ملحمة جلجامش أثر خالد منذ أيام الخلق الأولى إلى حد الآن
ناجح المعموري يكشف اليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ملحمة تبحث في الأسئلة الكونية الأبدية للإنسان
ملحمة جلجامش من أقدم الآثار الأدبية الإنسانية على الإطلاق، وقد خلّدت حضارة بلاد الرافدين بأسلوب شعري مميز جعلها خالدة على مر العصور متنقلة من لغة إلى أخرى، دون أن تفقد قوة تأثيرها، وهو ما يجعلها من أعظم الآثار الأدبية. ولعل هذا الأثر قد نال من المقاربات الكثير، ولكنه ما زال خصبا لقراءات جديدة في كل مرة.
تزخر ملحمة جلجامش بأنماط متعددة وصور مكثفة للعلاقات الإنسانية التي تتناول قضايا مصيرية مهمة، تخص الأسئلة الإنسانية الكبرى. والملحمة كما يعرف القارئ، كتبت بلغة مغايرة للمألوف، وتأثثت بألفاظ وعبارات غنية بالمدلولات التي تفيض بالأفكار التي يمكنها أن تجري من بين ثنايا النص.
كثيرون من كتبوا عن ملحمة جلجامش، وكثيرون من قاموا بترجمتها من اللغة الإنجليزية إلى لغات مختلفة، كالعربية وغيرها، إضافة إلى من ترجمها من لغتها الأصلية إلى العربية مباشرة. وكان آخرها ترجمة نائل حنون، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، لكن يبقى ناجح المعموري أبرز من كتب عن الملحمة، عبر اعتماد منهج التأويل في الكتابة، واستشراف النص الأصلي، بما يساعد على الوصول إلى فكرة ناضجة، قائمة على أصول البحث الحر.
الخلود الآخر
الملحمة نص ما زال ينبض بالحياة، كونه يتحدث عن الأسئلة الكبرى، ويحاول الإجابة عما يجول في داخل الإنسان
في الوقت الذي يشهد فيه الوسط الثقافي والأكاديمي سرقات علنية، وشكاوى من عدم الإشارة إلى المصدر الأصلي في كتابة البحوث وحتى المقالات، انفرد المعموري بخصيصة تميز بها عن غيره، وهي ذكره لأي مصدر صادفه أثناء بحثه، فيذكر أنه استفاد من هذا الكاتب أو ذاك في بحثه، وهو أمر يحسب له.
وعندما نقول “العلاقات الإنسانية” نعني بها تلك التي كانت بين البطل الأوحد “جلجامش” وبين الشخصيات الأخرى في الملحمة، وتلك العلاقات لم تظهر إلا بعد ظهور المعادل الموضوعي له “عدوه” وصديقه “أنكيدو”، الذي خلقته الآلهة بعد شكوى سكان أوروك للآلهة نتيجة ما تعرضوا له من ظلم على يد جلجامش، فما إن ظهر أنكيدو وظهرت معه ملامح التمدن على يد شمخت، وإقراره بقوة صديقه،
حتى ظهرت أنماط جديدة، غير مألوفة، صنعت من جلجامش كائنا مختلفا، كائنا يسعى إلى الخلود، بعد أن كان مشغولا بتفريغ طاقته الجنسية ببنات أوروك. فتلك الطاقة الغريزية تحولت إلى طاقة إنسانية، تجلت في علاقاته مع الآخرين، خصوصا أنكيدو.
المعموري أعطى
المعموري استطاع أن يوصل إلينا رسالة واضحة المعالم مفادها أنه بالعلاقات الإنسانية يمكن للمرء الوصول إلى غايته
مساحة للعلاقة التي كانت الأنثى طرفا فيها، وتجلت تلك العلاقة في الحوار الذي دار بين بطلنا وصاحبة الحانة التي نصحته بأن يتجه إلى قضايا أهم من البحث عن الخلود، لأن الحياة استأثرت بها الآلهة لنفسها، وأعطت للبشر نصيبا من الحياة:
“ارقص وألعب مساء نهار/ واجعل ثيابك نظيفة زاهية/ واغسل رأسك واستحم في الماء/ ودلل الصغير الذي يمسك بيدك/ وأفرح الزوجة التي بين أحضانك/ وهذا هو نصيب البشرية”.
إن هذا الحوار كان علامة فارقة ونقطة تحول في حياة جلجامش. ثم نقرأ حوارا آخر بين شمخت وأنكيدو يكاد يشابه الحوار الأول: “كل الطعام يا أنكيدو، فإنها سنة الحياة/ واشرب الشراب القوي، فهذه عادة البلاد/ فأكل أنكيدو من الطعام حتى شبع/ وشرب من الشراب القوي سبعة أقداح”.
فهنا نجد أن المعموري ركّز على العلاقة الثنائية بين البطلين: جلجامش/ سيدوري، أنكيدو/ شمخت، وهي علاقات إنسانية قائمة على التحول من حالة الى أخرى، وهو حوار يبدو من طرف واحد، سبقته الأحداث التي استوجبت ذلك الحوار، فكان كلام كل من سيدوري وشمخت يمثل المرحلة الأخيرة للانتقال إلى المرحلة الأخرى.
ملحمة جلجامش
سعى المعموري إلى تسليط الضوء على أن جلجامش استطاع أن ينال الخلود، لكن ليس الذي كان يتصوره، بل الخلود الآخر، الأكثر أهمية، وهو أن
يكون خالدا في ضمير الجماعة، فيقول: لم يستطع جلجامش حيازة عشبة الخلود نهائيا، فبعد رحلته الطويلة، والمتاعب التي عاشها طويلا، فقد عشبة الخلود، بعد أن تركها ونزل للاغتسال في البئر… وعليه أن يفكر بآلية جديدة تمنحه الخلود الأبدي، وهذا ما انحاز له أخيرا، وأدرك أن العمل وخدمة مدينته أوروك
والناس فيها سيجعلانه باقيا ومخلدا في يوميات المدينة، وفعلا ظل الملك جلجامش يومية متكررة في مرويات الجماعات وسرديات الأفراد.
لقد استطاع المعموري أن يوصل لنا رسالة واضحة المعالم، مفادها أنه بالعلاقات الإنسانية يمكن للمرء الوصول إلى غايته، حتى لو كانت الخلود؛ لقد تخلد اسم جلجامش رغم سرقة عشبة الخلود التي كان يعتقد أنها ستخلده، لكن المفارقة تكمن في أن الخلود كمن في فقدانه العشبة، لا حفاظه عليها.
المفارقة الأخرى أن الدور المحوري للأنثى كان حاضرا في تلك الانتقالة، فهي التي ساهمت في انتقال أنكيدو من مرحلة البرية والتوحش إلى مرحلة التمدن والتحضر، وهي التي ساهمت في امتصاص طاقة جلجامش من الشر إلى الخير.
ومن المعلوم أن حياة جلجامش مرت بمراحل مهمة، أولاها تلك التي كان يعتدي فيها على بنات أوروك، والثانية حين ارتبط بعلاقة أخوية راسخة بأنكيدو، والثالثة حين سعى إلى امتلاك عشبة الخلود، والرابعة حين أيقن أن الخلود يكمن في خدمة أبناء مدينته، وإفشاء الخير فيها. وكل تلك المراحل كانت الأنثى هي المحرك والموجه لها، عبر امتلاكها الحكمة.
إذا: الحكمة هي مفتاح الوصول إلى قلب الحقيقة، والتغيير يكمن في امتلاكها، ومن امتلكها؟ الأنثى، التي منحت هذا الدور العظيم، رغم وجود بطل الأبطال جلجامش، وأنكيدو والآلهة، استطاعت الأنثى الاستحواذ على مساحة واسعة من الملحمة، فحتى الأحداث التي لم تكن حاضرة فيها، كانت بتوجيه منها.
إن كتاب “اليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش”، الصادر عن دار المدى عام 2023، لم يكن أول كتاب لناجح المعموري يصدر عن الملحمة، فقبل عشر سنوات أنجز كتاب “المسكوت عنه في ملحمة جلجامش”، إضافة إلى كتب أخرى، تحدث فيها المعموري عن الملحمة بوصفها أهم ما أنتجته البشرية.
ويشدد المعموري على أن هذه الملحمة نص مازال ينبض بالحياة، كونه يتحدث عن الأسئلة الكبرى، ويحاول الإجابة عما يجول في داخل الإنسان منذ أيام الخلق الأولى إلى حد الآن، نص لا يؤمن بحواجز الزمن، ولا بالمكان، نص يبحث في الأسئلة الكونية التي شغلت الإنسان منذ لحظة إدراكه الأولى إلى غاية اليوم. وليس هذا ما يميزه فحسب، بل أيضا الطاقة الخفية التي يمتلكها، فكأنك أمام نهر جارٍ، كلما اغترفت منه بقي على حاله. هكذا نص الملحمة، كلما قرأتها اكتشفت شيئا جديدا.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سلام مكي
شاعر وكاتب عراقي
ناجح المعموري يكشف اليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ملحمة تبحث في الأسئلة الكونية الأبدية للإنسان
ملحمة جلجامش من أقدم الآثار الأدبية الإنسانية على الإطلاق، وقد خلّدت حضارة بلاد الرافدين بأسلوب شعري مميز جعلها خالدة على مر العصور متنقلة من لغة إلى أخرى، دون أن تفقد قوة تأثيرها، وهو ما يجعلها من أعظم الآثار الأدبية. ولعل هذا الأثر قد نال من المقاربات الكثير، ولكنه ما زال خصبا لقراءات جديدة في كل مرة.
تزخر ملحمة جلجامش بأنماط متعددة وصور مكثفة للعلاقات الإنسانية التي تتناول قضايا مصيرية مهمة، تخص الأسئلة الإنسانية الكبرى. والملحمة كما يعرف القارئ، كتبت بلغة مغايرة للمألوف، وتأثثت بألفاظ وعبارات غنية بالمدلولات التي تفيض بالأفكار التي يمكنها أن تجري من بين ثنايا النص.
كثيرون من كتبوا عن ملحمة جلجامش، وكثيرون من قاموا بترجمتها من اللغة الإنجليزية إلى لغات مختلفة، كالعربية وغيرها، إضافة إلى من ترجمها من لغتها الأصلية إلى العربية مباشرة. وكان آخرها ترجمة نائل حنون، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، لكن يبقى ناجح المعموري أبرز من كتب عن الملحمة، عبر اعتماد منهج التأويل في الكتابة، واستشراف النص الأصلي، بما يساعد على الوصول إلى فكرة ناضجة، قائمة على أصول البحث الحر.
الخلود الآخر
الملحمة نص ما زال ينبض بالحياة، كونه يتحدث عن الأسئلة الكبرى، ويحاول الإجابة عما يجول في داخل الإنسان
في الوقت الذي يشهد فيه الوسط الثقافي والأكاديمي سرقات علنية، وشكاوى من عدم الإشارة إلى المصدر الأصلي في كتابة البحوث وحتى المقالات، انفرد المعموري بخصيصة تميز بها عن غيره، وهي ذكره لأي مصدر صادفه أثناء بحثه، فيذكر أنه استفاد من هذا الكاتب أو ذاك في بحثه، وهو أمر يحسب له.
وعندما نقول “العلاقات الإنسانية” نعني بها تلك التي كانت بين البطل الأوحد “جلجامش” وبين الشخصيات الأخرى في الملحمة، وتلك العلاقات لم تظهر إلا بعد ظهور المعادل الموضوعي له “عدوه” وصديقه “أنكيدو”، الذي خلقته الآلهة بعد شكوى سكان أوروك للآلهة نتيجة ما تعرضوا له من ظلم على يد جلجامش، فما إن ظهر أنكيدو وظهرت معه ملامح التمدن على يد شمخت، وإقراره بقوة صديقه،
حتى ظهرت أنماط جديدة، غير مألوفة، صنعت من جلجامش كائنا مختلفا، كائنا يسعى إلى الخلود، بعد أن كان مشغولا بتفريغ طاقته الجنسية ببنات أوروك. فتلك الطاقة الغريزية تحولت إلى طاقة إنسانية، تجلت في علاقاته مع الآخرين، خصوصا أنكيدو.
المعموري أعطى
المعموري استطاع أن يوصل إلينا رسالة واضحة المعالم مفادها أنه بالعلاقات الإنسانية يمكن للمرء الوصول إلى غايته
مساحة للعلاقة التي كانت الأنثى طرفا فيها، وتجلت تلك العلاقة في الحوار الذي دار بين بطلنا وصاحبة الحانة التي نصحته بأن يتجه إلى قضايا أهم من البحث عن الخلود، لأن الحياة استأثرت بها الآلهة لنفسها، وأعطت للبشر نصيبا من الحياة:
“ارقص وألعب مساء نهار/ واجعل ثيابك نظيفة زاهية/ واغسل رأسك واستحم في الماء/ ودلل الصغير الذي يمسك بيدك/ وأفرح الزوجة التي بين أحضانك/ وهذا هو نصيب البشرية”.
إن هذا الحوار كان علامة فارقة ونقطة تحول في حياة جلجامش. ثم نقرأ حوارا آخر بين شمخت وأنكيدو يكاد يشابه الحوار الأول: “كل الطعام يا أنكيدو، فإنها سنة الحياة/ واشرب الشراب القوي، فهذه عادة البلاد/ فأكل أنكيدو من الطعام حتى شبع/ وشرب من الشراب القوي سبعة أقداح”.
فهنا نجد أن المعموري ركّز على العلاقة الثنائية بين البطلين: جلجامش/ سيدوري، أنكيدو/ شمخت، وهي علاقات إنسانية قائمة على التحول من حالة الى أخرى، وهو حوار يبدو من طرف واحد، سبقته الأحداث التي استوجبت ذلك الحوار، فكان كلام كل من سيدوري وشمخت يمثل المرحلة الأخيرة للانتقال إلى المرحلة الأخرى.
ملحمة جلجامش
سعى المعموري إلى تسليط الضوء على أن جلجامش استطاع أن ينال الخلود، لكن ليس الذي كان يتصوره، بل الخلود الآخر، الأكثر أهمية، وهو أن
يكون خالدا في ضمير الجماعة، فيقول: لم يستطع جلجامش حيازة عشبة الخلود نهائيا، فبعد رحلته الطويلة، والمتاعب التي عاشها طويلا، فقد عشبة الخلود، بعد أن تركها ونزل للاغتسال في البئر… وعليه أن يفكر بآلية جديدة تمنحه الخلود الأبدي، وهذا ما انحاز له أخيرا، وأدرك أن العمل وخدمة مدينته أوروك
والناس فيها سيجعلانه باقيا ومخلدا في يوميات المدينة، وفعلا ظل الملك جلجامش يومية متكررة في مرويات الجماعات وسرديات الأفراد.
لقد استطاع المعموري أن يوصل لنا رسالة واضحة المعالم، مفادها أنه بالعلاقات الإنسانية يمكن للمرء الوصول إلى غايته، حتى لو كانت الخلود؛ لقد تخلد اسم جلجامش رغم سرقة عشبة الخلود التي كان يعتقد أنها ستخلده، لكن المفارقة تكمن في أن الخلود كمن في فقدانه العشبة، لا حفاظه عليها.
المفارقة الأخرى أن الدور المحوري للأنثى كان حاضرا في تلك الانتقالة، فهي التي ساهمت في انتقال أنكيدو من مرحلة البرية والتوحش إلى مرحلة التمدن والتحضر، وهي التي ساهمت في امتصاص طاقة جلجامش من الشر إلى الخير.
ومن المعلوم أن حياة جلجامش مرت بمراحل مهمة، أولاها تلك التي كان يعتدي فيها على بنات أوروك، والثانية حين ارتبط بعلاقة أخوية راسخة بأنكيدو، والثالثة حين سعى إلى امتلاك عشبة الخلود، والرابعة حين أيقن أن الخلود يكمن في خدمة أبناء مدينته، وإفشاء الخير فيها. وكل تلك المراحل كانت الأنثى هي المحرك والموجه لها، عبر امتلاكها الحكمة.
إذا: الحكمة هي مفتاح الوصول إلى قلب الحقيقة، والتغيير يكمن في امتلاكها، ومن امتلكها؟ الأنثى، التي منحت هذا الدور العظيم، رغم وجود بطل الأبطال جلجامش، وأنكيدو والآلهة، استطاعت الأنثى الاستحواذ على مساحة واسعة من الملحمة، فحتى الأحداث التي لم تكن حاضرة فيها، كانت بتوجيه منها.
إن كتاب “اليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش”، الصادر عن دار المدى عام 2023، لم يكن أول كتاب لناجح المعموري يصدر عن الملحمة، فقبل عشر سنوات أنجز كتاب “المسكوت عنه في ملحمة جلجامش”، إضافة إلى كتب أخرى، تحدث فيها المعموري عن الملحمة بوصفها أهم ما أنتجته البشرية.
ويشدد المعموري على أن هذه الملحمة نص مازال ينبض بالحياة، كونه يتحدث عن الأسئلة الكبرى، ويحاول الإجابة عما يجول في داخل الإنسان منذ أيام الخلق الأولى إلى حد الآن، نص لا يؤمن بحواجز الزمن، ولا بالمكان، نص يبحث في الأسئلة الكونية التي شغلت الإنسان منذ لحظة إدراكه الأولى إلى غاية اليوم. وليس هذا ما يميزه فحسب، بل أيضا الطاقة الخفية التي يمتلكها، فكأنك أمام نهر جارٍ، كلما اغترفت منه بقي على حاله. هكذا نص الملحمة، كلما قرأتها اكتشفت شيئا جديدا.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سلام مكي
شاعر وكاتب عراقي