النص لا يوجد وحده أبدا بل بفضل القراءة
ما جدوى نظريات القراءة والقراء مختلفون.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
القراءة بين النظرية والتطبيق (لوحة للفنان علي رضا درويش)
تبنى القراءة لبنة لبنة، وقبل أن تكون نتيجة، أي قراءة أدبية أو علمية أو تأويلا أو تعليقا، فهي بالأساس مسار دائب، ونشاط لا يني يتطور ويتعقّد. ولا يمكن أن ننظر إليها كفعل وحيد، متساو ومكتمل على الدوام، بل هي توازن مخصوص، لا ينفك يضع مختلف عناصره موضع مساءلة.
إن نظريات القراءة، وإن كانت لا تشكل كتلة متجانسة، تستند إلى معطى مشترك وهو أن النص يظل افتراضيا ما لم تنفث فيه القراءة نفَس الحياة، لأن القراءة هي التي تضفي عليه المعنى.
منذ السبعينات، بدأ اهتمام الباحثين والمنظرين في الغرب ينتقل من النص إلى القارئ، وإن شئنا الدقة إلى العلاقة بين القارئ والنص. حصل هذا الانتقال مع ما بعد البنيوية، تلك الحركة التي سمحت بتجديد نظريات النص لفتح أبوابه أمام وضعيات الإنتاج والتلقي، أي الكتابة والقراءة، وأعاد ذلك الانتقال إحياء الدراسات التي أجريت في الإطار التقليدي للهرمينوطيقا، التي استبعدتها الثورة البنيوية، فعادت نظريات التأويل إلى مركزيتها السابقة عندما صارت الغاية ليست فهم الكيفية التي بني بها النص وتولّد فقط، وإنما أيضا كيفية انتقاله، وتجسّد معناه.
القراءة والتلقي
النص لا يوجد وحده أبدا، بل يوجد بفضل القراءة، ويكون له وجود وفق ما نصنعه به، أي أن سلطته الوحيدة هي ما نمنحه إياها في ممارساتنا المختلفة. صحيح أن لكل منظّر فرضيته الخاصة حول الكيفية التي يُبنى بها معنى النص، ولكن ينبغي التنبيه إلى الخلط الحاصل بين القراءة والتلقي، ربما لكون المفهومان صادرين عن مدرسة كونستانس الألمانية، وخاصة ممثليها البارزين فولفغانغ إيزر وهانز روبرت يوس. فيوس يهدف إلى إصلاح التاريخ الأدبي مع الأخذ بعين الاعتبار أفق التلقي لدى جمهور تتوجه إليه الأعمال الأدبية، غايته وضع تأمل عميق حول تلقي تلك الأعمال منذ قرون، ودراسة تغيرات المعايير والقيم الناتجة عنها، وقد وقع التركيز بطبيعة الحال على الأعمال التي غيّرت الحقل الأدبي.
نجمت عن مقترحات يوس دراسات في التلقي وبحوث لدى شرائح القراء في بلدان كثيرة، ما سمح بالكشف عن بعض ملامح سلوكيات القراء، بيد أن تلك النتائج تخصّ علم الاجتماع أو التاريخ أكثر مما تخص نظرية القراءة في حدّ ذاتها، لأن نظريات التلقي، بصفة عامة، تهتم بالكيفية التي يتفاعل بها الجمهور بعد قراءة أعمال أدبية، في حين أن نظريات القراءة تسعى لوصف الكيفية التي يجري بها فعل القراءة، وهو ما تقترحه نظرية إيزر، التي تتبدّى كفينومينولوجيا القراءة، وهي نظرية عن الأثر الجمالي استوحاها من الفيلسوف البولندي رومان إنغاردن (1893 – 1970).
في نفس الفترة ظهرت في فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة أعمال سيميائية متأثرة بعالم اللسانيات السويسري فردينان دو سوسور (1857 – 1913) أو الأميركي تشارلز أندرس بيرس (1839 – 1914)، والتقت مصطلحات مثل “المحكي له” narrataire لجيرالد برينس و”القارئ النهم archilecteur” لميشيل ريفّاتير و”القارئ الضمنيّ” le lecteur implicite لإيزر بـ”لذة النص” le plaisir du texte لرولان بارت و”القارئ النموذجي” le lecteur modèle لأمبرتو إيكو؛ وكان الفيلسوف وعالم السيميائيات الإيطالي يتصور قارئا قادرا على التعامل مع النص تعاملَ مُنشِئه لكونه، على غرار “القارئ الضّمنيّ” الذي كان إيزر أول من اقترحه، قارئا مُدرَجا في النص يجيب كما ينبغي عن الشروط النصّيّة.
والملاحظ أن الأفق في كل نظريات القارئ المدمَج تظل موجّهة نحو النص، فموضوع الدراسة ليس وضعية القراءة والعلاقة التي تنشأ بين القارئ والنص، وإنما البصمة التي يمكن أن يتركها أحد المتدخلين على الأثر المقروء.
تفعيل النظريات
ظهر في الولايات المتحدة “نقد استجابة القارئ” reader – oriented criticism، وهي نظرية لا تتحدّث عن القارئ وقراءاته بل تتوجّه إليه، ولو أن النص الأدبيّ هو موضوع التحليل، حيث يُدرس وفق قراءته القادمة، المدرجة سلفا في أجهزته المتعددة.
فالقراءة هنا ليست موضوع استقصاء، بل أفق تحليل ووجهة نظر، وهو ما يطلق عليه عموما بـ”إنشائية القراءة”. ولما كانت الإنشائية مسألة إنتاج بالأساس، فإن في ربطها بالقراءة تفعيلا لفرضية معادلة بسيطة بين شروط النص وردود فعل القارئ، ما يمكّن من تحديد فعل القراءة حسب الغاية المنشودة الماثلة في النص.
ولكن من الممكن أيضا اقتراح نظرية قراءة لا ترتهن فقط بما تقترحه النصوص، ولا بدّ حينئذ من تبني نظرية مسارات قرائية تقوم على شتى أنواع تدخل القارئ في النص، وهي مسارات عصبية فيزيولوجية، وإدراكية واستدلالية وعاطفية ورمزية.
هذه النظرية تجد الأفعال الأساسية للقراءة، كالتوريق والفهم والتأويل، تحديدا عمليا، كي تكون قاعدة لعمل نظري وتوصيفي متناسق، حيث لا يقع التركيز على النص والقارئ، بل على خصائص العلاقة التي تجمعهما. وهو ما قام به الفرنسي ميشيل بيكار حين تساءل عن البعد العاطفي والمسلّي للقراءة حسب مقاربة اعتمدت التحليل النفسي.
وقد وجدت بحوثه صدى لدى مجموعة “القراءة الأدبية” في مدينة رانس التي يديرها فانسان جوف. أما ميشيل شارل فقد نظّر للعلاقة الأساسية التي تجمع النص والقارئ ولاحظ أن تدخّلنا في النص، أكثر من أي شيء آخر، هو الذي يكسبه وجوده.
وأيا ما تكن المقاربة، فالقارئ لا يقبل على الكتاب الأدبي للحصول على معرفة أو اكتشاف معلومات، بل يقبل عليه لما يجده فيه من متعة، ثم تأتي المعرفة والمعلومات التي قد يتضمنها الكتاب بشكل تلقائي لا يتوقعه.
ولكن كيف السبيل إلى تفعيل هذه النظريات والقراء لا يستوون من حيث الإدراك والمعرفة، والكتب، حتى الإبداعية منها، لا تهب نفسها للجميع بنفس القدر؟ فما يراه قارئ ما جيّدا ممتعا قد يكون في نظر قارئ آخر سطحيا ساذجا لا يحتاج إلى أن يضيّع الوقت فيه. وهنا تطرح ثقافة الخاصة وثقافة العامة، فأي النظريات نختار لتطبيقها في الحالين؟ والسؤال الأهم: ما جدواها في مجتمعات لا تقرأ أصلا؟
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أبو بكر العيادي
كاتب تونسي
ما جدوى نظريات القراءة والقراء مختلفون.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
القراءة بين النظرية والتطبيق (لوحة للفنان علي رضا درويش)
تبنى القراءة لبنة لبنة، وقبل أن تكون نتيجة، أي قراءة أدبية أو علمية أو تأويلا أو تعليقا، فهي بالأساس مسار دائب، ونشاط لا يني يتطور ويتعقّد. ولا يمكن أن ننظر إليها كفعل وحيد، متساو ومكتمل على الدوام، بل هي توازن مخصوص، لا ينفك يضع مختلف عناصره موضع مساءلة.
إن نظريات القراءة، وإن كانت لا تشكل كتلة متجانسة، تستند إلى معطى مشترك وهو أن النص يظل افتراضيا ما لم تنفث فيه القراءة نفَس الحياة، لأن القراءة هي التي تضفي عليه المعنى.
منذ السبعينات، بدأ اهتمام الباحثين والمنظرين في الغرب ينتقل من النص إلى القارئ، وإن شئنا الدقة إلى العلاقة بين القارئ والنص. حصل هذا الانتقال مع ما بعد البنيوية، تلك الحركة التي سمحت بتجديد نظريات النص لفتح أبوابه أمام وضعيات الإنتاج والتلقي، أي الكتابة والقراءة، وأعاد ذلك الانتقال إحياء الدراسات التي أجريت في الإطار التقليدي للهرمينوطيقا، التي استبعدتها الثورة البنيوية، فعادت نظريات التأويل إلى مركزيتها السابقة عندما صارت الغاية ليست فهم الكيفية التي بني بها النص وتولّد فقط، وإنما أيضا كيفية انتقاله، وتجسّد معناه.
القراءة والتلقي
النص لا يوجد وحده أبدا، بل يوجد بفضل القراءة، ويكون له وجود وفق ما نصنعه به، أي أن سلطته الوحيدة هي ما نمنحه إياها في ممارساتنا المختلفة. صحيح أن لكل منظّر فرضيته الخاصة حول الكيفية التي يُبنى بها معنى النص، ولكن ينبغي التنبيه إلى الخلط الحاصل بين القراءة والتلقي، ربما لكون المفهومان صادرين عن مدرسة كونستانس الألمانية، وخاصة ممثليها البارزين فولفغانغ إيزر وهانز روبرت يوس. فيوس يهدف إلى إصلاح التاريخ الأدبي مع الأخذ بعين الاعتبار أفق التلقي لدى جمهور تتوجه إليه الأعمال الأدبية، غايته وضع تأمل عميق حول تلقي تلك الأعمال منذ قرون، ودراسة تغيرات المعايير والقيم الناتجة عنها، وقد وقع التركيز بطبيعة الحال على الأعمال التي غيّرت الحقل الأدبي.
كيف نفعل نظريات القراءة والقراء لا يستوون من حيث الإدراك والمعرفة والكتب لا تهب نفسها للجميع بنفس القدر
نجمت عن مقترحات يوس دراسات في التلقي وبحوث لدى شرائح القراء في بلدان كثيرة، ما سمح بالكشف عن بعض ملامح سلوكيات القراء، بيد أن تلك النتائج تخصّ علم الاجتماع أو التاريخ أكثر مما تخص نظرية القراءة في حدّ ذاتها، لأن نظريات التلقي، بصفة عامة، تهتم بالكيفية التي يتفاعل بها الجمهور بعد قراءة أعمال أدبية، في حين أن نظريات القراءة تسعى لوصف الكيفية التي يجري بها فعل القراءة، وهو ما تقترحه نظرية إيزر، التي تتبدّى كفينومينولوجيا القراءة، وهي نظرية عن الأثر الجمالي استوحاها من الفيلسوف البولندي رومان إنغاردن (1893 – 1970).
في نفس الفترة ظهرت في فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة أعمال سيميائية متأثرة بعالم اللسانيات السويسري فردينان دو سوسور (1857 – 1913) أو الأميركي تشارلز أندرس بيرس (1839 – 1914)، والتقت مصطلحات مثل “المحكي له” narrataire لجيرالد برينس و”القارئ النهم archilecteur” لميشيل ريفّاتير و”القارئ الضمنيّ” le lecteur implicite لإيزر بـ”لذة النص” le plaisir du texte لرولان بارت و”القارئ النموذجي” le lecteur modèle لأمبرتو إيكو؛ وكان الفيلسوف وعالم السيميائيات الإيطالي يتصور قارئا قادرا على التعامل مع النص تعاملَ مُنشِئه لكونه، على غرار “القارئ الضّمنيّ” الذي كان إيزر أول من اقترحه، قارئا مُدرَجا في النص يجيب كما ينبغي عن الشروط النصّيّة.
والملاحظ أن الأفق في كل نظريات القارئ المدمَج تظل موجّهة نحو النص، فموضوع الدراسة ليس وضعية القراءة والعلاقة التي تنشأ بين القارئ والنص، وإنما البصمة التي يمكن أن يتركها أحد المتدخلين على الأثر المقروء.
تفعيل النظريات
ظهر في الولايات المتحدة “نقد استجابة القارئ” reader – oriented criticism، وهي نظرية لا تتحدّث عن القارئ وقراءاته بل تتوجّه إليه، ولو أن النص الأدبيّ هو موضوع التحليل، حيث يُدرس وفق قراءته القادمة، المدرجة سلفا في أجهزته المتعددة.
فالقراءة هنا ليست موضوع استقصاء، بل أفق تحليل ووجهة نظر، وهو ما يطلق عليه عموما بـ”إنشائية القراءة”. ولما كانت الإنشائية مسألة إنتاج بالأساس، فإن في ربطها بالقراءة تفعيلا لفرضية معادلة بسيطة بين شروط النص وردود فعل القارئ، ما يمكّن من تحديد فعل القراءة حسب الغاية المنشودة الماثلة في النص.
ولكن من الممكن أيضا اقتراح نظرية قراءة لا ترتهن فقط بما تقترحه النصوص، ولا بدّ حينئذ من تبني نظرية مسارات قرائية تقوم على شتى أنواع تدخل القارئ في النص، وهي مسارات عصبية فيزيولوجية، وإدراكية واستدلالية وعاطفية ورمزية.
هذه النظرية تجد الأفعال الأساسية للقراءة، كالتوريق والفهم والتأويل، تحديدا عمليا، كي تكون قاعدة لعمل نظري وتوصيفي متناسق، حيث لا يقع التركيز على النص والقارئ، بل على خصائص العلاقة التي تجمعهما. وهو ما قام به الفرنسي ميشيل بيكار حين تساءل عن البعد العاطفي والمسلّي للقراءة حسب مقاربة اعتمدت التحليل النفسي.
وقد وجدت بحوثه صدى لدى مجموعة “القراءة الأدبية” في مدينة رانس التي يديرها فانسان جوف. أما ميشيل شارل فقد نظّر للعلاقة الأساسية التي تجمع النص والقارئ ولاحظ أن تدخّلنا في النص، أكثر من أي شيء آخر، هو الذي يكسبه وجوده.
وأيا ما تكن المقاربة، فالقارئ لا يقبل على الكتاب الأدبي للحصول على معرفة أو اكتشاف معلومات، بل يقبل عليه لما يجده فيه من متعة، ثم تأتي المعرفة والمعلومات التي قد يتضمنها الكتاب بشكل تلقائي لا يتوقعه.
ولكن كيف السبيل إلى تفعيل هذه النظريات والقراء لا يستوون من حيث الإدراك والمعرفة، والكتب، حتى الإبداعية منها، لا تهب نفسها للجميع بنفس القدر؟ فما يراه قارئ ما جيّدا ممتعا قد يكون في نظر قارئ آخر سطحيا ساذجا لا يحتاج إلى أن يضيّع الوقت فيه. وهنا تطرح ثقافة الخاصة وثقافة العامة، فأي النظريات نختار لتطبيقها في الحالين؟ والسؤال الأهم: ما جدواها في مجتمعات لا تقرأ أصلا؟
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أبو بكر العيادي
كاتب تونسي