروايات العربية والعالمية.

    ويقول المؤلف والروائي البريطاني الشهير تشارلز ديكنز “إن العظيم بين الناس من كان عظيما في شقائه وعظيما في سجنه وعظيما في قيوده”، لذلك تظهر من المسجونين العديد من المواهب التي تبعث من وراء جدران سجونهم فيكون التضييق عليهم توسيعا لمعارفهم، وتقلص جسومهم تمديدا في عقولهم.

    واصطلح على مجموع الإبداعات التي ولدت في عتمة الأقبية وظلام الزنازين وخلف القضبان الحديدية، والتي خرجت من رحم الوجع اليومي الذي يحياه السجين، والمعاناة النفسية التي كانت تعترضه نتاجا لفنون الأنظمة في التعذيب والتنكيل، اصطلح على تسميته بـ”أدب السجون”.

    وبينما صارت القراءة والكتابة فعلا طبيعيا بين أسوار السجون، يبدو أن من يقبعون خارجها سجنوا أنفسهم في أفكار وعقول تحيد يوما تلو الآخر بعيدا عن هاذين الفعلين، فحتى وسائل الإعلام الورقية والإلكترونية باتت تشكو من قلة القرّاء، وحركة النشر صارت تقدم للقارئ المتمكن مؤلفات تكون أحيانا ذات أخطاء لغوية كارثية، بينما ينظر الغالبية إلى الحملات النادرة لتشجيع الناس على القراءة على أنها مبالغة في الاهتمام بمسائل ثانوية.

    وفيما نجد في تونس مبادرات مثل “تونس تقرأ” وصفحة “عشاق الكتب” المشجعة على القراءة والكتابة، تستفزك أحيانا بعض التعليقات الواردة عليها، من قبيل أن “الي قرو ماتوا” (من قرأ مات)، و”فاضين شغل” بمعنى لديكم الكثير من الوقت للقراءة، وكأن القراءة والكتابة ترف لا يتمتع به الجميع! فمتى يدرك العرب أن القراءة والكتابة ليستا ترفا وإنما بهما تبنى المجتمعات مجدها وتعالج أبناءها وتنير عقولهم؟

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    حنان مبروك
    صحافية تونسية
يعمل...
X