عند القارئ هناك أفقان للانتظار أحدهما أدبيّ والثاني اجتماعيّ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عند القارئ هناك أفقان للانتظار أحدهما أدبيّ والثاني اجتماعيّ

    عند القارئ هناك أفقان للانتظار أحدهما أدبيّ والثاني اجتماعيّ


    القارئ المثالي كائن خيالي تحاول النظريات إيجاده.


    كيف يجد الكاتب قارئه المفضل (عبداللطيف الصمودي)

    ظهرت نظريات التلقي كردّ فعل على الأزمة التي وصلت إليها المؤسسة الأدبية عموما والأكاديمية بصفة أخصّ في نهاية الستينات، حيث أعلن بعض المنظرين استغناءهم عن المفهوم الكلاسيكي لتاريخ الأدب، واقترحوا قواعد جديدة لدراسة الآثار الأدبية. وخلافا للبحث القديم عن المعنى الذي يُفترض أنه كامن في النص، اعتبرت فينومينولوجيا القراءة أن تشكّل المعنى هو تجربة ناجمة عن تفاعل بين النص والقارئ عبر مسار قراءةٍ كلّيّ.

    نظرية جمالية التلقي أرادها هانز يوس أحد رموز مدرسة كونستانس الألمانية نمطا من التحليل ينتقل من ثنائية المؤلف والنصّ إلى علاقة النصّ والقارئ، ليدرس مناهج تحليل الشروط المادية والاقتصادية والاجتماعية لإنتاج الأعمال الأدبية ونشرها واستهلاكها، واضعا القارئ في الحسبان.

    ولئن كانت جمالية التلقي في نظر راينر فارننغ تخصّ دراسة طرق التقاء الأثر بالمتلقي وما ينجرّ عن ذلك من نتائج، بغية تجاوز الأشكال التقليدية لجمالية الإنتاج، فإن يوس جعل من فهم جمالية التلقي وسيلة لتحديد ما يقوم عليه تاريخ الأدب، هذا التاريخ الذي يُنظر إليه بوصفه علاقة اتصال أو انفصال تربط النص بمعايير عصره وبنتاجات أخرى حاضرة أو ماضية، أي أنها ليست تتابع منظومات جمالية شكلية، ولا هي تقيم وزنا للعلاقة التاريخية بين المؤلفين وآثارهم، بل لعلاقة الأثر بالقارئ، لأن الآثار في اعتقاد يوس لا يكون لها تاريخ إلا متى قرئت؛ أي أن وساطة القارئ هي وحدها التي تُدخل الأثر في أفق تجربة تتحرّك باستمرار.


    الكاتب بوصفه قارئا في البداية

    انتظارات القارئ


    لفهم القطيعة التي تحصل في علاقة النص والقارئ، يتساءل يوس: كيف نفسّر عدم الاكتراث الذي تُقابَل به آثارٌ أدبيةٌ تظلّ تنتظر جمهورا جديدا كي تحظى بالفهم والتقدير؟ وما هو السؤال الذي طرحه عليها القارئ في لحظة ما من التاريخ؟ وهو تساؤل يضع في حسبانه “المعاني الافتراضية” الموجودة في تلك الآثار، أو ما أطلق عليه يوس “أفق الانتظار”، ويعني به كلّ الأسئلة التي تخطر على البال طيلة قراءة أثر ما.

    فالكاتب، بوصفه قارئا في البداية، هو الذي يضع الآثار موضع مساءلة، ويكون غير راض بالأجوبة التي يتلقّاها. وعندما يؤلف كتابه يصبح متلقّيا نشطًا، أي منتجا لأفق انتظار أدبيّ. وفي رأي يوس أننا إذا أردنا أن نعرف أيّ سؤال طرحه القارئ على الأثر ينبغي أوّلا أن يسأل الكاتب أثره: “ما هو السؤال الذي يمكن أن يطرحه القارئ، لو قُدّر له أن يقرأ نصي؟”.

    وحسب نظرية يوس، فإن الأدب لا يستطيع أن يتوصل إلى إعادة طرح السؤال الأصلي إلا بدراسة المعاني الافتراضية المدرَجة في الأثر، غير أن تلك المعاني الافتراضية لا تُدرك إلا من خلال معرفة طلب القراءة الذي انخرط فيه المؤلف.

    القراء يختلفون في سنّهم وتكوينهم وميولهم ومستواهم المعيشي، فأي قارئ يختار الكاتب وأي أفق انتظار يلبّي؟

    في هذه الحلقة الهرمسية يحدّد يوس ما أسماه أفق الانتظار الأدبيّ، ويجعله رهين عوامل رئيسية: التجربة المسبقة التي يحملها جمهور القراء عن جنس النص، شكل وثيمة الأعمال السابقة التي يُفتَرض أن الأثر الجديد على علم بها (كفايات تناصيّة)، تعارض اللغة الإنشائية واللغة المستعملة، العالم الخيالي والواقع اليومي، إضافة إلى أفق الانتظار الاجتماعي، ويعني به استعداد الذهن أو المعيار الجمالي للقراء الذي يكيّف التلقّي.

    ذلك أن يوس يميز بين أفقَين اثنين للانتظار، أحدهما أدبيّ والثاني اجتماعيّ، كي يتمكن من تقويم المفعول الذي يتركه الأثر الأدبي، والتلقّي الذي يحدد المتلقي حتى يفهم العلاقة بين النص والقارئ، وبالتالي العلاقة بين أفقين.
    الاِسمانيّة الجامدة


    في اعتقاد يوس أن جمالية التلقي لا تسمح فقط بإدراك معنى الأثر الأدبي وشكله كما تمّ فهمهما عبر التاريخ، بل تفرض أيضا أن يوضع كل أثر في الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه (رواية، شعر، مسرح)، حتى يسهل تحديد وضعه التاريخي، ودوره وأهميته في الإطار العامّ للتجربة الأدبية.

    وبذلك يشكلّ مصطلح أفق الانتظار أحد المفاهيم المفاتيح في جمالية التلقّي، ولكن شرط ألا يُنظر إليه كنوع من الاِسمانيّة الجامدة كما يقول، والاسمانية (Terminisme) هي مذهب فلسفي يقول إن المفاهيم المجردة ليس لها وجود حقيقيّ، وإنها مجرّد أسماء.

    وقد اشترط يوس أيضا أن يجهّز كل قارئ معارفه الثقافية وإلمامه بالجنس، واستئناسه بالشكل والثيمة، وكل ما يستطيع حشده في النص كي يفهمه بطريقة أفضل.
    القارئ المثالي



    الحق أن ما يطرحه يوس لم يغادر المجال النظري ليخضع للتجربة والتطبيق، وإن شهد حضورا بارزا في أغلب الدراسات النقدية والنظرية المعاصرة. ذلك أن المفهوم معقّد، وملتبس، يقتضي التعرّف على ما هو قديم، واكتشاف ما ليس معروفا على المستوى الجمالي.

    وإذا افترضنا أن أفق الانتظار هو مجمل الانتظارات والقواعد التي آنست بواسطتها الأعمالُ السابقة القارئَ، والتي خضع خلالها الأثر للتعديل والتصويب والتعليق، فإنه يمكن حصر المفهوم حسب منهجيتين: الأولى استنباطية تاريخية تشمل دراسة النصوص والوثائق التي تُنبئ عن مرحلة ما، كالنصوص الموازية من حواشٍ وهوامش ونقد، وكل ما من شأنه أن يشكل ما أسماه بورديو “الحقل الأدبيّ”. وهذا ما هو معمول به في الدراسات الأدبية الأكاديمية عن الكاتب وأسلوبه والظرف الذي عاش فيه. والثانية استقرائيّة، تنطلق من النصوص الأدبية نفسها لتبين نقاط الاختلاف والائتلاف فيها وكيفية تلقيّها في عصرها، وهذا أيضا متداول.

    وفي كلتا الحالتين لا نعثر على القارئ المثالي الذي يتحدث عنه يوس، حتى أن بعضهم قال إنه لا يوجد إلا في رأس صاحب هذه النظرية.

    صحيح أن النص ثابت والقراءة متحوّلة على مرّ العصور، وأنّ أفق انتظار القراء يختلف من عصر إلى آخر، فقد تنصف قراءتهم من غُمط أدبه، وتعيد من علا خطأ إلى حجمه الحقيقيّ؛ صحيح أيضا أنّ النص لا يحقق وجوده ولا يمتلك معناه إلا بنوعيّة القراءة التي يُعامَل بها، ما يعطي أهمية لدور المتلقي في فهم الأثر واستحسانه (أو استهجانه) وتأويله، فالقراءة هي التي تَهبه الحياة؛ ولكن لمّا كان القراء يختلفون في سنّهم وتكوينهم وميولهم ومستواهم المعيشي، فأي قارئ يختار الكاتب وأي أفق انتظار يلبّي؟

    ولو فرضنا أنه اهتدى بقدرة قادر إلى هذا القارئ المثالي، فسيكون كمن يكتب حسب الطلب، كي يحافظ على قارئ اعتاد على أسلوبه ونوعية أعماله من جهة شكلها ومضمونها كما هي الحال في الروايات البوليسية، لأنه لو يحيد عنها قيد أنملة فسوف يخيّب أفق انتظار جمهوره؛ وهذا في حدّ ذاته منافٍ لمفهوم الإبداع.


    القارئ المفضل بلا ملامح محددة (عبداللطيف الصمودي)




    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    أبو بكر العيادي
    كاتب تونسي
يعمل...
X