"الاستدارة الأخيرة".. حكاية عالم تحكمه النساء
الرواية لوحة بصرية تمزج الواقعية بالسريالية والتعبيرية بالتجريدية.
الأربعاء 2024/11/06
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الصراع الجندري على مر الأزمنة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
يمكن للخيال وهو يخلق عوالمه الأكثر غرابة وفانتازية أن يناقش قضايا واقعية بل وأن ينفذ إلى أعماقها ويفككها بشكل أفضل وأكثر قدرة على التفسير والقراءة والنقد، ومن هنا اتجه العديد من الروائيين إلى عوالم الخيال غير المألوفة لاستنطاق التاريخ والأفكار وواقع البشر. ومن هؤلاء الكاتب الكويتي أحمد الزمام في روايته "الاستدارة الأخيرة".
يباغت الروائي والكاتب الكويتي أحمد الزمام العمل الأدبي والفكري من الزاوية الغامضة للذات الحرة في روايته الجديدة “الاستدارة الأخيرة”، تفكير خارج الأطر وسحرية تخترق المألوف، يجمع الحكاية بتشويقها في الرواية عبر نسقها المتناغم بحرفيّتها البنيوية، فمن تعوّد القراءة للزمام سيقع حتما في هذا العمل الجديد بين حيرتين وقرار، حيرة القلق الوجودي من الأسئلة المتدفقة وحيرة المحتوى اللامعقول الغريب، والذي يبدو فيه جانب من الأسلوب المبني على فكرة التاريخ البديل الذي تعودناه في الأدب الإنجليزي والأميركي الحديث مثل فيليب ديك أو وورد مور المبني على الخيال والميتافيزيقا.
بين حيرتين يكون قرار القارئ في الاستمرار فضوليا في كشف الستار عن بقية أحداث هذه الرواية المحبوكة بالتفصيل والمشتغلة بالتشويق المتصاعد في صبر البطل وفي تأملاته وبحثه في عوالم الجندرية وفي تماهي الانتماء للجنس أو التماثل أبعد فيه بِحيْرةٍ يجبره عليها الكاتب حتى يستمر في اتباع نسقه، الخيالي الحسيّ والذهني المفكّك لأفكار التصنيف وتبادل رؤية السيطرة بين الجنسين كيف تكون ملامح الواقع إذا ما سيطرت النساء.
الرواية محكية
◙ "الاستدارة الأخيرة" مغامرة كثيفة في السرد والحكاية والتجريب على مستوى البنية الروائية
"الاستدارة الأخيرة"، التي صدرت عن دار رشم للنشر والتوزيع تحتوي على 424 صفحة، مغامرة كثيفة في السرد والحكاية والتجريب على مستوى البنية الروائية التي جمعت رؤية لغوية لأجناس كتابية مختلفة ممتعة في نسقها، قد يبدو الإيقاع فيها بطيئا ولكنه يقصد التأني والتمعّن في العمق الذهني للفكرة ،اختار من خلاله الزمام التمهّل وطول النفس والعمل على الوصف البصري والاشتغال على الصورة فيما ورائياتها، فانتازيا حسيّة استطاع بها أن يشدّ القارئ بذكاء مختلف ومتعة ميّزته وأعطته البصمة التي لا تشبه سواه.
تدور أحداث “الاستدارة الأخيرة” في عالم خاص، تنتقل بين زمن البطل وأزمنة حكاياته، وهو كاتب شغوف بالحكايات وباحث عن حقيقة التأريخ وعملية تدوينه، يعيش في مملكة تحكمها النساء بفرض سلطتهن على الرجال، في بحثه المغامرة يصل البطل بعد عناء إلى حقائق تكشف كيفية وصول النساء إلى السلطة وحكمهن المطلق، فيخلص إلى تساؤل هل النساء هن نساء أو يستبطن الرجال داخلهن أو هل الرجال يخفون صورة النساء في دواخلهم الناعمة، ونتابع في الرواية النساء في تسلّطهن على الرجال وإلغائهن لحقوقهم ونعتهن لهم بالفئران والأغبياء وتجريدهم من حقوقهم ومنعهم
من الاختلاط بالنساء، كذلك حرمانهم من التعليم وتكثيف العنف الجنسي عليهم في علاقات لا متوازنة موصوفة بالكبت والقهر والحرمان والخوف والعزلة، كل ذلك يطرحه الروائي مرورًا بحكايات الصراع الجندري على مر الأزمنة، وما تركه من أثر على العالم.
لم أبحث عن الرواية بل هي التي أتتني بكل الإغراء في المعنى والمقصد، ولم أتلقاها حروفا أو لغة، بل تعثّرت بها لوحة بصرية عبقرية واقعية ساحرة سريالية تعبيرية وتجريدية في آن، تحيل المُدمن على القراءة إلى عوالم الأدب اللاتيني الآسيوي، منتشلة من أنياب الوجودية غرائبية بديعة وتفاصيل واقعة في واقعيتها اللامتوقّعة في هدوئها السردي تمر عبر الشخصيات قبل أن تكشف عن القصة.
منذ الجمل الأولى التي ترتحل بلغة الرواية ندرك أننا أمام وجبة ذهنية مختلفة في أطرها وشخصياتها وفي طرحها وعلاقاتها، المكان مملكة الرؤية، قلعة الراوي الشاب وهو باحث في التاريخ، والشخصيات وصفها يحيل إلى مداها المتسلّط في دورها، البطل لا يهدأ ليكشف الحقيقة ليغامر من أجلها بتهوّر محاولا بكل سبل الإقناع التي تبدأ منه لتنتهي عنده منذ الصفحات الأولى إلى آخر جمل الرواية، بحث في الداخل عن الانتماء إلى من وماذا صراع الجنسية في التكوين والتكوّن.
في الرواية لا تُعطى الشخصيات أسماء ولكن صفات كل حسب شكله ودوره ووضعه وتأثيره ومكانته علاوة على حضوره وسلطته، إنه مكان تحكمه وتتسلّط فيه النساء على الرجال”الفئران”، كما يوصفون في الرواية، فالهدف البنيوي من الشخصيات أن يخدم فضاء الخيال بالوصف، فأن لا تنسب لأسماء بل لصفات يحمل رؤية تشريك القارئ في التداخل مع خيال البطل والكاتب معا حتى يُصبح بدوره شريكا في الحيرة وفي الانسياب.
◙ السلطة واحدة بيد الرجال أو النساء تحكّم وسيطرة عرش أو موت إذعان أو هلاك إنها سيطرة على التاريخ
"الضفدعة" زوجة الأب أول تمثل لما يقع على الراوي من تسلّط منذ مراحل عمره التي يسردها في مراحل، أما الشخصيات التي تنسب إلى الأب مثل العمة فهي متوازنة الحضور في علاقتها بالراوي البطل، وحدها لورا الاسم والحضور يُبقي عليها الكاتب كدال ودليل على شفافية ومصداقية ورغبة في التعايش الطبيعي بتوازن يحمي الكيانين.
في "الاستدارة الأخيرة" لا تشعر للحظة أنك تقرأ أنت فقط تتابع بصريا تلك الحركة في دورانها ودائريّتها، ما نبدأ منه قراءة ننتهي عنده استخلاصا، وما نستخلصه يحيّرنا مرة أخرى بشكل لا ينتهي، فذلك الفراغ المليء بصوره وبالحوار الخافت المتسائل في الوصف والتنقل من لوحة إلى أخرى، ذلك ما يبدو وما يشد عين القارئ نحو الرواية.
فوصف التدرج بين العتمة والظلال والضوء والنور يشعر به القارئ ويتماثل معه ويدور داخله غير مضطر لاستبطان العوالم النفسية للشخصيات، ولا لتبريرها بكل ما يصل خياله من صوره، ولا بتفكيك حالاتها بين قسوة وعنف وتحامل وخراب وتخريب متعمّد، فالحركة تحمل درجات الاستفزاز الحسية التي لا تنبع إلا من عدم توقّع العالم الذي بدا عليه الرجال وحيّهم المليء بالتشوهات. مقاربات لا تخطر في وعي العاقل المندفع خلف مسارات اللاحياة واللاإنصاف بين الجنسين من ظلم الآخر أو ربما التسلّط فعل فرداني من كلا الجنسين.
في وصف الشرطيات وطريقة تعاملهن يبدو المشهد مبهما يدفع القارئ إلى التسمّر في أمكنة الدهشة بغضّ النظر عن انتمائه بين التعتيم والظلمة التي تحيط بهن، والتي تجعل مسار التخيّل غارقا في سريالياته، ويعطي انطباعا سوداويا بقسوة التسلّط في وجوههن التي لا تُرى ولا يصفها، وهنا يقع القارئ في مفارقة الوصف المألوف للمرأة، جمال رقّة نعومة لا تشبه نساء الرواية المتعوّدة بل هن مخلوقات أخرى يدفعهن العنف والتسلّط سلاحهن للترهيب المُدمج بالخوف الدائم من الآخر، الذي قد يقلب بين لحظة وأخرى موازين ذلك التسلّط ويستحوذ على الحكم والتحكم.
"القلعة" في توصيفها تبدو مكانا آخر بين الحقيقة والرسم بين تأمل الفكرة المتناقضة وفكرة السلطة والتسلّط، ويبحث الراوي ولورا عن تفاصيلها، بينما تشتد الحيرة في كنه الملكة وجنسها هل هي رجل أو امرأة أو تداخل بين هذا وذاك؟
السلطة هي السلطة
◙ الرواية يحملها إليه والحكاية تفصيل لتفاصيل مفصّلة
"الخيال وحده هو ما ينصرني” تعبير لا يميّز في الاستبطان بين عقل الكاتب وبين شخصيته المنتصرة لذاتها الحرة الباحثة في تاريخ التأسيس للسلطة التي تفرض غطرسة السيطرة والتملّك والتحكّم في التاريخ وفي الذاكرة في الحكاية، بين الكاتب والملكة لحظات التجلي المتوازنة “أنت كاتبي الأمين” تقول.
مجتمع تحكمه النساء هو صورة تدهش القارئ فيتساءل كيف بدأت القصة ومن أين انطلقت وكيف سيكون العالم الذي تحكمه النساء، رغم أن وقع وإيقاع الرواية لا يغريان بعالم تحكمه النساء في ظل السوداوية المبالغة في صدمتها وفي مرايا التكوّن للصمت الضاج في تفاصيلها إذ يستدرج الزمام القارئ بأسلوبه وصفا قلقا حيرة خوفا تردّدا انفعالا غوصا في المحاكاة الباطنية لبطل الرواية الذي لم تهدأ ذاكرته ولم يهدأ هو بحثا عن القلعة؟
الرواية يحملها إليه والحكاية تفصيل لتفاصيل مفصّلة، “ولدت كاتبا” تقول لورا، اعتراف أنثوي بحقيقة اللغة وعبقريتها لدى بطل الرواية فما الذي يريد قوله الزمام؟ تساؤل هنا يفتح منافذ الوعي على الآخر ذلك الصدام الصراع المنعكس والمعكوس في لحظات الإدراك الأولى والوعي العميق بجدوى تصنيف الإنسان وهو الروح الحقيقية في وجوده من يحكم الآخر ومن يتحكّم فيه، وهل يجب التحكم لتكون الحياة مستمرة؟ إنها السلطة واحدة بيد الرجال أو النساء تحكّم وسيطرة "عرش أو موت" إذعان أو هلاك سيطرة على التاريخ استحواذا على الحكاية.
"دفعني الشغف إلى الخروج هذه المرة لأكون امرأة وأخوض تجربة الشعور بالقوّة وأعرف ما الذي يجعل المرأة امرأة في وحدتها”. يعايش القارئ التفاصيل ويندمج في الحكاية وهي ليست مجرّد أسلوب حسيّ اعتمده الزمام يخلق تشويقا بل تماهيا بلور فيه ذاته المنساقة وراء الحكاية في روايتها بين الأسطورة والملحمة مغامرة جرأة وبحث متعدّد بين الذات والآخر بين الحكاية والرواية بين العقلانية في السرد والعاطفية في الحكاية نفسها حسب من يحكيها، تداخلات تفضي إلى خلق عنصر الإدهاش وحيرة المشاركة في البحث، دون فصل ولا انفصال، تفكيك الحالات التي يستحيل فيها الجسد إلى طرح يفرضه الواقع وكيف استطاعت الحكاية أن تضع عالم الرجال في مكان مستفرغ من الجسدية إلى رؤى ضيّقة وسّعت السلطات المتسلّطة للنساء في مجال الهيمنات.
تستدعي الاستدارة الأخيرة قارئيها إلى متعة بصرية وخيال حسيّ يدفعه التشويق والبحث وهو ما يميّز الزمام في كتاباته دون إغفال عنصر الحكمة أو التفكير الحر، كمن يتساءل بصوت عال، رحلة تدعو إلى الغوص مرات ومرات في أفكارها ودوافعها لتفكيك طلاسم الأسلوب ورمزيات الحكاية.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بشرى بن فاطمة
كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
الرواية لوحة بصرية تمزج الواقعية بالسريالية والتعبيرية بالتجريدية.
الأربعاء 2024/11/06
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الصراع الجندري على مر الأزمنة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
يمكن للخيال وهو يخلق عوالمه الأكثر غرابة وفانتازية أن يناقش قضايا واقعية بل وأن ينفذ إلى أعماقها ويفككها بشكل أفضل وأكثر قدرة على التفسير والقراءة والنقد، ومن هنا اتجه العديد من الروائيين إلى عوالم الخيال غير المألوفة لاستنطاق التاريخ والأفكار وواقع البشر. ومن هؤلاء الكاتب الكويتي أحمد الزمام في روايته "الاستدارة الأخيرة".
يباغت الروائي والكاتب الكويتي أحمد الزمام العمل الأدبي والفكري من الزاوية الغامضة للذات الحرة في روايته الجديدة “الاستدارة الأخيرة”، تفكير خارج الأطر وسحرية تخترق المألوف، يجمع الحكاية بتشويقها في الرواية عبر نسقها المتناغم بحرفيّتها البنيوية، فمن تعوّد القراءة للزمام سيقع حتما في هذا العمل الجديد بين حيرتين وقرار، حيرة القلق الوجودي من الأسئلة المتدفقة وحيرة المحتوى اللامعقول الغريب، والذي يبدو فيه جانب من الأسلوب المبني على فكرة التاريخ البديل الذي تعودناه في الأدب الإنجليزي والأميركي الحديث مثل فيليب ديك أو وورد مور المبني على الخيال والميتافيزيقا.
بين حيرتين يكون قرار القارئ في الاستمرار فضوليا في كشف الستار عن بقية أحداث هذه الرواية المحبوكة بالتفصيل والمشتغلة بالتشويق المتصاعد في صبر البطل وفي تأملاته وبحثه في عوالم الجندرية وفي تماهي الانتماء للجنس أو التماثل أبعد فيه بِحيْرةٍ يجبره عليها الكاتب حتى يستمر في اتباع نسقه، الخيالي الحسيّ والذهني المفكّك لأفكار التصنيف وتبادل رؤية السيطرة بين الجنسين كيف تكون ملامح الواقع إذا ما سيطرت النساء.
الرواية محكية
◙ "الاستدارة الأخيرة" مغامرة كثيفة في السرد والحكاية والتجريب على مستوى البنية الروائية
"الاستدارة الأخيرة"، التي صدرت عن دار رشم للنشر والتوزيع تحتوي على 424 صفحة، مغامرة كثيفة في السرد والحكاية والتجريب على مستوى البنية الروائية التي جمعت رؤية لغوية لأجناس كتابية مختلفة ممتعة في نسقها، قد يبدو الإيقاع فيها بطيئا ولكنه يقصد التأني والتمعّن في العمق الذهني للفكرة ،اختار من خلاله الزمام التمهّل وطول النفس والعمل على الوصف البصري والاشتغال على الصورة فيما ورائياتها، فانتازيا حسيّة استطاع بها أن يشدّ القارئ بذكاء مختلف ومتعة ميّزته وأعطته البصمة التي لا تشبه سواه.
تدور أحداث “الاستدارة الأخيرة” في عالم خاص، تنتقل بين زمن البطل وأزمنة حكاياته، وهو كاتب شغوف بالحكايات وباحث عن حقيقة التأريخ وعملية تدوينه، يعيش في مملكة تحكمها النساء بفرض سلطتهن على الرجال، في بحثه المغامرة يصل البطل بعد عناء إلى حقائق تكشف كيفية وصول النساء إلى السلطة وحكمهن المطلق، فيخلص إلى تساؤل هل النساء هن نساء أو يستبطن الرجال داخلهن أو هل الرجال يخفون صورة النساء في دواخلهم الناعمة، ونتابع في الرواية النساء في تسلّطهن على الرجال وإلغائهن لحقوقهم ونعتهن لهم بالفئران والأغبياء وتجريدهم من حقوقهم ومنعهم
من الاختلاط بالنساء، كذلك حرمانهم من التعليم وتكثيف العنف الجنسي عليهم في علاقات لا متوازنة موصوفة بالكبت والقهر والحرمان والخوف والعزلة، كل ذلك يطرحه الروائي مرورًا بحكايات الصراع الجندري على مر الأزمنة، وما تركه من أثر على العالم.
لم أبحث عن الرواية بل هي التي أتتني بكل الإغراء في المعنى والمقصد، ولم أتلقاها حروفا أو لغة، بل تعثّرت بها لوحة بصرية عبقرية واقعية ساحرة سريالية تعبيرية وتجريدية في آن، تحيل المُدمن على القراءة إلى عوالم الأدب اللاتيني الآسيوي، منتشلة من أنياب الوجودية غرائبية بديعة وتفاصيل واقعة في واقعيتها اللامتوقّعة في هدوئها السردي تمر عبر الشخصيات قبل أن تكشف عن القصة.
منذ الجمل الأولى التي ترتحل بلغة الرواية ندرك أننا أمام وجبة ذهنية مختلفة في أطرها وشخصياتها وفي طرحها وعلاقاتها، المكان مملكة الرؤية، قلعة الراوي الشاب وهو باحث في التاريخ، والشخصيات وصفها يحيل إلى مداها المتسلّط في دورها، البطل لا يهدأ ليكشف الحقيقة ليغامر من أجلها بتهوّر محاولا بكل سبل الإقناع التي تبدأ منه لتنتهي عنده منذ الصفحات الأولى إلى آخر جمل الرواية، بحث في الداخل عن الانتماء إلى من وماذا صراع الجنسية في التكوين والتكوّن.
في الرواية لا تُعطى الشخصيات أسماء ولكن صفات كل حسب شكله ودوره ووضعه وتأثيره ومكانته علاوة على حضوره وسلطته، إنه مكان تحكمه وتتسلّط فيه النساء على الرجال”الفئران”، كما يوصفون في الرواية، فالهدف البنيوي من الشخصيات أن يخدم فضاء الخيال بالوصف، فأن لا تنسب لأسماء بل لصفات يحمل رؤية تشريك القارئ في التداخل مع خيال البطل والكاتب معا حتى يُصبح بدوره شريكا في الحيرة وفي الانسياب.
◙ السلطة واحدة بيد الرجال أو النساء تحكّم وسيطرة عرش أو موت إذعان أو هلاك إنها سيطرة على التاريخ
"الضفدعة" زوجة الأب أول تمثل لما يقع على الراوي من تسلّط منذ مراحل عمره التي يسردها في مراحل، أما الشخصيات التي تنسب إلى الأب مثل العمة فهي متوازنة الحضور في علاقتها بالراوي البطل، وحدها لورا الاسم والحضور يُبقي عليها الكاتب كدال ودليل على شفافية ومصداقية ورغبة في التعايش الطبيعي بتوازن يحمي الكيانين.
في "الاستدارة الأخيرة" لا تشعر للحظة أنك تقرأ أنت فقط تتابع بصريا تلك الحركة في دورانها ودائريّتها، ما نبدأ منه قراءة ننتهي عنده استخلاصا، وما نستخلصه يحيّرنا مرة أخرى بشكل لا ينتهي، فذلك الفراغ المليء بصوره وبالحوار الخافت المتسائل في الوصف والتنقل من لوحة إلى أخرى، ذلك ما يبدو وما يشد عين القارئ نحو الرواية.
فوصف التدرج بين العتمة والظلال والضوء والنور يشعر به القارئ ويتماثل معه ويدور داخله غير مضطر لاستبطان العوالم النفسية للشخصيات، ولا لتبريرها بكل ما يصل خياله من صوره، ولا بتفكيك حالاتها بين قسوة وعنف وتحامل وخراب وتخريب متعمّد، فالحركة تحمل درجات الاستفزاز الحسية التي لا تنبع إلا من عدم توقّع العالم الذي بدا عليه الرجال وحيّهم المليء بالتشوهات. مقاربات لا تخطر في وعي العاقل المندفع خلف مسارات اللاحياة واللاإنصاف بين الجنسين من ظلم الآخر أو ربما التسلّط فعل فرداني من كلا الجنسين.
في وصف الشرطيات وطريقة تعاملهن يبدو المشهد مبهما يدفع القارئ إلى التسمّر في أمكنة الدهشة بغضّ النظر عن انتمائه بين التعتيم والظلمة التي تحيط بهن، والتي تجعل مسار التخيّل غارقا في سريالياته، ويعطي انطباعا سوداويا بقسوة التسلّط في وجوههن التي لا تُرى ولا يصفها، وهنا يقع القارئ في مفارقة الوصف المألوف للمرأة، جمال رقّة نعومة لا تشبه نساء الرواية المتعوّدة بل هن مخلوقات أخرى يدفعهن العنف والتسلّط سلاحهن للترهيب المُدمج بالخوف الدائم من الآخر، الذي قد يقلب بين لحظة وأخرى موازين ذلك التسلّط ويستحوذ على الحكم والتحكم.
"القلعة" في توصيفها تبدو مكانا آخر بين الحقيقة والرسم بين تأمل الفكرة المتناقضة وفكرة السلطة والتسلّط، ويبحث الراوي ولورا عن تفاصيلها، بينما تشتد الحيرة في كنه الملكة وجنسها هل هي رجل أو امرأة أو تداخل بين هذا وذاك؟
السلطة هي السلطة
◙ الرواية يحملها إليه والحكاية تفصيل لتفاصيل مفصّلة
"الخيال وحده هو ما ينصرني” تعبير لا يميّز في الاستبطان بين عقل الكاتب وبين شخصيته المنتصرة لذاتها الحرة الباحثة في تاريخ التأسيس للسلطة التي تفرض غطرسة السيطرة والتملّك والتحكّم في التاريخ وفي الذاكرة في الحكاية، بين الكاتب والملكة لحظات التجلي المتوازنة “أنت كاتبي الأمين” تقول.
مجتمع تحكمه النساء هو صورة تدهش القارئ فيتساءل كيف بدأت القصة ومن أين انطلقت وكيف سيكون العالم الذي تحكمه النساء، رغم أن وقع وإيقاع الرواية لا يغريان بعالم تحكمه النساء في ظل السوداوية المبالغة في صدمتها وفي مرايا التكوّن للصمت الضاج في تفاصيلها إذ يستدرج الزمام القارئ بأسلوبه وصفا قلقا حيرة خوفا تردّدا انفعالا غوصا في المحاكاة الباطنية لبطل الرواية الذي لم تهدأ ذاكرته ولم يهدأ هو بحثا عن القلعة؟
الرواية يحملها إليه والحكاية تفصيل لتفاصيل مفصّلة، “ولدت كاتبا” تقول لورا، اعتراف أنثوي بحقيقة اللغة وعبقريتها لدى بطل الرواية فما الذي يريد قوله الزمام؟ تساؤل هنا يفتح منافذ الوعي على الآخر ذلك الصدام الصراع المنعكس والمعكوس في لحظات الإدراك الأولى والوعي العميق بجدوى تصنيف الإنسان وهو الروح الحقيقية في وجوده من يحكم الآخر ومن يتحكّم فيه، وهل يجب التحكم لتكون الحياة مستمرة؟ إنها السلطة واحدة بيد الرجال أو النساء تحكّم وسيطرة "عرش أو موت" إذعان أو هلاك سيطرة على التاريخ استحواذا على الحكاية.
"دفعني الشغف إلى الخروج هذه المرة لأكون امرأة وأخوض تجربة الشعور بالقوّة وأعرف ما الذي يجعل المرأة امرأة في وحدتها”. يعايش القارئ التفاصيل ويندمج في الحكاية وهي ليست مجرّد أسلوب حسيّ اعتمده الزمام يخلق تشويقا بل تماهيا بلور فيه ذاته المنساقة وراء الحكاية في روايتها بين الأسطورة والملحمة مغامرة جرأة وبحث متعدّد بين الذات والآخر بين الحكاية والرواية بين العقلانية في السرد والعاطفية في الحكاية نفسها حسب من يحكيها، تداخلات تفضي إلى خلق عنصر الإدهاش وحيرة المشاركة في البحث، دون فصل ولا انفصال، تفكيك الحالات التي يستحيل فيها الجسد إلى طرح يفرضه الواقع وكيف استطاعت الحكاية أن تضع عالم الرجال في مكان مستفرغ من الجسدية إلى رؤى ضيّقة وسّعت السلطات المتسلّطة للنساء في مجال الهيمنات.
تستدعي الاستدارة الأخيرة قارئيها إلى متعة بصرية وخيال حسيّ يدفعه التشويق والبحث وهو ما يميّز الزمام في كتاباته دون إغفال عنصر الحكمة أو التفكير الحر، كمن يتساءل بصوت عال، رحلة تدعو إلى الغوص مرات ومرات في أفكارها ودوافعها لتفكيك طلاسم الأسلوب ورمزيات الحكاية.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بشرى بن فاطمة
كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية