مَن يتوقف عن القراءة ساعة يتأخر قرنا من الزمان
نجيب محفوظ: الشخص عندما يكبر يقدّر الحقائق أكثر من الخيال.
يجب أن نؤمن بقيمة القراءة (لوحة للفنان علي رضا درويش)
القراءة أكثر الأفعال البشرية سحرا وتأثيرا، عالم الكتاب عالم يقفز على حدود الأزمنة ومحدودية الأمكنة، ولا نحسب أنّ عشق القراءة (عبر وسيط ورقيّ أو إلكتروني) سيناله التغيير المحتّم بسبب المتغيرات التقنية في عصرنا الرقميّ وفي عصر بزوغ تقنيات الذكاء الاصطناعي غير المسبوقة، ورغم ذلك فإن القراءة واحدة من الفعاليات البشرية الأكثر عصياناً على الاندثار والأكثر تشاركاً بين الكائنات البشرية، ولكن كيف يرى الكتّاب القراءة؟
القراءة هي الوجه الآخر للكتابة، فلا كتابة دون قراءة، ولكن يمكن أن تكون هناك قراءة بلا كتابة، فليس شرطًا أن كل من يقرأ يكتب، في حين أنه يجب على كل من يكتب أن يقرأ.
وتختلف النظرة إلى القراءة من كاتب إلى آخر، لكنهم جميعهم يؤكدون على أهميتها وضرورتها، كما فعل سابقا الكاتب المصري نجيب محفوظ.
القراءة المتنوعة
كان إحساس نجيب محفوظ في مقتبل حياته الإبداعية أن الزمن محدود، وفي الوقت نفسه يريد أن يقرأ في الأدب، في العلم، في التاريخ، في الفن، يريد أن يستمع إلى الموسيقى، ويكتب. فكان أن اختار أن يقرأ من كل أمة قممها، ومن كل قمة، قمة ما كُتب.
وقد أتاحت له وظيفته في وزارة الأوقاف (التي شغلها لمدة 17 عاما) قدرًا من الاستقرار مكَّنه من القراءة والكتابة، إلى درجة أنه قرأ دائرة المعارف البريطانية. وعندما انتقل للعمل في مكتبة الغوري قضى شهورا من أمتع فترات حياته، حيث قرأ “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست بالإنجليزية.
نجيب محفوظ لم يقرأ الأعمال الأدبية من روايات وقصص وشعر ومسرح فحسب، ولكنه كان يقرأ عن الحوادث وغيرها
كما أتاحت له الوظيفة التعرف على أنماط بشرية لا حصر لها. ولم يندم على السنوات الطويلة التي أمضاها موظفًا. فقد كان يقرأ الوجوه البشرية أيضا، وخاصة وجوه الموظفين، ووجوه مرتادي المقاهي التي كان يرتادها يوميا. ولعل بعض أعماله الإبداعية، مثل “خان الخليلي” و”القاهرة الجديدة” و”حضرة المحترم” و”المرايا” وغيرها، قد استقاها من الأجواء الوظيفية التي عاشها، وقرأ فيها وجوه البشر وأحاسيسهم ومشاعرهم المضطرمة والمضطربة، فقد كان نجيب محفوظ يؤمن بأن هناك قراءات أخرى غير قراءة الكتب، ومنها قراءة المجتمع وقراءة أحوال البشر.
وأثناء احتفال السفارة الفرنسية في القاهرة (مارس 1995) بمنح نجيب محفوظ وسام الفنون والآداب بدرجة “قائد” (وهو الوسام الذي أنشأه نابليون بونابرت، ويعد أعرق وسام في فرنسا) قال محفوظ “هذه فرصة أحيي فيها الثقافة الفرنسية، فقد ساهمت في تكويني الثقافي بسهم وافر عن طريقين: طريق مباشر هو القراءة للأدباء والفلاسفة الفرنسيين، وطريق غير مباشر وهو أن جزءًا كبيرًا من أساتذتي كانوا ممن أتموا تعليمهم بفرنسا، مثل مصطفى عبدالرازق وطه حسين ومنصور فهمي وزكي مبارك ومحمد حسين هيكل. ولن أنسى الدور الذي قام به بعض الفرنسيين وبعض المؤسسات الأدبية الفرنسية في ترشيحي لجائزة نوبل عام 1988”.
وعن محاولة قراءة الأدب الفرنسي في لغته الأصلية قال نجيب محفوظ “عندما قرأت أناتول فرانس خُيّل إليَّ أنني استوعبت اللغة الفرنسية، ثم حاولت قراءة مدام بوفاري لفلوبير فاكتشفتُ أنني لا أعرف الفرنسية”.
نجيب محفوظ لم يقرأ الأعمال الأدبية من روايات وقصص وشعر ومسرح فحسب، ولكنه كان يقرأ عن الكثير من الحوادث والجرائم في الصحف السيارة، غير أنه لم يتأثر بها، حتى قرأ حادثة محمود أمين سليمان (سفاح الإسكندرية)، فأحس بأن هذا الرجل يمثل فرصة تتجسَّد عبرها الانفعالات والأفكار التي كان يفكر فيها دون أن يعرف طرق التعبير عنها، مثل العلاقة بين الإنسان والسلطة والمجتمع، وكانت النتيجة أن كتب “اللص والكلاب”.
وهو لم يقرأ “القرآن الكريم” فحسب، وإنما قرأ أيضا الإنجيل والتوراة بإمعان، وكانا من مصادره التي اعتمد عليها في كتابة “أولاد حارتنا”، كما اقتبس منهما قصة “أيوب” التي تحولت إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف.
وهو يؤكد على ذلك في قوله “عندما بدأت أتهيَّأ لكتابة ‘أولاد حارتنا’ عدتُ إلى الإنجيل والتوراة، وقد أفاداني بالفعل. وكنت قد قرأتهما من قبل، ولكن قراءاتي الثانية لهما كانت قراءة دراسية لأستفيد بهما في الرواية”.
ويضيف “على أني قرأت في كل الأديان، وليس السماوية فقط، فقد قرأت الكونفوشية والبوذية. وكنت أناقش بعض الأزهريين وخاصة عندما أصبحت عضوًا في المجالس القومية المتخصصة، وصرت صديقًا لاثنين منهم.
محفوظ نادى بضرورة تلقين الطفل عشق القراءة
كما قرأت ما لا يُعد ولا يُحصى في اللارواية دون أن أعرف ‘رأسي من رجلي’، وفي ‘ريش’ قلت يا إخوانا إذا كان هناك من يقرأ هذه الروايات جيدا، ويتمكن من استيعابها ويقدمها لي؟ قالوا: يوجد. فقلت: أنا مستعد أن يأتي لنقرأ سويا رواية، والساعة بخمسة جنيهات (وهي قيمة كبيرة وقتها) وقلت عندما أدفع ثلاثين أو أربعين جنيها وأفهم، يعطيني المفتاح أكون قد كسبت مكسبًا كبيرًا، لكن لم يأت لي أحد”.
وعندما يسأله أحمد محمد عطية (مجلة “الآداب” – بيروت – يناير 1970) ماذا تقرأ الآن، وهل تتبع خطة محددة في القراءة، وكيف تنظم وقتك بين العمل والقراءة
والكتابة والمشاركة في الحياة الاجتماعية؟ يجيب “في النصف الأول من النهار في وظيفتي. من 6 – 9 على مكتبي بين القراءة والكتابة، ومن 10 لنهاية السهرة أمام التلفزيون. وأقرأ الآن كتب الدكتور فؤاد زكريا في فلسفة الفن”.
ويكون السؤال التالي مباشرة: هل تتأثر بمعاصريك في قراءتك لهم؟ وتكون إجابة محفوظ “طبعا، فلا أعتقد أني قرأت لكاتب في الشرق أو الغرب، ثم لم أتأثر به، لأن القراءة كالتغذية، وكما يظهر أثر التغذية الحسنة في السلوك والتفكير، وكذلك نحن نعكس ما نقرأه لكتابنا المفضلين فيما نكتب. وأنا أعتقد أن الفن شجرة كبيرة نامية، وكلنا نأخذ من أوراق هذه الشجرة”.
ويؤكد لأحمد محمد عطية (مجلة “الحوادث” – بيروت – ديسمبر 1978) على أهمية القراءة وتنوعها في حياته، فيقول “أنا طول عمري متنوع القراءة، ولكن كان على قمتها الأدب، واليوم ما زلت متنوع القراءة غير أن الأدب أصبح في الذيل. ويسعدني جدا قراءة الكتب العلمية المخصصة للجمهور: كتب الحضارة، تاريخ الإنسان، الدين، السياسة. بسبب مرض السكر نصح الأطباء بتفريق مدد الكتابة والقراءة، فأكتب ساعتين في الصباح من 10 – 12 وأقرأ ثلاث ساعات في المساء 6 – 9”.
ويعود كاتبنا إلى ذكريات الطفولة ليتذكر (مجلة “المواقف” البحرينية – المنامة – يناير 1979) أنه بدأ يقرأ المنفلوطي حتى تشبع منه تماما، وعندما فرغ وبدأ يسأل عنه وجده قد مات من 27 عاما، فبدأ يبكيه، وكأن موته كان حدثا حديثا بالنسبة إليه إلى درجة أن أهله نسوه، فجاء هو ليقيم له محزنة ويتقبل عزاءه.
أدب المثقفين
الوظيفة أتاحت لمحفوظ التعرف على أنماط بشرية لا حصر لها ولم يندم على السنوات التي أمضاها موظفا
يتذكر محفوظ أن أول رواية قرأها كانت “الأيام” لطه حسين و”شجرة البؤس”، وقد تأثر أيضا بثورة طه حسين الفكرية التي كان يتصدى فيها للرأي العام المخالف بمفرده. أما رواية “شجرة البؤس” فهي أول رواية قرأها عن الأجيال. يقول “هي أول شيء جعلني أفكر في كتابة الثلاثية، ولم أكن قد درستها في الفكر الغربي. وقرأتها أول ما قرأتها عند طه حسين قبل قراءتها عند توماس مور وتولستوي”.
وقبل أن تترك “المواقف” البحرينية أديبنا الكبير تسأله: ماذا تقرأ الآن؟
فيجيب “كنت أقرأ في كل شيء يُقرأ، لكن على رأسه الأدب، لكنني الآن أقرأ في كل شيء يُقرأ، لكن في نهايته الأدب. لماذا؟ لأن الشخص عندما يكبر يقدر الحقائق على الخيال، أو حدث تشبع، ويصبح من الصعب عليه قراءة روايات”.
ويضيف “على العموم أنا أقرأ الآن كتابًا في التراث هو نحو على أدب، وكتاب البغدادي، وفي نفس الوقت أقرأ موسوعة ‘قصة الحضارة’ لوول ديورانت”.
ويعتقد نجيب محفوظ (مجلة “المجلة” السعودية - لندن - مايو 1980) أنه لا توجد أزمة كتاب، لأن كتب السياسة وكتب الدين والعلم منتشرة كثيرا، بل لم تشهد البشرية انتشارًا في القراءة كما هو حاصل الآن.
وعندما يسأله أحمد فرحات (مجلة “الكفاح العربي” - بيروت - ديسمبر 1983) هل قرأت للبناني يوسف حبشي الأشقر؟ يذكر محفوظ اسم رواية الأشقر على الفور قائلا “‘لا تنبت جذور في السماء’ على ما أذكر هو اسم الرواية التي قرأتها ليوسف حبشي الأشقر. وقد نوهت بهذا الكاتب وأثنيت على روايته في الإذاعة المصرية”.
وأحيانا يتملك نجيب محفوظ نوع من القلق واليأس والتشاؤم، فيخيل إليه أن القراءة قد ماتت، فيقول لوجيه خيري (مجلة “الجيل” السعودية - الرياض - فبراير 1984) “ظهر جيل في الخمسينات يفتقر للتربية الفنية والأدبية، وهذا الجيل كبر وزحف على البلد في التسعينات، وهو لا يحب القراءة ولا يهتم بها. أضف إلى ذلك تدارك أن القراءة تراجعت تماما، فإذا أضفت إلى هذا تركيبة التلفزيون الاستهلاكية الترفيهية، المفتقدة لأي أبعاد ثقافية، تعرف أن القراءة في بلدنا قد ماتت”.
لكنه يخفِّف من نبرة تشاؤمه قليلا، فيقول لعمرو عبدالسميع (مجلة “فيديو” - الكويت - أكتوبر 1984) “التلفزيون جذب الناس بعيدا عن القراءة، وهذه ظاهرة في العالم كله، هذا طبعا بالإضافة إلى أسباب محلية أخرى ‘وكست’ القراءة، مثل نظام التعليم الذي لا يربي الذوق أو اللغة، وإذا أحسنا التربية الفنية لأولادنا ستظل الدراما والأدب التلفزيوني في مقدمة الاهتمامات، ولكن القراءة ستصبح أدب المثقفين وتمثل الفن الرفيع”.
ويؤكد لمحمود عبدالشكور (مجلة “اليوم السابع” الفلسطينية - لندن 1990) “أننا لا نعرف ماذا سيحدث في القرن القادم، فربما استغنى الناس تمامًا عن القراءة سواء كانت قصة قصيرة أو رواية! وربما استبدلوا ذلك كله بمشاهدة التلفزيون”.
قيمة الثقافة والمعرفة
القراءة كالتغذية؛ فكما يظهر أثر التغذية الحسنة في السلوك والتفكير، ينعكس ما نقرأه في ما نكتبه
عن حياته التي أفناها في القراءة يقول (مجلة “المجلة” السعودية - لندن - يناير 1991) “إنني قرأت فترة طويلة من الزمن؛ قرأت لمدة 60 سنة. ولذلك فالعجز عن المتابعة آلمني جدا.
لكن ماذا أفعل؟ العالم متجدد، ونحن الآن نعيش عصر المعلومات، ومن يتوقف عن القراءة ساعة يتأخر قرنا من الزمان. فعدم متابعتي لكل تفاصيل ما يحدث أو يدور من حولي أصبح يبعدني عن الحياة والعالم. ولذلك عندما أجلس في أي مجلس أنصت باهتمام وأحاول أن أستمع إلى كل ما يقال من معلومات وأخبار يتداولها الناس، خاصة بعد أن ضعف بصري لدرجة لا تسمح لي إلا بقراءة عناوين الصحف بصعوبة”.
وعن سر عشقه للقراءة منذ الصغر يقول لخالد محمد غازي (جريدة “الندوة” السعودية - مكة - مارس 1991) “بدأتُ القراءة وأنا في المرحلة الابتدائية عن طريق الصدفة، فقد وجدت زميلا لي يقرأ كتابًا خارج مقرر الدراسة، فاستعرتُه منه وقرأتُه. ومن يومها عشقت القراءة. وهو يعتقد أن السبيل لعودة الناس إلى الكتاب وإلى القراءة يأتي من التربية أولا، هذا الأساس، والباقي أسباب عارضة، فيجب أن نلقن عشق القراءة للطفل، كما تعلمتها أنا في المرحلة الإبتدائية”. وعن معدل الساعات التي يقرأها يوميا يقول “قبل عامين كنت أقرأ بعد الظهر حوالي خمس ساعات، أما الآن فساعات القراءة قلت”.
وبعد سنتين من حواره مع “الندوة” يقول لمحمد محمود (جريدة “عكاظ” السعودية - جدة -مايو 1993) “لم أعد الآن قادرًا على القراءة أو المشاهدة أو حتى الاستماع إلى متحدث في ندوة أو محاضرة أو ما شاكل ذلك”.
ويعد سنتين أخريين يعلن في حواره مع (جريدة “الأيام” البحرينية - المنامة - نوفمبر 1995) توقفه عن القراءة العميقة منذ ما يقارب خمس سنوات، معتمدا على ما يقرأه له الأصدقاء ومعرفة الخطوط الرئيسية لمسيرة الفكر والإبداع ومتابعة الأحداث.
وفي النهاية يؤكد محفوظ على أنه لا بد من ترسيخ قيمة الثقافة والمعرفة داخل وجدان المتلقي وتأهيله للإيمان بأهمية القراءة، موضحًا أن الكلمة المقروءة تحتاج إلى تهيئة الأذهان لاستيعابها والتفاعل معها والإيمان بقيمتها وفائدتها لتصبح القراءة عادة من النسيج اليومي لسلوك المتلقي.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري
نجيب محفوظ: الشخص عندما يكبر يقدّر الحقائق أكثر من الخيال.
يجب أن نؤمن بقيمة القراءة (لوحة للفنان علي رضا درويش)
القراءة أكثر الأفعال البشرية سحرا وتأثيرا، عالم الكتاب عالم يقفز على حدود الأزمنة ومحدودية الأمكنة، ولا نحسب أنّ عشق القراءة (عبر وسيط ورقيّ أو إلكتروني) سيناله التغيير المحتّم بسبب المتغيرات التقنية في عصرنا الرقميّ وفي عصر بزوغ تقنيات الذكاء الاصطناعي غير المسبوقة، ورغم ذلك فإن القراءة واحدة من الفعاليات البشرية الأكثر عصياناً على الاندثار والأكثر تشاركاً بين الكائنات البشرية، ولكن كيف يرى الكتّاب القراءة؟
القراءة هي الوجه الآخر للكتابة، فلا كتابة دون قراءة، ولكن يمكن أن تكون هناك قراءة بلا كتابة، فليس شرطًا أن كل من يقرأ يكتب، في حين أنه يجب على كل من يكتب أن يقرأ.
وتختلف النظرة إلى القراءة من كاتب إلى آخر، لكنهم جميعهم يؤكدون على أهميتها وضرورتها، كما فعل سابقا الكاتب المصري نجيب محفوظ.
القراءة المتنوعة
كان إحساس نجيب محفوظ في مقتبل حياته الإبداعية أن الزمن محدود، وفي الوقت نفسه يريد أن يقرأ في الأدب، في العلم، في التاريخ، في الفن، يريد أن يستمع إلى الموسيقى، ويكتب. فكان أن اختار أن يقرأ من كل أمة قممها، ومن كل قمة، قمة ما كُتب.
وقد أتاحت له وظيفته في وزارة الأوقاف (التي شغلها لمدة 17 عاما) قدرًا من الاستقرار مكَّنه من القراءة والكتابة، إلى درجة أنه قرأ دائرة المعارف البريطانية. وعندما انتقل للعمل في مكتبة الغوري قضى شهورا من أمتع فترات حياته، حيث قرأ “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست بالإنجليزية.
نجيب محفوظ لم يقرأ الأعمال الأدبية من روايات وقصص وشعر ومسرح فحسب، ولكنه كان يقرأ عن الحوادث وغيرها
كما أتاحت له الوظيفة التعرف على أنماط بشرية لا حصر لها. ولم يندم على السنوات الطويلة التي أمضاها موظفًا. فقد كان يقرأ الوجوه البشرية أيضا، وخاصة وجوه الموظفين، ووجوه مرتادي المقاهي التي كان يرتادها يوميا. ولعل بعض أعماله الإبداعية، مثل “خان الخليلي” و”القاهرة الجديدة” و”حضرة المحترم” و”المرايا” وغيرها، قد استقاها من الأجواء الوظيفية التي عاشها، وقرأ فيها وجوه البشر وأحاسيسهم ومشاعرهم المضطرمة والمضطربة، فقد كان نجيب محفوظ يؤمن بأن هناك قراءات أخرى غير قراءة الكتب، ومنها قراءة المجتمع وقراءة أحوال البشر.
وأثناء احتفال السفارة الفرنسية في القاهرة (مارس 1995) بمنح نجيب محفوظ وسام الفنون والآداب بدرجة “قائد” (وهو الوسام الذي أنشأه نابليون بونابرت، ويعد أعرق وسام في فرنسا) قال محفوظ “هذه فرصة أحيي فيها الثقافة الفرنسية، فقد ساهمت في تكويني الثقافي بسهم وافر عن طريقين: طريق مباشر هو القراءة للأدباء والفلاسفة الفرنسيين، وطريق غير مباشر وهو أن جزءًا كبيرًا من أساتذتي كانوا ممن أتموا تعليمهم بفرنسا، مثل مصطفى عبدالرازق وطه حسين ومنصور فهمي وزكي مبارك ومحمد حسين هيكل. ولن أنسى الدور الذي قام به بعض الفرنسيين وبعض المؤسسات الأدبية الفرنسية في ترشيحي لجائزة نوبل عام 1988”.
وعن محاولة قراءة الأدب الفرنسي في لغته الأصلية قال نجيب محفوظ “عندما قرأت أناتول فرانس خُيّل إليَّ أنني استوعبت اللغة الفرنسية، ثم حاولت قراءة مدام بوفاري لفلوبير فاكتشفتُ أنني لا أعرف الفرنسية”.
نجيب محفوظ لم يقرأ الأعمال الأدبية من روايات وقصص وشعر ومسرح فحسب، ولكنه كان يقرأ عن الكثير من الحوادث والجرائم في الصحف السيارة، غير أنه لم يتأثر بها، حتى قرأ حادثة محمود أمين سليمان (سفاح الإسكندرية)، فأحس بأن هذا الرجل يمثل فرصة تتجسَّد عبرها الانفعالات والأفكار التي كان يفكر فيها دون أن يعرف طرق التعبير عنها، مثل العلاقة بين الإنسان والسلطة والمجتمع، وكانت النتيجة أن كتب “اللص والكلاب”.
وهو لم يقرأ “القرآن الكريم” فحسب، وإنما قرأ أيضا الإنجيل والتوراة بإمعان، وكانا من مصادره التي اعتمد عليها في كتابة “أولاد حارتنا”، كما اقتبس منهما قصة “أيوب” التي تحولت إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف.
وهو يؤكد على ذلك في قوله “عندما بدأت أتهيَّأ لكتابة ‘أولاد حارتنا’ عدتُ إلى الإنجيل والتوراة، وقد أفاداني بالفعل. وكنت قد قرأتهما من قبل، ولكن قراءاتي الثانية لهما كانت قراءة دراسية لأستفيد بهما في الرواية”.
ويضيف “على أني قرأت في كل الأديان، وليس السماوية فقط، فقد قرأت الكونفوشية والبوذية. وكنت أناقش بعض الأزهريين وخاصة عندما أصبحت عضوًا في المجالس القومية المتخصصة، وصرت صديقًا لاثنين منهم.
محفوظ نادى بضرورة تلقين الطفل عشق القراءة
كما قرأت ما لا يُعد ولا يُحصى في اللارواية دون أن أعرف ‘رأسي من رجلي’، وفي ‘ريش’ قلت يا إخوانا إذا كان هناك من يقرأ هذه الروايات جيدا، ويتمكن من استيعابها ويقدمها لي؟ قالوا: يوجد. فقلت: أنا مستعد أن يأتي لنقرأ سويا رواية، والساعة بخمسة جنيهات (وهي قيمة كبيرة وقتها) وقلت عندما أدفع ثلاثين أو أربعين جنيها وأفهم، يعطيني المفتاح أكون قد كسبت مكسبًا كبيرًا، لكن لم يأت لي أحد”.
وعندما يسأله أحمد محمد عطية (مجلة “الآداب” – بيروت – يناير 1970) ماذا تقرأ الآن، وهل تتبع خطة محددة في القراءة، وكيف تنظم وقتك بين العمل والقراءة
والكتابة والمشاركة في الحياة الاجتماعية؟ يجيب “في النصف الأول من النهار في وظيفتي. من 6 – 9 على مكتبي بين القراءة والكتابة، ومن 10 لنهاية السهرة أمام التلفزيون. وأقرأ الآن كتب الدكتور فؤاد زكريا في فلسفة الفن”.
ويكون السؤال التالي مباشرة: هل تتأثر بمعاصريك في قراءتك لهم؟ وتكون إجابة محفوظ “طبعا، فلا أعتقد أني قرأت لكاتب في الشرق أو الغرب، ثم لم أتأثر به، لأن القراءة كالتغذية، وكما يظهر أثر التغذية الحسنة في السلوك والتفكير، وكذلك نحن نعكس ما نقرأه لكتابنا المفضلين فيما نكتب. وأنا أعتقد أن الفن شجرة كبيرة نامية، وكلنا نأخذ من أوراق هذه الشجرة”.
ويؤكد لأحمد محمد عطية (مجلة “الحوادث” – بيروت – ديسمبر 1978) على أهمية القراءة وتنوعها في حياته، فيقول “أنا طول عمري متنوع القراءة، ولكن كان على قمتها الأدب، واليوم ما زلت متنوع القراءة غير أن الأدب أصبح في الذيل. ويسعدني جدا قراءة الكتب العلمية المخصصة للجمهور: كتب الحضارة، تاريخ الإنسان، الدين، السياسة. بسبب مرض السكر نصح الأطباء بتفريق مدد الكتابة والقراءة، فأكتب ساعتين في الصباح من 10 – 12 وأقرأ ثلاث ساعات في المساء 6 – 9”.
ويعود كاتبنا إلى ذكريات الطفولة ليتذكر (مجلة “المواقف” البحرينية – المنامة – يناير 1979) أنه بدأ يقرأ المنفلوطي حتى تشبع منه تماما، وعندما فرغ وبدأ يسأل عنه وجده قد مات من 27 عاما، فبدأ يبكيه، وكأن موته كان حدثا حديثا بالنسبة إليه إلى درجة أن أهله نسوه، فجاء هو ليقيم له محزنة ويتقبل عزاءه.
أدب المثقفين
الوظيفة أتاحت لمحفوظ التعرف على أنماط بشرية لا حصر لها ولم يندم على السنوات التي أمضاها موظفا
يتذكر محفوظ أن أول رواية قرأها كانت “الأيام” لطه حسين و”شجرة البؤس”، وقد تأثر أيضا بثورة طه حسين الفكرية التي كان يتصدى فيها للرأي العام المخالف بمفرده. أما رواية “شجرة البؤس” فهي أول رواية قرأها عن الأجيال. يقول “هي أول شيء جعلني أفكر في كتابة الثلاثية، ولم أكن قد درستها في الفكر الغربي. وقرأتها أول ما قرأتها عند طه حسين قبل قراءتها عند توماس مور وتولستوي”.
وقبل أن تترك “المواقف” البحرينية أديبنا الكبير تسأله: ماذا تقرأ الآن؟
فيجيب “كنت أقرأ في كل شيء يُقرأ، لكن على رأسه الأدب، لكنني الآن أقرأ في كل شيء يُقرأ، لكن في نهايته الأدب. لماذا؟ لأن الشخص عندما يكبر يقدر الحقائق على الخيال، أو حدث تشبع، ويصبح من الصعب عليه قراءة روايات”.
ويضيف “على العموم أنا أقرأ الآن كتابًا في التراث هو نحو على أدب، وكتاب البغدادي، وفي نفس الوقت أقرأ موسوعة ‘قصة الحضارة’ لوول ديورانت”.
ويعتقد نجيب محفوظ (مجلة “المجلة” السعودية - لندن - مايو 1980) أنه لا توجد أزمة كتاب، لأن كتب السياسة وكتب الدين والعلم منتشرة كثيرا، بل لم تشهد البشرية انتشارًا في القراءة كما هو حاصل الآن.
وعندما يسأله أحمد فرحات (مجلة “الكفاح العربي” - بيروت - ديسمبر 1983) هل قرأت للبناني يوسف حبشي الأشقر؟ يذكر محفوظ اسم رواية الأشقر على الفور قائلا “‘لا تنبت جذور في السماء’ على ما أذكر هو اسم الرواية التي قرأتها ليوسف حبشي الأشقر. وقد نوهت بهذا الكاتب وأثنيت على روايته في الإذاعة المصرية”.
وأحيانا يتملك نجيب محفوظ نوع من القلق واليأس والتشاؤم، فيخيل إليه أن القراءة قد ماتت، فيقول لوجيه خيري (مجلة “الجيل” السعودية - الرياض - فبراير 1984) “ظهر جيل في الخمسينات يفتقر للتربية الفنية والأدبية، وهذا الجيل كبر وزحف على البلد في التسعينات، وهو لا يحب القراءة ولا يهتم بها. أضف إلى ذلك تدارك أن القراءة تراجعت تماما، فإذا أضفت إلى هذا تركيبة التلفزيون الاستهلاكية الترفيهية، المفتقدة لأي أبعاد ثقافية، تعرف أن القراءة في بلدنا قد ماتت”.
لكنه يخفِّف من نبرة تشاؤمه قليلا، فيقول لعمرو عبدالسميع (مجلة “فيديو” - الكويت - أكتوبر 1984) “التلفزيون جذب الناس بعيدا عن القراءة، وهذه ظاهرة في العالم كله، هذا طبعا بالإضافة إلى أسباب محلية أخرى ‘وكست’ القراءة، مثل نظام التعليم الذي لا يربي الذوق أو اللغة، وإذا أحسنا التربية الفنية لأولادنا ستظل الدراما والأدب التلفزيوني في مقدمة الاهتمامات، ولكن القراءة ستصبح أدب المثقفين وتمثل الفن الرفيع”.
ويؤكد لمحمود عبدالشكور (مجلة “اليوم السابع” الفلسطينية - لندن 1990) “أننا لا نعرف ماذا سيحدث في القرن القادم، فربما استغنى الناس تمامًا عن القراءة سواء كانت قصة قصيرة أو رواية! وربما استبدلوا ذلك كله بمشاهدة التلفزيون”.
قيمة الثقافة والمعرفة
القراءة كالتغذية؛ فكما يظهر أثر التغذية الحسنة في السلوك والتفكير، ينعكس ما نقرأه في ما نكتبه
عن حياته التي أفناها في القراءة يقول (مجلة “المجلة” السعودية - لندن - يناير 1991) “إنني قرأت فترة طويلة من الزمن؛ قرأت لمدة 60 سنة. ولذلك فالعجز عن المتابعة آلمني جدا.
لكن ماذا أفعل؟ العالم متجدد، ونحن الآن نعيش عصر المعلومات، ومن يتوقف عن القراءة ساعة يتأخر قرنا من الزمان. فعدم متابعتي لكل تفاصيل ما يحدث أو يدور من حولي أصبح يبعدني عن الحياة والعالم. ولذلك عندما أجلس في أي مجلس أنصت باهتمام وأحاول أن أستمع إلى كل ما يقال من معلومات وأخبار يتداولها الناس، خاصة بعد أن ضعف بصري لدرجة لا تسمح لي إلا بقراءة عناوين الصحف بصعوبة”.
وعن سر عشقه للقراءة منذ الصغر يقول لخالد محمد غازي (جريدة “الندوة” السعودية - مكة - مارس 1991) “بدأتُ القراءة وأنا في المرحلة الابتدائية عن طريق الصدفة، فقد وجدت زميلا لي يقرأ كتابًا خارج مقرر الدراسة، فاستعرتُه منه وقرأتُه. ومن يومها عشقت القراءة. وهو يعتقد أن السبيل لعودة الناس إلى الكتاب وإلى القراءة يأتي من التربية أولا، هذا الأساس، والباقي أسباب عارضة، فيجب أن نلقن عشق القراءة للطفل، كما تعلمتها أنا في المرحلة الإبتدائية”. وعن معدل الساعات التي يقرأها يوميا يقول “قبل عامين كنت أقرأ بعد الظهر حوالي خمس ساعات، أما الآن فساعات القراءة قلت”.
وبعد سنتين من حواره مع “الندوة” يقول لمحمد محمود (جريدة “عكاظ” السعودية - جدة -مايو 1993) “لم أعد الآن قادرًا على القراءة أو المشاهدة أو حتى الاستماع إلى متحدث في ندوة أو محاضرة أو ما شاكل ذلك”.
ويعد سنتين أخريين يعلن في حواره مع (جريدة “الأيام” البحرينية - المنامة - نوفمبر 1995) توقفه عن القراءة العميقة منذ ما يقارب خمس سنوات، معتمدا على ما يقرأه له الأصدقاء ومعرفة الخطوط الرئيسية لمسيرة الفكر والإبداع ومتابعة الأحداث.
وفي النهاية يؤكد محفوظ على أنه لا بد من ترسيخ قيمة الثقافة والمعرفة داخل وجدان المتلقي وتأهيله للإيمان بأهمية القراءة، موضحًا أن الكلمة المقروءة تحتاج إلى تهيئة الأذهان لاستيعابها والتفاعل معها والإيمان بقيمتها وفائدتها لتصبح القراءة عادة من النسيج اليومي لسلوك المتلقي.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري