ثقافة عامة..اكليل الغار
تعود العادات الخاصة بتقليد الفائز بالألعاب الأولمبية، والرياضية عامة، منذ بداياتها عام 776 قبل الميلاد، إلى أثينا القديمة والألعاب الأولمبية القديمة، حيث كانت أكاليل الغار تستخدم لتتويج الفائزين والاحتفال بهم..، وكان الأمر نفسه يستخدم للفائزين من الشعراء في المباريات الشعرية منذ القدم.
.
يعد إكليل الغار، أحد أشهر استخدامٍ عطري، وبطريقةٍ غير صناعية على الإطلاق، وقد اعتُبر منذ القدم رمزاً للنصر والشرف والنبل، لذلك كان يتمُّ ارتداؤه حول الرأس، أو حول الرقبة،
.
وكثيراً ما كان يُرتدى بدل التيجان لدى الملوك والأباطرة، وحتى الآلهة، حيث عُثر على عددٍ من العملات المعدنية الفينيقية في جزيرة أرواد السورية، وقد تمَّ صكَّها في صور، وعلى أحد وجوهها نُقش «الإله بعل»، يرتدي إكليل الغار على رأسه.
ويعود تاريخ هذه العملة إلى القرن الرابع قبل الميلاد،
.
كما نجد في الأساطير (اليونانية) ذات التمثيل، فنجد الإله «أبولو»، وهو يرتدي إكليل الغار على رأسه، ونجد «عُقاب بعل شامين»، في النقش التدمري، يحمل في منقاره غصن الغار، في دلالاتٍ شتى تتعلق بالنصر والخصوبة الزراعية.
.
وفي اليونان القديمة، تمَّ منح أكاليل الغار للفائزين في «مسابقات بيثيا» Pythian game المخصَّصة للإله «أبولو» «وبيثيا»، وهي كاهنة «معبد أبولو» في ديلفي.
حيث نشأت هذه المنافسات في القرن السادس قبل الميلاد، وتتمثَّل بمنافساتٍ في الفنِّ والرقص، ثم تطوَّرت لتشمل مسابقات رياضية،
.
وهذه الألعاب حسب الأساطير اليونانية، بدأها الإله «أبولو» بعد أن قتل التنين « Python بايثون» حارسة مركز الأرض، كتكفيرٍ عن قتله لهذه الأفعى الضخمة التي كانت تعتبر روح الأرض،
- وهي قصة تُقارب قصة قتل الإله «بعل» للحيّة «لوتيان» الملتوية في الميثولوجيا (الكنعانية)،
- وأيضاً، قصة قتل «مردوخ» لـ «تيامات» في الأساطير (البابلية).
.
وكان الناس قديماً، وخصوصا أيام الرومان، يعتقدون أن أكاليل الغار، والغار بشكل عام، يحمي من غضب السماء، ولهذا كان الإمبراطور الروماني الثاني "تيبيريوس" يرتدي هذه الأكاليل خلال العواصف الرعدية، حتى يحمي نفسه من فعل الصواعق.
.
ويذكر الشاعر «لوقيان السوري»، أن «بيثيا» كاهنة معبد «أبولو»، كانت تمضغ أوراق الغار التي كانت تحضرها من شجرة مقدَّسة تنمو داخل المعبد، وكانت تعطِّر نفسها بها، للنطق بالنبوءات التي كانت تشتهر بها.
.
ويقال أيضاً إن قراء البخت، أو ما كان يعرف بـ«أوراكال دلفي»، وهم البوابات التي كانت تتكلم الآلهة من خلالها مع الناس، كانوا يأكلون ورق الغار قبل اتخاذ أي قرار رئيسي مثل الدخول في الحرب أم لا، والتحدث إلى أبولو في القضية.
أو بكلام آخر كان الوسطاء الروحيون أو «مصدر التكهنات أو الحكمة التنبؤية» يستخدمون الغار لاستقراء المستقبل وتكهن أحواله.
وقصة تمثيل ورق الغار للعظمة تأتي من زيوس وابنه الإله الإغريقي أبولّو، إذ يقال إن "أبولو" المعروف أيضاً باسم إله الشمس (وإله الحقيقة والنبوة من بين أمور أخرى) قديماً أحب شجرة الغار. واعتبرها نباتاً مقدساً، ولذا عادة ما يصور مرتدياً إكليلاً من الغار.
وفي كتاب التحولات للكاتب «أوفيد»، ، يذكر حكاية الحورية «دافني التي عشقها «أبولو» بجنونٍ، في الوقت الذي كرهته فيه، بسبب إطلاق «إيروس» المعادل لـ «كيوبيد» الشهير، سهمين أحدهما برأسٍ ذهبي أصاب «أبولو» وجعله يعشق الحورية بجنون، والآخر رأسه من رصاص، جعل «دافني» تكره «أبولو» جداً، بل تلجأ إلى آلهة الأرض لتخليصها من هذا المأزق، وكان الحلّ بتحويلها إلى شجرة الغار،
.
واليوم «دافني» هو الاسم (اليوناني) لشجرة الغار، ولا ندري من الأقدم، الاسم اليوناني أم الاسم الآرامي، فالغار بالآرامية هو «دَفينا» وهذا صعب نسبياً لتداخل اللغتين في القرن الرابع ق. م، العصر الهيليني، .
.
لكن نجد في اللغة «الكنعانية – الآرامية» التي جدَّدها اليهود باسم «اللغة العبرية»، احتواءٌ على كلمة الغار بالشكل الآرامي «دَفينا» بالتالي نرجح الاسم الشامي للغار، كمصدر لاسمِ الغار الإغريقي، وهو اسم بطلة الحكاية الإغريقية.
.
أيضاً، ارتبط الغار ارتباطاً وثيقاً بالأباطرة الرومان، حيث يروي المؤرخ الجزائري المولد «سويتونيوس» قصة «ليفيا دروسيلا»، أول إمبراطورة في روما، والتي زرعت غصناً من الغار في أرضية الفيلا الخاصة بها Villa of Livia ، وذلك بعد أن أسقط نسرٌ دجاجة في منقارها غصن غار، على حضن الإمبراطورة، فزرعت هذا الغصن، ونما إلى أن أصبح شجرة كاملة الحجم، ثم أصبح بستاناً كاملاً من أشجار الغار، فقد كان كل إمبراطور يزرع مع كلِّ انتصارٍ له، شجرة غار تخليداً للنصر.
.
تحليل رمزية الغار:
الاسم العلمي لشجر الغار: «الرند» هو Laurus nobilis
☆ لاوروس :Laurus كلمة لاتينية تعني الغار، وبالإنكليزية هي laurel ومنها الاسم الشهير، لورا أو لوريس، وكلاهما يعني الغار، وفي الفرنسية القديمة lur لور.
☆ نوبيليس :nobilis ومنها الإنكليزية noble والمعنى واضح بالعربي، فهو النَبيل، ويعني أَصِيل، جَلِيل، حَسِيب، ذُو أَصْلٍ كَرِيم، رَصِين، رَفِيع، سَامٍ، شَرِيف، شَهْم، فاضِل، كَرِيم المَحْتِد، نَجيب، شَرِيف.
.
إذاً، من الاسم العلمي للغار، نجد أنه ارتبط منذ القدم بالنُبل noble بالتالي احتوت رمزيته على عدة صفات أهمها:
الشرف والأصالة والمجد والنصر،
.
وبالتالي ارتبط دوماً بمن يقوم بفعلٍ محبَّذ من قبل الأكثرية، فنجده مرتبطاً بالسلالات المرموقة، والأباطرة والملوك والأشخاص المتمتعين برؤية ثاقبة وغير مألوفة، وبمعارف فكرية عليا كالشعراء والفنانين والفلاسفة والمفكرين، ممن نجدهم يرتدون أكاليل من الغار،
كانت دائماً تأخذ شكلاً دائرياً، إما بدائرة كاملة، وإما دائرة منقطعة بشكل حدوة الحصان.
.
كما ارتدى إكليل الغار، من تمتَّعوا بصفاتٍ روحانية، كالكهنة والأنبياء، .
.
وكذلك تماثيل الآلهة المختلفة، فنجد في العملات الفينيقية، ارتباط إكليل الغار بالإله «بعل» الذي اعُتبر عند الفينيقيين، إلهاً للحرب والأمطار والعواصف، والذي يساوي في هذه الخصائص «زيوس»، .
.
وكان أيضاً للشكل الدائري لإكليل الغار، دلالة روحية تعبِّر عن الأبدية التي كانت تمثل الآلهة.
.
ويشتق مصطلح «البكالوريا» (baccalaureate) و«البكالوريوس» من «توت الغار» (laurel berries)، بسبب الممارسة اليونانية والرومانية القديمة في تكريم العلماء والشعراء بأكاليل الغار.
وقد كان الجنرالات الرومان يتوجون أنفسهم بأوراق الغار عندما كانوا يعودون إلى بلادهم منتصرين في المعارك.
كما كان يستخدمه الجنود في أحواض استحمامهم لتهدئة التعب، ومعالجة الإصابات..
.
يمكن القول: إن شجر الغار كان يرتبط بالرجولة قديماً، وكان مقدساً عند أبولو. كما أن عطره الحار وارتباطه بالشمس كان يجعله مناسباً لأي احتفال بالشمس.
كما كان اسمه يرتبط بإله الطب والشفاء الإغريقي "أسقليبيوس"، و"زيوس" الذي يلقبه الإغريق بـ«رب الآلهة والبشر» و"هيرمس" ابن "زيوس" ورسول الآلهة الإغريقية وإله البحارة وإلهة الزراعة والمحاصيل والخصوبة والأمومة الرومانية "سيريس" وإلهة الثقة الرومانية "فيديس"، والشخصية الأسطورية في التراث الويلزي "كاريدوان".
.
بكلِّ الأحوال، نحن نعلم أن الغار نباتٌ دائم الخضرة، فهو يشكِّل رمزية للخصوبة الزراعية الدائمة، التي تمثل رمزاً آخر للأبدية والخلود، لذلك كان ومازال، الممثل الرئيسي للنصر والشرف، والإنجازات الفكرية التي تحمل الخلود لصاحبها..
صحيفة الثورة
الملحق الثقافي:أمجد سيجري
صحيفة الشرق الاوسط
+7