نوادي القراء.. موضة مؤقتة أم تيار ثقافي عام
مجموعات افتراضية تتوسع بسرعة قد تغير سوق الكتب نهائيا.
القراءة باتت عالما متشابكا لا فرديا فحسب
خلق انتشار فايروس كورونا واقعا جديدا، يظن الكثيرون أنه طارئ، فيما هو تغير جذري. أعاد انتشار الفايروس وملازمة البيوت توقيا من عدوى الناس لذواتهم، وازدهرت نشاطات عديدة من بينها قراءة الكتب، لكن هذه الأخيرة التي كانت مؤطرة سابقا بنشاطات واقعية وبنوادي القراءة أو المكتبات أو الفعاليات الثقافية وغير ذلك، صارت أكثر فأكثر أنشطة افتراضية، تضاعف فيها دور مجموعات القراء الافتراضية وفعالياتها، وتضاعف معها عدد العناوين المكتشفة، ما ينبئ بواقع جديد كليا في عالم القراءة.
يقول الروائي الأميركي جيمس بالدوين “ربما لا يكون المنزل مكانا، بقدر ما هو حالة تلزمنا”. تنسحب هذه المقولة على الكثيرين، غير أن أوضحهم مثالا هم القراء، فهؤلاء يجدون راحتهم لا بداخل المنازل فقط، بل بين دفّات الكتب. هم مَن يبحثون عن أشباههم في كل مكان، وتكفيهم صفة قارئ على بطاقة التعارف، كمُسوّغ لاعتبار شخص ما واحدا من أفراد عائلتهم الكبيرة، عائلة مُحِبي الكُتب.
القارئ بحاجة ماسّة إلى من يشاركونه شغفه بالقراءة، ويقترحون عليه عناوين جديدة لم تمر عليه، أو موضوعات لم يجد في السابق ما يُحفزه للاطلاع عليها، وبين الحين والآخر يُشنّفون أُذُنيه بأسماء كُتاب موهوبين يسمع بهم لأول مرة.
هكذا تصير عملية التفاعل مع قراء آخرين أشبه بالمادة الكيميائية المحفّزة التي تُطوِّر باستمرار عملية القراءة وتزيد من معدلاتها.
يُعاني بعض القراء من مخاوف مزعومة ترتبط بما يُسمّونها حالة “حبسة القراءة” أو “قفلة القارئ”، المقصود بها الفتور أو تراجع الشغف الذي يُصيب القارئ إثر فترة مزدهرة بالقراءات الممتعة. والتسمية مُستلهَمة من الحالة التي يشكو منها العديد من الكُتّاب، حين يفتر عنهم وحي الكتابة ويغيب الإلهام، فتتعذَّر الكتابة لفترة من الزمن.
تلك الحالة التي درجوا على تسميتها “قفلة الكتابة” أو “متلازمة الورقة البيضاء”. والاستلهام هنا يُشير إلى الرابط المعنوي الفريد الذي يربط القارئ مع عملية الكتابة نفسها، ويؤكد رغبته في استيحاء عوالمها في حياته الخاصة، وقلقه المتواصل من البُعد عنها، ما يجعله يبحث بدأب عن أشباه القراء القادرين على انتشاله من حالة الفتور هذه حالما يقع فيها.
وسائط للقراء
مع انتشار شبكة الإنترنت وتكريسها لأنماط جديدة من العادات والسلوكيات، صار الكثير من القراء يجدون ضالتهم بسهولة أكبر من السابق. فقبْل عصر الإنترنت، كان القراء لا يلتقون نظائرهم بعيدا عن المكتبات، أو المنتديات الثقافية.
وتعاني المكتبات – كما هو شائع في عالمنا العربي – من الوحدة والفراغ في أكثر الوقات، وقد يرتادها البعض لأسباب أخرى بعيدة عن قراءة الكتب. واليوم، وفي عالم يتدفَّق عبر كابلات الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة أكثر مما يسيل عبر ممرات الحياة التقليدية، فالقراء يجدون أقرانهم بكبسة بسيطة على أزرار لوحات المفاتيح، أو بعد لمس شاشات الهواتف النقالة.
صار القراء يتماسون اليوم مع شغفهم عبر قنوات اليوتيوب التي تعرض الكتب، وعلى صفحات التدوين الرقمي، مثل “جودريدز” و”أبجد” وغيرهما، حيث يتبادلون الآراء والمراجعات، كذلك عبر منشورات تويتر وإنستغرام المهتمة بالكُتب.
مجموعات القراء تستمر في الابتكار وفي اكتساب المزيد من رقعة التأثير وقد يتحوّل عملها قريبا إلى نشاط اقتصادي
غير أن الظاهرة التي صارت تلفت الأنظار مؤخرا، هي ظهور مجموعات القراء الافتراضية على فيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، تلك التي بالرغم من تفاوت نجاحها في استقطاب القراء الشغوفين، فإن تناميها اليومي وتوسُّع أنشطتها لا يخفيان على مُتابعٍ ولا يمكن أن يمرّ دون ملاحظة، إذ لم تعُد تستقطب اهتمام القراء فحسب، بل صارت تجذب الكُتّاب، والمسؤولين في دور النشر والمكتبات، أي جميع المهتمين بالقراءة والكتابة وتسويق الكُتب.
كما لم تعُد أنشطتها مقتصرة على تبادل الآراء والمقترحات في ما يخص الكتب فقط، بل توسَّع نشاطها ليشمل تنظيم اللقاءات المفتوحة، وتبادل الكتب في ما بين الأعضاء، وبرامج توعية القراء وتشجيعهم على المزيد من القراءة، والمسابقات والهدايا التشجيعية، ومبادرات التعريف بالكُتّاب الجدُد، حتى صار التنافس، بل والتعاون أحيانا، بين مجموعات القراء المختلفة على أشُدِّه، بحيث أضحت أشبه بتيار رئيسي جديد يتشكَّل في أوساط القراءة والكتابة، جارفا إليه جميع مكوناتها.
ما يحدث في زمن كورونا لن يبقى في زمن كورونا، على عكس المقولة الأميركية الشهيرة عن مدينة لاس فيغاس؛ فما يترتب اليوم على ذلك الضيف الثقيل، كوفيد – 19، من تغيُّرات جذرية في وجه العالم، هو بمثابة عملية تجميل ذات نتائج مستدامة، لن تستطيع البشرية محوها أو التراجع عنها بعد عبور المحنة.
وكلمة “تجميل” هنا ليست على سبيل التفاؤل فقط، بل إنها التصوُّر الأكثر واقعية قياسا بحركة التاريخ ومجرياته المعتادة، فدائما ما تُفرز الأحداث الكبرى، حتى المأساوية منها، نتائج تُثبت مع مرور الوقت صلاحيتها للاستمرار في حياة البشر.
سبق وأن بلغَت ظاهرة نوادي الكِتاب أوجَ ازدهارها قبل ظهور الفايروس المميت، إذ صار العديد من القراء يتجمعون في المجاورات السكنية أو النوادي الرياضية، أحيانا وحتى بداخل الشركات، فيؤسسون نوادي للقراءة يُشرف عليه عادة أكثر الأعضاء حماسا لتعميم عادة القراءة والتشجيع عليها، أو أكبر المستعدين لبذل الجهد اللازم لتنظيم اللقاءات واختيار الكُتُب وإدارة الفاعليات.
مع حلول الوباء اللعين (كورونا)، تعذَّر استمرار لقاءاتهم وفعالياتهم التي تستلزم الحضور المباشر، وتباطأ أكثرهم في تحويل نشاطه إلى الوسيط الافتراضي، ما حفَّز روّاد نوادي الكِتاب المعطَّلة على البحث عن بدائل تعوِّضهم عن تلك الأجواء التي افتقدوها نتيجةً لقيود التباعد الاجتماعي، فلم يجدوا أفضل من مجموعات القراء على فيسبوك وغيره، ما ساهم في تفاقُم دورها وزيادة أعداد أعضائها بشكل مطَّرد.
أفضلية تصعب مجاراتها
بالنظر إلى طبيعة نوادي الكِتاب التقليدية وتأمل تكوينها، سنَخلُص لكونها لا تستطيع مجاراة ما يمكن لمجموعات القراء الجديدة أن تُتيحه للمشاركين، حتى قياسا بأكبر نوادي الكِتاب زخما بالأعضاء وأكثرها نشاطا وحماسا للفعاليات، فالفيسبوك يُتيح من طُرُق التفاعل المتنوعة ما يسمح بمشاركة حتى أكثر الأعضاء خَجَلا ورغبة في الانطواء، كما يسمح هو وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي بحضور عدد غير محدود من المشاركين في الفعاليات والمناقشات، سواء بالمشاهدة فقط أو بالمداخلات النصيّة والصوتية والمرئية.
ربما لا تكون نوادي الكِتاب التقليدية مُنشغلة بمنافسة مجموعات فيسبوك من الأساس، إذ تَقصُر نشاطها على أعضائها قليلي العدد، ولا تنشغل بغير راحتهم واستمتاعهم بشغفهم المشترك والوقت الذي يمضونه معا، غير أن السؤال الذي لا بدّ أن يطرح نفسه عليها عما قريب، هو ما إذا كان الأعضاء سيستمرون في التفاعل على أرض الواقع عبر هذه المجموعات الصغيرة، أم يجرفهم التيار الجديد بكل ما تستطيع تقديمَه المجموعات الكبيرة الافتراضية؟ وهل سيكون لذلك تأثير ملموس على إمكانية دعم المجموعات الصغيرة وتحقيق أهدافها مستقبَلا؟
لا يخفى على أحد ما يبذله القائمون على مجموعات القراء الجديدة من جهود دؤوبة ومستمرة، لأجل تخطّي جميع العقبات التي قد تحول دون استمرارهم في النمو والازدهار، فنراهم مثلا، على غرار نوادي الكِتاب التقليدية، يستضيفون الكُتّاب الذين يتوسّمون فيهم شعبية ما من بين أعضاء مجموعاتهم، فيقومون بالتعريف بهم والترحيب بانضمامهم، ثم يشرعون في الترويج لكُتبهم حديثة الإصدار ويساهمون بجدية كبيرة في تشجيع الأعضاء على اقتنائها، ومشاركة صورهم مع مقتنياتهم من الكتب، أو مكتباتهم المنزلية الآخذة في التضخم.
ونجدهم يحثون الأعضاء على نشر المراجعات والتقييمات للكُتب التي يقرؤونها، كوسيلة للجمع بين الكِتاب وقارئه المحتمَل، ولمساعدة القارئ على اتخاذ القرار ما إذا كان هذا الكِتاب أو ذاك يُناسبه ويُلائم مزاجَه الحالي.
ويقومون بتنظيم المناقشات واللقاءات المرئية المباشرة مع المؤلفين عبر التطبيقات الرقمية المختلفة، ويدعون القراء إلى المشاركة فيها بصحبة الناشرين والنقاد ومسؤولي المكتبات طبقا للمناسبة.
إنه عالم موازٍ جديد يتشكل أمام أعيننا، ليجذب هواة الكُتب وصُناعها للانغماس في تياره؛ عالم ما عاد ممكنا أن يتضاءل حجمُه أو يتراجع دورُه، حتى بعد زوال المخاوف الناتجة عن الكوفيد والاحتياطات الناجمة عن ضرورة التباعد الاجتماعي.
أصداء تسويقية
مجموعات القراء تستمر في الابتكار والتأثير
هل يقف الأمر عند إحلال مجموعات القراء الافتراضية محلّ نوادي الكِتاب التقليدية، وهذا كل شيء؟ أم يُعاد تشكيل المشهد الخاص بسوق الكتب وترسيم حدوده؟ الأرجح أن السيناريو الثاني هو الأقرب للحدوث، فقد غدَت مجموعات القراء الجديدة، خاصة في الفترة الأخيرة، تلعب دورا ترويجيّا هامّا لا يمكن التهاون مع تقديره، إذ صار العديد من القراء يهتمون بالكتب التي يتردد ترشيحها بين مجموعات القراء التي ينتمون إليها أكثر من غيرها.
فالقارئ مثله مثل أي إنسان، كائن اجتماعي يسعى للانتماء إلى كيان أكبر يشعر بداخله بالتجانس والاطمئنان، ومع توالي التجارب يتعرَّف القراء على الأعضاء الأقرب إلى ذائقاتهم والأجدر بثقتهم، فيتأثرون بآرائهم ويميلون لاقتناء الكُتب بناء على ترشيحاتهم.
مع انتشار شبكة الإنترنت وتكريسها لأنماط جديدة من العادات والسلوكيات، صار الكثير من القراء يجدون ضالتهم بسهولة
على عكس المعمول به عادة في نوادي الكِتاب، فإن القارئ يشعر بحُرية أكبر بين مجموعات القراء، حيث لا يُطالَب بقراءة كِتاب معين خلال فترة محددة تمهيدا لانخراطه في النشاط القادم للمجموعة، بل إنه يجد تنوُّعا هائلا من النشاطات التي يمكنه الانخراط فيها، وباقة متنوعة من الكُتب التي يستطيع الاختيار منها وِفقا لذائقته الخاصة وحالته المزاجية، وطبقا للترشيحات الموثوقة بالطبع؛ ومن هنا أخذت مجموعات القراء الجديدة شكلَ “دوائر التأثير”، وبدأت تجذب اهتمام المكتبات ودور النشر، فصاروا يمنحون ميزات خاصة لأعضاء المجموعات ذات التأثير الأكبر، ما ساهم في توسيع دوائرهم وزيادة تأثيرهم، وهكذا دواليك.
صرنا نسمع عن الكُتب المهداة للقراء المميزين من أعضاء المجموعات، والخصومات الخاصة التي تتفرَّد بها المجموعات الأكثر إقبالا على اقتناء الكُتب، وكذلك الإعلان عن صدور الكُتب الجديدة عبر صفحات المجموعات قبل غيرها، بل وبطاقات الولاء والعملاء الدائمين الممنوحة عبر المجموعات ذات الشعبية الواسعة.
والاحتمالات مفتوحة على المزيد من الابتكار، فقد نجد في قابل الأيام بين مجموعات القراء مَن يفتتح متجرا للكُتب، أو دارَ نشر نوعيّة، أو يتحوَّل إلى كيان موثوق يوكَل إليه قياسُ حركة سوق الكِتاب ومؤشراته.
قد نجدهم يشاركون بفاعلية في معارض الكِتاب الدولية، أو يُقيمون معارضهم الواقعية أو الافتراضية؛ جميع السيناريوهات ممكنة، طالما استمرَّت مجموعات القراء في الابتكار وفي اكتساب المزيد من رقعة التأثير، ولا بدّ لكل فكرة مبتكَرة أن تُحقق نجاحا ملموسا وتتحوَّل ذات يوم إلى نشاط اقتصادي قادر على الاستمرار، وعلى اجتذاب الحلول الاستثمارية الجديرة بالدراسة، فيكتسب مقدرة أكبر على إعادة تشكيل المشهد والمستقبل.
عملية التفاعل مع قراء آخرين صارت أشبه بالمادة الكيميائية المحفّزة
أحمد القرملاوي
كاتب وأديب مصري
مجموعات افتراضية تتوسع بسرعة قد تغير سوق الكتب نهائيا.
القراءة باتت عالما متشابكا لا فرديا فحسب
خلق انتشار فايروس كورونا واقعا جديدا، يظن الكثيرون أنه طارئ، فيما هو تغير جذري. أعاد انتشار الفايروس وملازمة البيوت توقيا من عدوى الناس لذواتهم، وازدهرت نشاطات عديدة من بينها قراءة الكتب، لكن هذه الأخيرة التي كانت مؤطرة سابقا بنشاطات واقعية وبنوادي القراءة أو المكتبات أو الفعاليات الثقافية وغير ذلك، صارت أكثر فأكثر أنشطة افتراضية، تضاعف فيها دور مجموعات القراء الافتراضية وفعالياتها، وتضاعف معها عدد العناوين المكتشفة، ما ينبئ بواقع جديد كليا في عالم القراءة.
يقول الروائي الأميركي جيمس بالدوين “ربما لا يكون المنزل مكانا، بقدر ما هو حالة تلزمنا”. تنسحب هذه المقولة على الكثيرين، غير أن أوضحهم مثالا هم القراء، فهؤلاء يجدون راحتهم لا بداخل المنازل فقط، بل بين دفّات الكتب. هم مَن يبحثون عن أشباههم في كل مكان، وتكفيهم صفة قارئ على بطاقة التعارف، كمُسوّغ لاعتبار شخص ما واحدا من أفراد عائلتهم الكبيرة، عائلة مُحِبي الكُتب.
القارئ بحاجة ماسّة إلى من يشاركونه شغفه بالقراءة، ويقترحون عليه عناوين جديدة لم تمر عليه، أو موضوعات لم يجد في السابق ما يُحفزه للاطلاع عليها، وبين الحين والآخر يُشنّفون أُذُنيه بأسماء كُتاب موهوبين يسمع بهم لأول مرة.
هكذا تصير عملية التفاعل مع قراء آخرين أشبه بالمادة الكيميائية المحفّزة التي تُطوِّر باستمرار عملية القراءة وتزيد من معدلاتها.
يُعاني بعض القراء من مخاوف مزعومة ترتبط بما يُسمّونها حالة “حبسة القراءة” أو “قفلة القارئ”، المقصود بها الفتور أو تراجع الشغف الذي يُصيب القارئ إثر فترة مزدهرة بالقراءات الممتعة. والتسمية مُستلهَمة من الحالة التي يشكو منها العديد من الكُتّاب، حين يفتر عنهم وحي الكتابة ويغيب الإلهام، فتتعذَّر الكتابة لفترة من الزمن.
تلك الحالة التي درجوا على تسميتها “قفلة الكتابة” أو “متلازمة الورقة البيضاء”. والاستلهام هنا يُشير إلى الرابط المعنوي الفريد الذي يربط القارئ مع عملية الكتابة نفسها، ويؤكد رغبته في استيحاء عوالمها في حياته الخاصة، وقلقه المتواصل من البُعد عنها، ما يجعله يبحث بدأب عن أشباه القراء القادرين على انتشاله من حالة الفتور هذه حالما يقع فيها.
وسائط للقراء
مع انتشار شبكة الإنترنت وتكريسها لأنماط جديدة من العادات والسلوكيات، صار الكثير من القراء يجدون ضالتهم بسهولة أكبر من السابق. فقبْل عصر الإنترنت، كان القراء لا يلتقون نظائرهم بعيدا عن المكتبات، أو المنتديات الثقافية.
وتعاني المكتبات – كما هو شائع في عالمنا العربي – من الوحدة والفراغ في أكثر الوقات، وقد يرتادها البعض لأسباب أخرى بعيدة عن قراءة الكتب. واليوم، وفي عالم يتدفَّق عبر كابلات الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة أكثر مما يسيل عبر ممرات الحياة التقليدية، فالقراء يجدون أقرانهم بكبسة بسيطة على أزرار لوحات المفاتيح، أو بعد لمس شاشات الهواتف النقالة.
صار القراء يتماسون اليوم مع شغفهم عبر قنوات اليوتيوب التي تعرض الكتب، وعلى صفحات التدوين الرقمي، مثل “جودريدز” و”أبجد” وغيرهما، حيث يتبادلون الآراء والمراجعات، كذلك عبر منشورات تويتر وإنستغرام المهتمة بالكُتب.
مجموعات القراء تستمر في الابتكار وفي اكتساب المزيد من رقعة التأثير وقد يتحوّل عملها قريبا إلى نشاط اقتصادي
غير أن الظاهرة التي صارت تلفت الأنظار مؤخرا، هي ظهور مجموعات القراء الافتراضية على فيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، تلك التي بالرغم من تفاوت نجاحها في استقطاب القراء الشغوفين، فإن تناميها اليومي وتوسُّع أنشطتها لا يخفيان على مُتابعٍ ولا يمكن أن يمرّ دون ملاحظة، إذ لم تعُد تستقطب اهتمام القراء فحسب، بل صارت تجذب الكُتّاب، والمسؤولين في دور النشر والمكتبات، أي جميع المهتمين بالقراءة والكتابة وتسويق الكُتب.
كما لم تعُد أنشطتها مقتصرة على تبادل الآراء والمقترحات في ما يخص الكتب فقط، بل توسَّع نشاطها ليشمل تنظيم اللقاءات المفتوحة، وتبادل الكتب في ما بين الأعضاء، وبرامج توعية القراء وتشجيعهم على المزيد من القراءة، والمسابقات والهدايا التشجيعية، ومبادرات التعريف بالكُتّاب الجدُد، حتى صار التنافس، بل والتعاون أحيانا، بين مجموعات القراء المختلفة على أشُدِّه، بحيث أضحت أشبه بتيار رئيسي جديد يتشكَّل في أوساط القراءة والكتابة، جارفا إليه جميع مكوناتها.
ما يحدث في زمن كورونا لن يبقى في زمن كورونا، على عكس المقولة الأميركية الشهيرة عن مدينة لاس فيغاس؛ فما يترتب اليوم على ذلك الضيف الثقيل، كوفيد – 19، من تغيُّرات جذرية في وجه العالم، هو بمثابة عملية تجميل ذات نتائج مستدامة، لن تستطيع البشرية محوها أو التراجع عنها بعد عبور المحنة.
وكلمة “تجميل” هنا ليست على سبيل التفاؤل فقط، بل إنها التصوُّر الأكثر واقعية قياسا بحركة التاريخ ومجرياته المعتادة، فدائما ما تُفرز الأحداث الكبرى، حتى المأساوية منها، نتائج تُثبت مع مرور الوقت صلاحيتها للاستمرار في حياة البشر.
سبق وأن بلغَت ظاهرة نوادي الكِتاب أوجَ ازدهارها قبل ظهور الفايروس المميت، إذ صار العديد من القراء يتجمعون في المجاورات السكنية أو النوادي الرياضية، أحيانا وحتى بداخل الشركات، فيؤسسون نوادي للقراءة يُشرف عليه عادة أكثر الأعضاء حماسا لتعميم عادة القراءة والتشجيع عليها، أو أكبر المستعدين لبذل الجهد اللازم لتنظيم اللقاءات واختيار الكُتُب وإدارة الفاعليات.
مع حلول الوباء اللعين (كورونا)، تعذَّر استمرار لقاءاتهم وفعالياتهم التي تستلزم الحضور المباشر، وتباطأ أكثرهم في تحويل نشاطه إلى الوسيط الافتراضي، ما حفَّز روّاد نوادي الكِتاب المعطَّلة على البحث عن بدائل تعوِّضهم عن تلك الأجواء التي افتقدوها نتيجةً لقيود التباعد الاجتماعي، فلم يجدوا أفضل من مجموعات القراء على فيسبوك وغيره، ما ساهم في تفاقُم دورها وزيادة أعداد أعضائها بشكل مطَّرد.
أفضلية تصعب مجاراتها
بالنظر إلى طبيعة نوادي الكِتاب التقليدية وتأمل تكوينها، سنَخلُص لكونها لا تستطيع مجاراة ما يمكن لمجموعات القراء الجديدة أن تُتيحه للمشاركين، حتى قياسا بأكبر نوادي الكِتاب زخما بالأعضاء وأكثرها نشاطا وحماسا للفعاليات، فالفيسبوك يُتيح من طُرُق التفاعل المتنوعة ما يسمح بمشاركة حتى أكثر الأعضاء خَجَلا ورغبة في الانطواء، كما يسمح هو وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي بحضور عدد غير محدود من المشاركين في الفعاليات والمناقشات، سواء بالمشاهدة فقط أو بالمداخلات النصيّة والصوتية والمرئية.
ربما لا تكون نوادي الكِتاب التقليدية مُنشغلة بمنافسة مجموعات فيسبوك من الأساس، إذ تَقصُر نشاطها على أعضائها قليلي العدد، ولا تنشغل بغير راحتهم واستمتاعهم بشغفهم المشترك والوقت الذي يمضونه معا، غير أن السؤال الذي لا بدّ أن يطرح نفسه عليها عما قريب، هو ما إذا كان الأعضاء سيستمرون في التفاعل على أرض الواقع عبر هذه المجموعات الصغيرة، أم يجرفهم التيار الجديد بكل ما تستطيع تقديمَه المجموعات الكبيرة الافتراضية؟ وهل سيكون لذلك تأثير ملموس على إمكانية دعم المجموعات الصغيرة وتحقيق أهدافها مستقبَلا؟
لا يخفى على أحد ما يبذله القائمون على مجموعات القراء الجديدة من جهود دؤوبة ومستمرة، لأجل تخطّي جميع العقبات التي قد تحول دون استمرارهم في النمو والازدهار، فنراهم مثلا، على غرار نوادي الكِتاب التقليدية، يستضيفون الكُتّاب الذين يتوسّمون فيهم شعبية ما من بين أعضاء مجموعاتهم، فيقومون بالتعريف بهم والترحيب بانضمامهم، ثم يشرعون في الترويج لكُتبهم حديثة الإصدار ويساهمون بجدية كبيرة في تشجيع الأعضاء على اقتنائها، ومشاركة صورهم مع مقتنياتهم من الكتب، أو مكتباتهم المنزلية الآخذة في التضخم.
ونجدهم يحثون الأعضاء على نشر المراجعات والتقييمات للكُتب التي يقرؤونها، كوسيلة للجمع بين الكِتاب وقارئه المحتمَل، ولمساعدة القارئ على اتخاذ القرار ما إذا كان هذا الكِتاب أو ذاك يُناسبه ويُلائم مزاجَه الحالي.
ويقومون بتنظيم المناقشات واللقاءات المرئية المباشرة مع المؤلفين عبر التطبيقات الرقمية المختلفة، ويدعون القراء إلى المشاركة فيها بصحبة الناشرين والنقاد ومسؤولي المكتبات طبقا للمناسبة.
إنه عالم موازٍ جديد يتشكل أمام أعيننا، ليجذب هواة الكُتب وصُناعها للانغماس في تياره؛ عالم ما عاد ممكنا أن يتضاءل حجمُه أو يتراجع دورُه، حتى بعد زوال المخاوف الناتجة عن الكوفيد والاحتياطات الناجمة عن ضرورة التباعد الاجتماعي.
أصداء تسويقية
مجموعات القراء تستمر في الابتكار والتأثير
هل يقف الأمر عند إحلال مجموعات القراء الافتراضية محلّ نوادي الكِتاب التقليدية، وهذا كل شيء؟ أم يُعاد تشكيل المشهد الخاص بسوق الكتب وترسيم حدوده؟ الأرجح أن السيناريو الثاني هو الأقرب للحدوث، فقد غدَت مجموعات القراء الجديدة، خاصة في الفترة الأخيرة، تلعب دورا ترويجيّا هامّا لا يمكن التهاون مع تقديره، إذ صار العديد من القراء يهتمون بالكتب التي يتردد ترشيحها بين مجموعات القراء التي ينتمون إليها أكثر من غيرها.
فالقارئ مثله مثل أي إنسان، كائن اجتماعي يسعى للانتماء إلى كيان أكبر يشعر بداخله بالتجانس والاطمئنان، ومع توالي التجارب يتعرَّف القراء على الأعضاء الأقرب إلى ذائقاتهم والأجدر بثقتهم، فيتأثرون بآرائهم ويميلون لاقتناء الكُتب بناء على ترشيحاتهم.
مع انتشار شبكة الإنترنت وتكريسها لأنماط جديدة من العادات والسلوكيات، صار الكثير من القراء يجدون ضالتهم بسهولة
على عكس المعمول به عادة في نوادي الكِتاب، فإن القارئ يشعر بحُرية أكبر بين مجموعات القراء، حيث لا يُطالَب بقراءة كِتاب معين خلال فترة محددة تمهيدا لانخراطه في النشاط القادم للمجموعة، بل إنه يجد تنوُّعا هائلا من النشاطات التي يمكنه الانخراط فيها، وباقة متنوعة من الكُتب التي يستطيع الاختيار منها وِفقا لذائقته الخاصة وحالته المزاجية، وطبقا للترشيحات الموثوقة بالطبع؛ ومن هنا أخذت مجموعات القراء الجديدة شكلَ “دوائر التأثير”، وبدأت تجذب اهتمام المكتبات ودور النشر، فصاروا يمنحون ميزات خاصة لأعضاء المجموعات ذات التأثير الأكبر، ما ساهم في توسيع دوائرهم وزيادة تأثيرهم، وهكذا دواليك.
صرنا نسمع عن الكُتب المهداة للقراء المميزين من أعضاء المجموعات، والخصومات الخاصة التي تتفرَّد بها المجموعات الأكثر إقبالا على اقتناء الكُتب، وكذلك الإعلان عن صدور الكُتب الجديدة عبر صفحات المجموعات قبل غيرها، بل وبطاقات الولاء والعملاء الدائمين الممنوحة عبر المجموعات ذات الشعبية الواسعة.
والاحتمالات مفتوحة على المزيد من الابتكار، فقد نجد في قابل الأيام بين مجموعات القراء مَن يفتتح متجرا للكُتب، أو دارَ نشر نوعيّة، أو يتحوَّل إلى كيان موثوق يوكَل إليه قياسُ حركة سوق الكِتاب ومؤشراته.
قد نجدهم يشاركون بفاعلية في معارض الكِتاب الدولية، أو يُقيمون معارضهم الواقعية أو الافتراضية؛ جميع السيناريوهات ممكنة، طالما استمرَّت مجموعات القراء في الابتكار وفي اكتساب المزيد من رقعة التأثير، ولا بدّ لكل فكرة مبتكَرة أن تُحقق نجاحا ملموسا وتتحوَّل ذات يوم إلى نشاط اقتصادي قادر على الاستمرار، وعلى اجتذاب الحلول الاستثمارية الجديرة بالدراسة، فيكتسب مقدرة أكبر على إعادة تشكيل المشهد والمستقبل.
عملية التفاعل مع قراء آخرين صارت أشبه بالمادة الكيميائية المحفّزة
أحمد القرملاوي
كاتب وأديب مصري