"زرقة الظهيرة" رواية أكثر ذاتية من روايات كافكا ودوستويفسكي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "زرقة الظهيرة" رواية أكثر ذاتية من روايات كافكا ودوستويفسكي

    "زرقة الظهيرة" رواية أكثر ذاتية من روايات كافكا ودوستويفسكي


    جورج باتاي يستكشف القوى المظلمة الكامنة تحت سطح الحضارة.
    الأربعاء 2024/10/23
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    باتاي يقدم تصويرا مكثفا للحالة الداخلية

    عوالم الكاتب الفرنسي جورج باتاي لا تترك قارئها على الإطلاق، حتى بعد أن يعتقد أنه فرغ من قراءتها فإنها تتشبث به وتعيد توجيه نظراته ورؤاه إلى المناطق الداخلية المخفيّة والمخيفة، ومن هناك تعيد صناعة وعيه بنفسه أولا ثم بالآخرين وبلاوعيه قبل وعيه بطريقة أكثر تأثيرا من فرويد، وهو ما نجده في روايته الأكثر ذاتية "زرقة الظهيرة".

    “زرقة الظهيرة” هي رواية كتبها جورج باتاي عام 1935 ولم تنشر سوى عام 1957 ولا تتوافر هذه الرواية بأيّ ترجمة عربية والشكل الظاهري لها هي الحرب الأهلية الإسبانية والماركسية، بينما المركز هو النيكروفيليا أو الرغبة في جماع الجثث، لكن أحيانا يبدو أن بطل الرواية “هنري تروبمان” شخصية باتاي المريضة بالنيكروفيليا بحيث أحيانا، من الممكن القول إن كل شخصيات “زرقة الظهيرة” نيكروفيلية إلى حد ما، ومريضة إلى حد تام.

    الرواية التي تصدر للمرة لأولى بالعربية عن دار خطوط وظلال ترجمها وقدم لها بلال سمير الصدر عن النسخة الإنجليزية للمترجم هاري ماثيو، تدور أحداثها المثيرة في القرن العشرين على خلفية انزلاق أوروبا نحو الفاشية، وتأخذ القارئ في رحلة مظلمة عبر نفسية المثقفين الفرنسيين قبل الحرب، الممزقين بين التماهي مع ضحايا التاريخ وبريق المنتصرين. حيث يترنح الراوي من مدينة إلى أخرى في كابوس جنسي وعقلي سريالي من البؤس والسادية واللقاءات في حالة سُكر، فإن انهياره الداخلي يعكس القتال والسير في الشوارع خارج المدينة. حيث نستكشف القوى المظلمة الكامنة تحت سطح الحضارة؛ غموض الجنس كقوة تخريبية، إنها واحدة من أعمال باتاي السياسية الصريحة، تجمع بين العنف والسلطة والموت في وحدة مرعبة.
    ملامسة الموت



    ◙ أحداث الرواية المثيرة زمن الفاشية تأخذ القارئ في رحلة مظلمة عبر نفسية المثقفين الفرنسيين قبل الحرب


    تدور الرواية حول هنري تروبمان الذي ينتقل من فراش مرضه في باريس إلى برشلونة قبل الحرب الأهلية الإسبانية وفي وقت تشهد فيه كاتالونيا إضرابا عاما. هو ممزق بين ثلاث نساء مختلفات، يصلن جميعهن إلى المدينة في ذلك الوقت. إحداهن، لازار، يهودية ماركسية وناشطة سياسية، تستعد للتعذيب المحتمل والاستشهاد على يد قوات الجنرال فرانسيسكو فرانكو إذا تم القبض عليها. والثانية “ديرتي” (أو دوروثيا) مدمنة كحول وتمارس الجنس مرارا وتكرارا مع تروبمان. والثالثة زيني وهي امرأة شابة ملتزمة أخلاقيا كانت قد اعتنت به سابقًا حتى تحسنت صحته أثناء الحمى العنيفة التي أصيب بها في باريس.

    تبدأ الرواية بمشهد انحطاط شديد ينطلق من قبو أحد البارات ويمتد إلى غرفة فندق في لندن، يليه وصف الراوي للقاء أشبه بالحلم مع “القائد”. يتعين على تروبمان الاختيار بين ديرتي البائسة وارتباطاتها بالجنس والمرض والبراز والتحلل، ولازار المنخرطة سياسيًا وقيمها الأخلاقية المتمثلة في الالتزام والمقاومة والتحمل، وزيني، التي عاشت أكثر من فائدتها.

    بينما كان ينظر إلى لازار تحت شجرة، أدرك تروبمان أنه يحترمها لضميرها الاجتماعي، لكنه يراها أيضا فأرا، واختار ديرتي بدلاً من ذلك، بينما أرسل زيني مع صديق، الذي قُتل لاحقًا في الشارع. يسافر مع ديرتي إلى ترير، مسقط رأس كارل ماركس، حيث يمارس الاثنان الجنس في الوحل على جرف يطل على مقبرة مضاءة بالشموع. يشاهدان مجموعة من شباب هتلر، مما يمنح ديرتي رؤية عن الحرب القادمة والوفيات المحتملة. يتركها تروبمان ليعود إلى باريس.

    في مقدمته يقول الصدر “ينطلق باتاي في مصطلحاته فوق فرويد وهو القادم في تلك المرحلة التي تلت فرويد، أفكاره ملتبسة بـ: الجنس، الشذوذ، والتحرر الجنسي. أراد أن يحفر داخل النفس البشرية ليستنبط المعنى الخفي للإيروسية. الإمام الأول لباتاي ـ كما هو معروف ـ هو نيتشه وليس فرويد، وإن كان فرويد ألهم البشرية فكرة اللاوعي: التصرف وما يختفي خلفه الفعل والفكرة وما يختفي خلفها، بحيث بات الإنسان نفسه على خلفية: أفكاره وتصرفاته، ولكن هذا الإنسان بقي أسيرا للنموذج الفرويدي الصالح لتفسير أي شيء وكل شيء: الأوديبة، عقدة الإخصاء، على سبيل المثال لا الحصر. فرويد قدم الحقيقة الملموسة للتصرف وباختصار شديد هذا ليس بالشيء المستحيل ولكن المستحيل هو أن تلمس الموت في هذه الحياة. قدم باتاي اللمسة التي لا يمكن أن تنسى".

    ويضيف “الرعشة: المعادل الحقيقي للموت”، متسائلا “هل استطاع فرويد لمس الموت؟ هل استطاع أن يقدم بناء بيولوجيا لأفكاره في مقابل تحليلاته النفسية؟ نحن لا ننكر أن فرويد وأصالة أفكاره يتفوق شهرة على باتاي بأشواط وليس بخطوات. الذي أردنا قوله: إن باتاي قدم الفكرة الأصلية الملتبسة بـ:الجنس، والتوتر، والقلق والجنون والشذوذ والإباحية المطلقة، والوصف العميق للمشهد الإيروسي من زوايا محددة. من زوايا مظلمة محددة".

    متابعا "إذا كان نيتشه – كما يرى ميلان كونديرا – حير الفلسفة بفكرة العود الأبدي، فباتاي حير الفلسفة وعلم النفس بفكرة: الرعشة مقابل الموت. وكأن باتاي يريد الوصول إلى القاع المظلم للحكاية الإيروسية عند الإنسان، وأدوات الوصول والتحليل بالنسبة إليه، هي التصرفات التي لا تدخل فقط داخل مفهوم الجنس وأدواته، فضلا عن الشذوذ في الفعل الجنسي الطبيعي لا يكتفي فقط بقضاء الشهوة، بل هو يلمّع هذا التصرف بتصرفات خارجة عن نطاق قضاء الشهوة وأحيانا قذرة حتى لو كانت الممارسة طبيعية. هذه التصرفات انتقلت بالإنسان من حيز الطبيعية إلى حيز التعظيم، وإلى حيز الفهم، أو دعونا نقل؛ حيز الرغبة المظلم غير المفهوم للقاع المظلم للرغبة الجنسية، وشخصيات جورج باتاي ليست سوى حركة ‘مدركة‘ أن هناك حكايات أخرى مختلفة، حكاية أخرى مختفية من خلف فينوس، وأفروديت، وديونيس، وأوديب، وما هذه الحركة المجنونة للشخصيات ليست سوى تأكيد لمقولة: نحن ندرك ولكننا عاجزون".
    رواية ذاتية



    ◙ رواية عن الذات المتألمة من المحيط ومن الداخل، يحاول باتاي فيها أن يحفر في هذا الداخل بشتى الطرق


    يقول الصدر “ما الشيء القابع خلف ما هو مفهوم. الألم، والرغبة والحركة والجنون والتبول في العراء، والعراء والعراء المتبادل، والتشاؤم، والانتحار، والموت والرغبة في الموت. شخصيات تتحرك في فضاء غريب لا يفصله عن الموت سوى شعرة دقيقة للغاية: وفي زرقة الظهيرة: النيكروفيليا أو الرغبة في جماع الجثث. ‘لماذا زرقة الظهيرة؟‘ أحيانا كان يبدو لي أن هنري تروبمان شخصية باتاي المريضة بالنيكروفيليا تمتلك كل المعطيات المشتركة مع باقي الشخصيات بحيث، أحيانا، من الممكن القول: إن كل شخصيات ‘زرقة الظهيرة‘ نيكروفيليا إلى حد ما، ومريضة إلى حد تام".

    يرى المترجم أن الرواية ـ زرقة الظهيرة ـ هي رواية عن الذات المتألمة من المحيط ومن الداخل، وباتاي يحاول أن يحفر في هذا الداخل بشتى الطرق؛ لأن موضوعه ليس هو الإدراك بل التحايل والفهم. إن لغة باتاي هنا غاية الذاتية قائمة على الكلمة الظرفية التي تحاول أن تعطي تصويرا مكثفا للحالة الداخلية ومفتاحها الخارجي المحسوس، ويعكس هذه التصورات على بعض الشخصيات التي تبدو بشكل تام مشوهة المظهر، وبعضها يبدو مشوها أيضا، ولكن من زوايا محددة في حاجة إلى لفت النظر لإدراكها، بحيث بدا ‘العالم كتلة من التشوه‘. إن الرواية ذاتية ولا أريد المبالغة بالقول: إن الرواية هي الأكثر ذاتية من بين الروايات التي قرأتها في حياتي متفوقة في الذاتية على روايات كافكا ودوستويفسكي، ولكن هذا الحكم قد يكون من قبيل المبالغة".

    ويلفت الصدر إلى أن باتاي يستخدم لغة لا تعتمد على ربط الجمل ببعضها البعض، بل تبدو الرواية في الكثير من الأحيان مبنية على جمل مسرودة من خلال نقاط، فهو لا يستخدم كلمة ثم أو حرف للانتقال أو للربط بين الجمل: “وصلت من السفر. دخلت غرفتي. خلعت ملابسي”. كما أن تركيب الجمل في الكثير من الأحيان يكون غير مفهوم، كما لو أن باتاي أراد تفخيم الحالة حتى لو كانت هذه الجمل مترابطة بكلمات لا تضيف أي شيء لبعضها البعض، وهذه الحالة اللغوية لم نكتشفها من خلال فعل الترجمة فقط، بل من خلال قراءتنا السابقة لجورج باتاي باللغة العربية، جمل على شاكلة: وحشية خارقة غير ممكنة. عيناها مثل سماء صافية موحلة. عبوس قاتم جميل لا يمكن الوصول إليه".

    وعلى شاكلة هذه الجمل التي تحتوي المتناقضات وليست المترادفات فقط. بالنسبة إلى المترادفات، فهي كثيرة جدا في الرواية، ففي جملة واحدة من الممكن أن تجد ثلاثة مترادفات لغوية لكلمة ‘وحشي‘، وكلها تدل لفظيا على نفس الكلمة ‘وحشي‘، دون أي اختلاف في المعنى، وهنا نقول: إن مبررنا الوحيد لباتاي هو إرادته تفخيم وتكثيف الحالة الذاتية الشخصية المؤلمة بشكل أو بشكل آخر.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X