الشاعر الرومانسي محمد إبراهيم أبوسنة يودع قراءه في رحلته الأخيرة إلى الذاكرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشاعر الرومانسي محمد إبراهيم أبوسنة يودع قراءه في رحلته الأخيرة إلى الذاكرة

    الشاعر الرومانسي محمد إبراهيم أبوسنة يودع قراءه في رحلته الأخيرة إلى الذاكرة


    مبدع عاش منفتحا على كل التجارب الأدبية والإنسانية المحلية والعالمية.
    الثلاثاء 2024/11/12
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    شاعر جمع نضج الحياة وخبرة اللغة

    زخرت مصر في ستينات القرن الماضي بجيل أدبي مؤسس في الثقافة العربية، مازال تأثيره متواصلا إلى اليوم رغم غياب أغلب رواده. من هؤلاء الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، الذي رحل عن عالمنا الأحد عن عمر ناهز 87 عاما، تاركا تجربة أدبية إنسانية رهانها التجديد الدائم والانفتاح على الآخر.

    عرفتُ الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة عن قرب في الغربة، كنتُ أعملُ في مدينة الرياض بالسعودية، وكان موجودًا في قرية الدوادمي في العام الدراسي 1991 ـ 1992، مصاحبا لزوجته الدكتورة بإحدى أجهزة التعليم السعودية، بتلك القرية.

    لم تكن الدوادمي تملك أيّ مؤهلات مدنية أو شعرية، لذا عاش الشاعر غربته غربتين، غربة المكان، وغربة الأصدقاء والروح التي كانت تشعر بسجنها المفروض عليها قَسرا.

    لذا كان ينتهزُ الفرصة للذهاب إلى الرياض، ليلتقي بأصدقائه المصريين من الشعراء والأدباء المقيمين بالعاصمة، ربما يعوِّض قليلا من مشاعر الغربة والمَرَار التي اقتحمت عالمه الخاص على حين غرة.
    غربة الشاعر



    إنتاج أبوسنة الأدبي لم يقف على جانب إبداعي واحد فكتب في عدة أنواع ولم يقف عند عصر شعري بعينه


    كنا نلتقي في مدينة الرياض، فأحس بآلامه وأحزانه، وقلقه وثورته الداخلية التي لم ينقذه منها إلا الشعر والكتابة والقراءة، ومراسلة الصحف والمجلات الأدبية والثقافية. وكان يناجي الأيام أن تمرَّ بخطى أسرع مما هي عليه، لينتهي العام الدراسي، ويعود إلى مصر، بعد أن فشل في تحقيق أدنى تواؤم أو انسجام، في تلك البقعة من العالم.

    وعلى هذا يعقّب الشاعر فاروق شوشة في كتابه “زمن للشعر والشعراء” فيقول: “لولا أن النيل استيقظ فيه وأسعفه بالمدد ـ حياتيا وشعريا ـ لما استطاع أن يتجاوز الامتحان الصعب والتصحُّر المخيف”.

    أمران ابتهج لهما أبوسنة في هذه الرحلة الصحراوية الصعبة. الأمر الأول: الأمسية الشعرية التي أعدها له النادي الأدبي بالرياض برئاسة الشاعر عبدالله بن إدريس، وحضرها جمهور سعودي ومصري كبير، يتقدمه السفير المصري بالرياض في ذلك الوقت محمد فتحي الشاذلي، وعدد كبير من أبرز الوجوه الثقافية في العاصمة السعودية.

    الأمر الآخر: الأمسية الشعرية التي كنتُ شريكًا معه فيها في مدينة أبها، وبالتحديد في نادي أبها الأدبي برئاسة محمد عبدالله الحميد، والحفاوة التي استقبله بها الشعراء والمثقفون السعوديون، والمصريون والعرب المقيمون هناك.

    هاتان الأمسيتان استطاعتا أن تخففا قليلا من آلام الشاعر وإحساسه الحاد بالقلق والغربة. لقد كان أبوسنة قبل مجيئه إلى الدوادمي يعمل في إذاعة البرنامج الثقافي، وكان ملء السمع والبصر، ولكنه أحس بأن كل هذا ينسحب ـ فجأة ـ من تحت قدميه، وهو يمضي أيامه سجينا وسط صحراء شاسعة من الرمال، والأحزان، والغربة.

    لذا سرعان ما اتخذ قراره بعدم العودة ثانية إلى صحراء المكان، وصحراء النفوس، مهما كانت الإغراءات أو الإغواءات المادية. مَيْ هي ابنة الشاعر الوحيدة، التي لم يكن يقدر على فراقها طويلا، ولعلها كانت وراء اتخاذ قراره بالذهاب ـ مع أمها ـ إلى الدوادمي في تلك الفترة العصيبة من حياته.

    عرفتُ الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة قبل هذا بأكثر من عشر سنوات، كنت ألتقيه في الندوات والأمسيات الشعرية في القاهرة وفي الإسكندرية، وكنت أزوره في مكتبه بالإذاعة، وكان يذيع لي قصائد كثيرة ببرنامجه الشهير “ألوان من الشعر” بصوته العذب، بإذاعة البرنامج الثاني الذي تحوَّل إلى مسمّى “البرنامج الثقافي” بعد ذلك.

    وأتذكر أنَّ أوَّل حوار أدبي أجريته في حياتي الصحفية، كان مع الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، وكان في فندق سيسل بالإسكندرية، منذ حوالي عشرين عاما تقريبا.

    اصطحبتُ معي جهاز تسجيل وكاميرا، وكان أبوسنة يشجعني على المزيد من الأسئلة، وإثارة المزيد من القضايا الأدبية، فهو يعتقد أن الصحافة الأدبية تحتاج إلى أدباء يدخلون المجال الصحفي، وليس إلى صحافيين يدخلون المجال الأدبي. ونُشر الحوار على مساحة كبيرة في جريدة “الجزيرة” السعودية، فور إرساله.

    ولكن في الرياض وأبها، عرفت ـ عن قرب ـ أبوسنة الإنسان المثقف، إلى جانب الشاعر المحلِّق الذي يرى أن “الإنسان وهو يحيا مقيدا بالزمان والمكان مرهون بهذه القيود التي لا يستطيع التحرر منها إلا بالخيال الذي هو أخطر عنصر في التجربة الأدبية، فدون الخيال تصبح الكتابة مجرد صور آلية لواقع فقير”. كما يرى أيضا “أن الخيال هو الذي يعبر بنا حدود الواقع إلى آفاق المستحيل، ولكنه يجعل من هذا المستحيل واقعا جديدا لم نألفه من قبل”.

    وكم كانت سعادتي كبيرة بانطلاقه من الأسر، وفراره من السجن الصحراوي، وعودته إلى قاهرته ونيله وميكرفونه الأثير، وخياله الإبداعي الراقي الذي منحنا الكثير من الدواوين الشعرية العذبة، والمسرحيات الشعرية المهمة، والمقالات الأدبية والنقدية الكاشفة.
    تجربة منفتحة


    ولد الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة عام 1937 في قرية الودي ـ مركز الصف ـ بمحافظة الجيزة، ونزح إلى القاهرة ليكمل تعليمه الأزهري، فتخرَّج من كلية الدراسات العربية عام 1964 ثم استقر في القاهرة، نهائيا، بعد أن عُيّن محررا في الهيئة العامة للاستعلامات، ثم مشرفا على البرامج الإذاعية والنقدية بإذاعة القاهرة. وتدرَّج في وظائفه إلى أن صار مديرا لإذاعة البرنامج الثقافي (البرنامج الثاني سابقا) قبل الإحالة إلى المعاش القانوني. وهو يُعدّ شاعرا من أهم شعراء الموجة الثانية أو شعراء جيل الستينات المصري، بل يعد الآن واحدا من أهم شعراء الوطن العربي عامة.

    من أبرز أعماله الشعرية: قلبي وغازلة الثوب الأزرق، حديقة الشتاء، الصراخ في الآبار القديمة، أجراس المساء، تأملات في المدن الحجرية، البحر موعدنا، مرايا النهار البعيدة، رماد الأسئلة الخضراء، رقصات نيلية، شجر الكلام، أغاني الماء. فضلا عن صدور مجلدٍ يجمع أعماله الشعرية حتى عام 1985.

    وله في المسرح الشعري: حمزة العرب 1971، وحصار القلعة 1984. وفي المقالات والدراسات الأدبية والنقدية: دراسات في الشعر العربي، فلسفة المثل الشعبي، تجارب نقدية وقضايا أدبية، أصوات وأصداء، تأملات نقدية في الحديقة الشعرية، قصائد لا تموت، ربيع الكلمات، وغيرها.

    أغلب الكتب التي ترصد حركة الشعر العربي الحديث أو المعاصر يكون أبوسنة أحد الشعراء المدروسين فيها

    وعلى ذلك فإن إنتاج أبوسنة الأدبي لم يقف على جانب إبداعي واحد، ولم يقف عند عصر شعري بعينه، ولكن ثقافته الأدبية والشعرية جعلته منفتحا على كل التجارب الأدبية والإنسانية المحلية والعربية والعالمية، وقارئا نهما في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، إلى جانب الفنون الأخرى.

    نراه على سبيل المثال يتحدث في كتابه “ربيع الكلمات” عن شعراء قدامى ومحدثين، من أمثال: الشريف الرضي، وأبوفراس الحمداني، وابن سناء الملك، وحميد بن ثور الهلالي، وعروة بن حزام، وغيرهم، مثلما يتحدث عن علي محمود طه، وزكي مبارك، وفوزي العنتيل، وعبدالوهاب البياتي، ومحمد الفيتوري، ومحمود درويش، ومحمد عفيفي مطر، وحسن طلب، وغيرهم.

    وعندما يفرغ من بعض الشعراء يلتفت إلى عالم النقد والرواية فيتحدث عن بعض أعمال طه حسين، ونجيب محفوظ، ويحيى حقي، ومحمد عبدالمطلب، وعاطف نصر جودة، والمازني، وفاروق منيب، وجمال الغيطاني، وأحمد عتمان، كما يلتفت إلى حركة الترجمة، فيحدثنا عن ترجمة الشاعر بدر توفيق لرباعيات الخيام، وترجمة أشعار جاك بريفير، وقصائد من الشعر اليوناني الحديث.

    وهكذا يكشف لنا محمد إبراهيم أبوسنة ثقافته الأدبية الموسوعية التي أهلته للحصول على عدد من الجوائز من أهمها: جائزة الدولة التشجيعية في الشعر ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1984، وجائزة كفافيس 1990، وجائزة الدولة للتفوق عام 2001، فضلا عن تمثيله لمصر في عدد من الملتقيات الشعرية العربية والدولية. كما أُعدت عن شعره بعض الرسائل الجامعية الأكاديمية من ماجستير ودكتوراه.

    وأعتقد أنه لا يوجد كتاب يصدر عن حركة الشعر العربي الحديث أو المعاصر في الوطن العربي، إلا وكان محمد إبراهيم أبوسنة أحد الشعراء المدروسين في هذا الكتاب. وعلى سبيل المثال، يقول الناقد صلاح فضل في كتابه “تحولات الشعرية العربية” عن ديوان “شجر الكلام”: “شجر الكلام ديوان طازج للشاعر المصري الكبير محمد إبراهيم أبوسنة، تتجلى فيه نكهة سنوات النضج في تجربة الحياة، ومذاق خبرة اللغة المعتقة، وهي تستقطر من نبع الإبداع العربي رحيقها المصفَّى، فتطرح على ذاكرة القارئ أطياف التعبير، وأصوات الماضي وقد صار مفعما بالحضور الراهن”. تلك كانت بعض الذكريات على شواطئ القصيدة مع الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة وإبداعه الشعري الثري، الذي رحل عن دنيانا صباح الأحد 10 نوفمبر 2024.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X