محمد عبلة رسام تلازمه الدهشة ويعيش حياته في الفن
"مصر يا عبله: سنوات التكوين".. سيرة الفنان والتحولات الكبرى في مصر منذ السبعينات.
الاثنين 2024/10/28
محمد عبلة في مرسمه
محمد عبلة، الرسام الذي قدم إلى عالم الفن من أعماق ريف الدلتا بمصر، متحديا السلطة الأبوية، يقف اليوم على ذكرى نشأته الفنية وتكوينه الأكاديمي ونضوج تجربته، من خلال سيرة ذاتية يروي فيها مراحل تاريخية مهمة أثرت في حركة الفن بمصر، ولعل أهمها تسرب الأفكار الإسلامية المتطرفة إلى المجتمع وكيف أسهمت في تغيرات كبيرة بالمشهد الفني والثقافي.
للروائي الفرنسي أناتول فرانس قصة عن بهلوان دخل الدير، ووجد الرهبان منقطعين للعبادة، يصلّون للسيدة العذراء، وهو لا يجيد ذلك؛ فقرر استعراض مهاراته أمام أيقونتها، فاتهمه الرهبان بتدنيس الدير، وعدم توقير المقام المقدس، ففاجأهم خروجها من الأيقونة تمسح عرقه، وتحميه من غضبهم؛ لصدقه في محاولة إسعاد روحها.
بهلوان أناتول فرانس يرى الحياة والأماكن مسارح تستوعب فنونه الحركية، والفنان التشكيلي المصري محمد عبلة عائش في الفن، يتخيل نفسه دائما في دراما يحلو له رسمها، يفكر بالألوان، فيعيش الفن حياة، والحياة لوحات، ومنذ الصغر لازمه هذا الشعور، فأيقن أنه خلق ليرسم، وراهن على اختياره الذي ظنّه رسالة سامية، ففوجئ في معرضه الأول بأن اللوحات تُباع.
بعنوان “مصر يا عبله: سنوات التكوين” نشرت دار الشروق في القاهرة هذه السيرة الشخصية الملهمة، إنسانيا وفنيا، إذ توثق التحولات المصرية في عقد السبعينات من القرن العشرين، بعواصفها وكوارثها المستمرة إلى الآن، عبر لغة تبتعد عن التباكي، وتلتزم بالحياد المراوغ، بالمراوحة بين الأضواء والظلال، التصريح والتلميح، باستخدام الكلمات لا الألوان، فجاء النص جدارية حكائية أشبه بالحفر الغائر المستدعى من ذاكرة فنان حالم، مندهش يكتب بصدق، وتلقائية، ودفء، ولطافة، وخفة ظل، ورهافة، وحضور بديهة، وإيجاز، ومكر فني يوحي ببراءة توهم أي قارئ بأنه يجيد مثل هذه الكتابة الجميلة العصيّة.
تمرد منذ الطفولة
◄ لوحة "العيلة"
مارس محمد عبلة الرسم قبل أن يعرف أن له قواعد، وفي عام 1979 سيكشف له نجيب محفوظ ما يميز الرسم عن الأدب، كان لقاؤهما في قهوة الفيشاوي في خان الخليلي، ومحفوظ من روادها في الصباح، وعرف أن الشاب رسام، فقال إن الرسام محظوظ، وخرجا معا إلى ساحة مسجد الحسين، وشمس الشروق تغمر الميدان، وقال له محفوظ إنه يحتاج إلى كتابة أكثر من صفحة ليجعل القارئ يشعر بدفء أول النهار، وبالألوان يسهل التعبير عن هذا الجمال.
ما ذكره نجيب محفوظ فسّر لمحمد عبلة لماذا أصرّ على تحويل أوراقه من كلية الفنون التطبيقية بالقاهرة إلى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، ففي الكلية الأولى مواد نظرية كثيرة وهو يريد أن يرسم ويؤرقه التفكير في كيفية رسم الأفكار، وقبل هذه الكلية وتلك كان أبوه قد اطمأن من صديقه اللواء في الجيش إلى أن ابنه سيدخل الكلية الحربية عام 1973، وبدأ الشاب اختبارات الكشف الطبي ثم هرب إلى كلية الفنون التطبيقية، لم يحتملها، فتوجه إلى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية.
ثم تصادف أن رآه أبوه في القطار، فاستنكر شعره الطويل وكيف يسمحون للطلبة في الكلية الحربية بالشعر الطويل؟ فوجئ الأب بخيبة أمله في ابن كان ينتظر التباهي به، كما يعوّل عليه في تخفيف العبء المادي بمجرد التخرّج ضابطا. الأب الغاضب اعتصر شعر ابنه وقاده إلى الدار، وكانت ليلة عاصفة، ترغيب وترهيب: “فنون إيه وزفت إيه… ألا تفكر في مستقبلك؟ هل سمعت أن هناك رئيس مجلس مدينة خريج فنون جميلة.. رئيس البلد كلها، واحد من الجيش، هل هناك فنان أصبح رئيسا للجمهورية؟”.
كان قرار الشاب نهائيا، واستمرت القطيعة سنوات لا يرجع فيها إلى البيت إلا في غياب أبيه.
صراع الأجيال نفسه جرى في قارة أخرى، قبل ولادة محمد عبلة بثماني سنوات، بين غابرييل غارسيا ماركيز وأبويه. رفض الشاب “التضحية بالموهبة وبالوقت في دراسة مواد لا تحرك مشاعري ولن تفيدني كذلك، مطلقا، في حياة هي ليست حياتي”. كان ماركيز في سن الثامنة عشرة، وتوسّلت أمه أن ينهي الثانوية على الأقل: “ألا تدرك أنك فخر الأسرة؟”. وأراد له أبوه أن يدرس القانون في الجامعة فأعلن العصيان: “أرفض أن تجعلوا مني، بالإكراه، ما لا أريد أن أكونه، وأرفض أن أكون مثلما تريدون أنتم أن أكون”. فاستسلمت الأم: “يقولون إنه يمكن لك، إذا ما صممت، أن تكون كاتبا جيدا”، فأجاب الابن: “إذا كان عليّ أن أصير كاتبا، فلا بد لي من أن أكون أحد الكبار”.
وفي مذكراته يروي ماركيز إن أمه قالت للطبيب ألفريدو باربوثا إن ابنها قضى سنتين وبضعة شهور في كلية الحقوق، “وبحثتْ على الفور عن دعم الدكتور، قائلة: تصوّر أيها الجار، أنه يريد أن يصير كاتبا”. أشرقت عيناه، وقال: “يا للروعة يا جارتنا! إنه هدية من السماء”. وصف الدكتور الميل الفني للابن الشاب بأنه القوة الوحيدة القادرة على منازعة الحب امتيازاته، “أكثر الميول سرية وغموضا، لأن المرء يكرس له حياته كاملة دون أن يأمل منه شيئا. إنه شيء يُحمل في الداخل، منذ الولادة، ومعاكسته هي أسوأ ضرر للصحة”. علق ماركيز: “أصابني الانبهار من الطريقة التي أوضح بها ما لم أستطع توضيحه قط”.
ومحمد عبلة أيضا لم يأمل من الفن شيئا، على الأقل في سنوات البراءة، حين أقام معرضه الأول.
أصله فنان
في السطر الأول من مقدمة كتابه، يتذكر محمد عبلة أن “أول هدية تلقيتها في حياتي كانت علبة طباشير ملون من ناظرة المدرسة الابتدائية ‘أبلة نجية’، وهي التي اعتادت من قبل أن تعاقبني على شخبطاتي التي ترى أنني بها أشوِّه جدران المدرسة، تغيَّرتْ الحال بعد أن زار المدرسة مفتش التربية الفنية، وطلب مني أن أرسم على السبورة مباراة لكرة القدم بين فريقي الأهلي والزمالك، ولما فرغت من الرسم، وأعجب به، أوصى الناظرة بمكافأتي، وقال لها: ‘اهتمي بيه.. ده فنان’. رافقني هذا اللقب من يومها طيلة سنوات دراستي، وكان عذرا لي إذا ارتكبت أي خطأ: ‘أصله فنان’… رسم الفن خيوط حياتي كلها”.
الموهبة هي الوسيلة الوحيدة والمشروعة للفقراء في التحقق وفي الحلم بالصعود المستحق بجدارة إذا توفرت النزاهة، لكن الموهبة وحدها لا تكفي، فهي تحتاج إلى شيء من العناد، ربما الكثير من عناد يصون الموهوب من الانكسار والإحباط واليأس من العدالة، وكاد محمد عبلة ييأس بسبب الفنان حامد عويس رئيس قسم التصوير. الأستاذ سأل الطالب عن معنى الميتافيزيقا، وعن الفرق بينها وبين السريالية؟ ثم قال له: “قل لي بصراحة، ما رأيك في أعمالي؟”، وبصراحة قال الطالب القادم من أعماق ريف الدلتا إن فيها تأثّرا بالفنانين السوفييت وفناني الواقعية الاشتراكية عموما، فاتهمه الأستاذ بالوقاحة، وطرده من مكتبه، ولم ينس “الوقاحة”، حتى بعد أن أصبح عميدا للكلية، حين تخرج محمد عبلة، وكان ترتيبه الأول مع مرتبة الشرف، ورفض العميد تعيينه معيدا.
فات محمد عبلة أن يكون أستاذا يدرّس فلسفة الفنون، ويعلم الطلاب قواعد الرسم، وربما أعاد إنتاج القهر. لكنه تعالى على تعنت العميد، ولم يتحمس لدعوة الكاتب يحيى الطاهر عبدالله ألا يتنازل عن حقه. وكان عبلة قريبا من الجماعة الإسلامية، ووعدوه بتكليف محامٍ يرفع قضية يسترد بها حقه في التعيين، فأبلغهم أنه صرف النظر عن هذا كله، وقرر السفر. أراد أن يكون فكان، فهو لا يعمل عند الفن، ولا يصلح أن يكون موظفا، ولو بدرجة أستاذ في كلية عميدها مأزوم. لدى بعض العمداء أزمات متوارثة وأحقاد على فنانين لا يملكون إلا مواهبهم.
◄ رؤية اتسعت برحلتين خلال سنوات الدراسة، إحداهما إلى بغداد مرورا بدمشق، بحثا عن كتابيْن منهما "بدائع الخط العربي"
محمد عبلة شاهد على سريان أفكار الجماعات الإسلامية المتطرفة في المجتمع وتأثيرها على دارسي الفنون الجميلة، بدا المشهد أكبر من الالتزام بأداء الصلوات في جماعة والاعتكاف في المساجد، وضم الطلبة المتفوقين إلى الجماعة الإسلامية، وتسهيل عقد الزواج بين طلبة وطالبات، وقد أرّقته “المعاملة التمييزية الواضحة ضد الزملاء المسيحيين”، وإفساد أي احتفال أو ندوة لغير الإسلاميين، وكذلك “حملات تكسير رؤوس التماثيل في كليتنا أو الحدائق العامة”، وتشويه صور النساء في كتب الفن بالمكتبة، وقال أحدهم: “كلما أزلت منكرا، أخذت حسنة”، وحين احتج عبلة سخر منه صديقه: “أنت حديث عهد بالإسلام”، وانتهى الأمر بإلغاء الموديل العاري في كليات الفنون.
رؤية محمد عبلة اتسعت برحلتين خلال سنوات الدراسة، إحداهما إلى بغداد مرورا بدمشق، بحثا عن كتابيْ “فن التصوير عند العرب” و”بدائع الخط العربي”، وبسهولة قابل الوزير سعدون حمادي، فرحّب به، وأهداه المزيد من الكتب، وسرعان ما أسس صداقات، والمفارقة أن الفنان الشاب الذي لا يملك غرفة في القاهرة أو الإسكندرية، غرفة فقط وليس مرسما، صار له مرسم يطلّ على نهر دجلة، وأقام لأعماله في بغداد معرضا بمدخل أكاديمية الفنون.
أما الرحلة الثانية فاستمرت شهرا في مدينة الأقصر، لإنجاز مشروع التخرج. نصحه الفنان التشكيلي حامد ندا، الذي يعرف ولعه بالفن المصري القديم، بتأمل رسوم مقبرة “راخما رع”، وشددت عليه الأستاذة فاطمة العرارجي أن يرى مقبرتيْ “راموزا” و”نخت”. وفي الأقصر قابل المهندس حسن فتحي، والحاج حسين عبدالرسول الذي يقال إنه الذي اكتشف عام 1922 مقبرة توت عنخ آمون. هناك رأى اتساع المسافة بين أجداده وواقعه، وتصارعت الأفكار عن دوافع إنجازاتهم في التصوير والنحت والعمارة، فشعر بالعجز: “والله ما أنا راسم”.
بدايات الدهشة
◄ لوحة "براءة"
في طريق العودة من الأقصر رافق محمد عبلة عمالا على مركب في النيل، وبهرته سلاسة أدائهم وتوزيع المهام، على خلفية غناء جماعي، فاكتشف جسرا يصله بأجداده، هكذا تحركت رسوم مقبرة “راخما رع”، أمام عينيه، فعثر على المفتاح: “الآن عرفت ماذا سأرسم!”.
يدين محمد عبلة في عامه الدراسي الأول لعميد الكلية كامل مصطفى، وللفنان سيف وانلي الذي سأله: “تشرب قهوة، أنا أشربها سادة”، يعني من دون سكر، “وأنت؟”، رد الشاب: “سادة”، ولم يستسغ القهوة التي يشربها للمرة الأولى. وسأله زميله مصطفى قبل دعوته إلى سهرة: “هل تدخن الحشيش؟”، قال: نعم، ولم يكن قد جربه ولا شرب البيرة، وفي العودة اقترح عليه صديقه أن يشرب “كابتشينو”، وكان يسمع به للمرة الأولى. وذات ليلة قال له زميله هاني عطية إنه بهائي، فسأله: ماذا تعني “بهائي؟”.
وفي القاهرة سمع اصطلاح اليسار، فسأل عن معناه، دلّوه على المترجم بشير السباعي: “يعني ايه يسار؟”. ردّ السباعي: “أتيتَ متأخرا جدا، إذ لم يعد هناك من يريد أن يسمع كلمة يسار!!”. وعمل عبلة في مصلحة الدمغة والمصوغات، وبراتب أول شهر اشترى لأمه ثلاجة، وفرحوا بها، وتساءل إخوته: ماذا سنضع في الثلاجة؟ فقالت الأم وهي تبتسم: “سوف نجد حلّا لهذا الموضوع!!”. تلك بدايات الدهشة.
◄ محمد عبلة كماركيز لم يأمل من الفن شيئا، على الأقل في سنوات البراءة، حين أقام معرضه الأول
في فترة التجنيد عمل محمد عبلة في عدة مهن لا علاقة لها بالفن: نقاشا وخطاطا وبائع قطع غيار للسيارات في المحافظات، وكان يقتسم غرفة في الجيزة مع شاب من الصعيد، في الليل يذهب الشريك إلى عمله في المطار، فينام الرسام حتى الصباح، ويكون الشاب قد عاد لينام في السرير نفسه، وينطلق الفنان إلى الشقاء والتأملات، وكان يتردد على المركز الثقافي الإسباني، وتصادف أن رآه سنيور “أدريان” مدير المركز، وعرف أنه يقضي خدمته العسكرية ويبيع قطع غيار السيارات، فاندهش الرجل: “والفن يا محمد؟ أنت فنان وفقط”، ولم يقتنع برضوخ الفنان لأعمال تصرفه عن الفن بداعي الإفلاس، وأخبره أنه سيقيم له معرضا بعد أسبوعين، وفرح الفنان الشاب، وتساءل: وأين اللوحات التي ستعرض؟
كاد يعتذر، وأتى من الكلية بأعماله وأولها مشروع التخرج، واهتم كمال الملاخ في صحيفة “الأهرام” بالنشر عن المعرض، وصاحَب المعرض قلق لا يستوعبه، ويخشى أن اللوحات لن تكون في مكانها، وارتدى بدلة أخيه، والبنطلون أطول من اللازم، والحذاء يؤلم قدميه فخلعه مؤقتا، وربطة العنق ربطها له سنيور أدرسان، وحضر نقيب التشكيليين عباس شهدي، وفتحي أحمد، وسأل حسين بيكار عن “الأستاذ محمد عبلة”؛ فاضطرب الفنان الذي يؤلم الحذاء قدميه ويشغله البنطلون الطويل فيرفعه ويضبطه بالحزام، “كانت تلك المرة الأولى، التي يناديني فيها أحد بالأستاذ”. وسأله زائر أجنبي عن سعر لوحة، فأسرع إلى بيكار: “هناك من يريد أن يشتري لوحة. هل اللوحات تباع؟”، وقال له حامد ندا إن سعرها 120 جنيها، فاشتراها الرجل، وأراد آخر شراء لوحتين، فرفض محمد عبلة، ووافق على بيع لوحة واحدة، وأسرّ إلى بيكار أنه حزين على فقد أعماله: “لن أبيع لوحات أخرى”.
لعل محمد عبلة يواصل كتابة السيرة، ويحكي كيف تقبّل عبور أعماله إلى الضفة الأخرى، وصارت من مقتنيات عدة متاحف أوروبية، كما أنجز نصب تمثال سيزيف في ألمانيا عام 1994. وفي عام 2022 كرّمته ألمانيا بمنحه وسام “جوته”، وهو أول فنان عربي يحصل عليه. لكنه في مارس 2024 قرر رد الوسام لألمانيا، احتجاجا على الموقف الرسمي الألماني تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة.
◄ الفنان عبلة شاهد على سريان أفكار الجماعات الإسلامية المتطرفة في المجتمع وتأثيرها على دارسي الفنون الجميلة