(بعد فوز الروائية الكورية الجنوبية بجائزة "نوبل" للآداب أستعيد مقالاً عن روايتها "النباتية")
هان كانغ في "النباتية": فجاجة الخلاص بالدنوّ الإيروتيكي من الموت
شربل أبي منصور
عمليّة التطهّر من الألم، والتصالح مع الذات، والخلاص، لا تكون دائماً باستعادة الحياة بل بالدنوّ من الموت. هذا هو العنوان العريض، إن جاز القول، لرواية "النباتية" للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ الفائزة بجائزة "مان بوكر" الدولية في 2016، والصادرة بطبعتها العربية (2018) عن "دار التكوين" وبترجمة عن الكورية لمحمود عبد الغفار.
الروائية لا تستمهلنا كثيراً للتفكّر بالعنوان، ليُطالعنا السطر الأول "لم أكن أرى شيئاً مميزاً في زوجتي قبل أن تصبح نباتية"، هذا ما يرويه جونغ زوج يونغ هيه الذي يراها ذات شخصية سلبية "لا تتمتّع بعذوبة أو سحر أو أيّ وهجٍ خاص". حياة الزوجين كانت تسير طبيعياً وروتينياً حتى ذات يومٍ استفاقت يونغ هيه وبدأت برمي اللحوم من الثلاجة معلنةً تحوّلها نباتيةً من دون أي تبرير منطقي لزوجها سوى... "رأيتُ حلماً". هذا التحول سيُشكّل منطلقاً للسرد، وعاملاً محرِّكاً لمجريات الأحداث ومبدِّلاً للبرامج السردية للشخصيات.
الفجاجة والسوداوية
الرواية تنقسم إلى ثلاثة فصول/أجزاء: الأول تُروى أحداثه من وجهة نظر الزوج جونغ الموظف البسيط الذي يسرد تحول زوجته يونغ هيه إلى نباتية، وتداعيات قرارها على حياتهما الزوجية وعلاقتها بعائلتها. الفصل الثاني "البقعة المنغولية" يُروى من منظور زوج شقيقة يونغ هيه، فنان فيديو مغمور لم يتمكن بعد من أن يترك له بصمةً في مضماره، ويسكنه هاجس جسد شقيقة زوجته. الثالث "لهيب الأشجار" محوره إنْ هيه شقيقة يونغ هيه وصاحبة متجر لمستحضرات التجميل، إمرأة عصامية وربة منزل تبذل جهدها للمحافظة على رباطة جأشها رغم ماضيها الذي يؤرّقُ حاضرها، وإيمانها بتكاتف أفراد الأسرة بعضهم مع بعض.
"النباتية" رواية صادمة فجّة سوداوية صاخبة إيروتيكية جنسانية تُسقط أوراق التين عن المجتمع بتهميشه الفردانية وإخضاع المرأة للسلطة البطريركية، وتُعرّي الذات وتكشف هواجسها الدفينة وما يعتريها من قلق وخواء وتساؤلات حول جدوى وجودها. بحساسيّة فائقة تبرع كانغ في رصد هذه الانفعالات متنقلةً بين الواقعية والتصويرية والفانتازيا، وبحرفيّة في استخدام الخطاب السردي إذ تارّةً تعتمد الخطاب غير المباشر الحر لتعبّر عن أفكار الشخصية الحميمة وأحاسيسها مبيّنةً ما وراء الوعي في تواطؤ جليّ ما بين صوت الراوي وصوت الشخصية، وتارةً أخرى تُسلسُ لها القيادة بوحاً وتعبيراً مباشراً ومناجاةً.
"جسدك تفوح منه رائحة اللحوم!"
حياة يونغ هيه انقلبت رأساً على عقب بعدما اختارت أن تصير نباتيةً، لتتوتّر علاقتها بزوجها حدودَ عدم ممارستها الجنس معه بسبب "رائحة اللحوم، جسدك تفوح منه رائحة اللحوم!"، وفق قولها، ليتأزم وضعهما أكثر مما اضطرّ زوجها إلى مكالمة عائلتها التي شجبت تصرفها، والتي كانت تنتظر اللقاء بها في الاجتماع السنوي للأسرة في الأحد الثاني من حزيران. في التجمّع العائلي باءت كل محاولات أفراد عائلة يونغ هيه في حضّها على تناول اللحوم بالفشل، فما كان من والدها إلا أن حاول عنوةً إطعامها مما حدا بها إلى قطع معصمها بالسكين لتنهمر الدماء وتُنقل إلى المستشفى. بعد سنتين من الحادثة وطلاق يونغ هيه وانتقالها إلى مسكن خاص بها، يعرف زوج شقيقتها مصادفةً امتلاكها بقعة منغولية ما بين ردفيها ليتملّكه هاجس رؤيتها وتحويل جسدها عملاً فنياً. وبعد ترددٍ وقلق استملكاه، استجمع قواه وطلب منها أن تكون "موديلاً" عاريةً ليرسم على جسدها ويصوّرها، فوافقت. شرع زوج شقيقتها في عملية الرسم على جسدها وصوّر العمل الفني في شريط فيديو. من ثمّ شاء استتباعه بجزء ثانٍ عن رجل وإمرأة يمارسان الجنس، وجسداهما مرسومان بالزهور. توافق يونغ هيه فيما اكتفى زميله الفنان ج. بالرسم واتخاذ الوضعيات رافضاً الجنس. لم يكن منهُ إلا أن اقترح على يونغ هيه أن يحل محل الشاب فقبلت لكن شرطَ أن يغطي جسده برسوم مماثلة. بعدما انتهى من التصوير وممارسة الجنس وإفراغ كل رغباته وإشباع ناظريه من بقعتها الزرقاء، غفَوا ليستيفق صباحاً ويجد زوجته إن هيه في غرفة الطعام بعدما صدمها هول المشهد. هنا، لم ينفع شرح الزوج بعدما اعتبرت أنه استغل الحالة العقلية المضطربة لشقيقتها فاستدعَت خدمات الطوارئ الطبية التي قبضَت عليه ونقلَت شقيقتها إلى مصحّة للأمراض النفسية. زوجها الذي أُطلق بعد فترة احتجاز ما عادت التقتهُ، فيما ظلّت تتابع وضع يونغ هيه وتداوم على زيارتها في المشفى بعد تدهور صحتها وفقدانها وزنها، وشعورها بالمسؤولية حيال ما آل إليه حالها.
"الإحساس بالنهاية"
في كتابه "الإحساس بالنهاية" يحاجج الناقد الأدبي فرانك كيرمود في أن "الروايات في كل أشكالها ما هي إلا وسائل مختلفة لمقاربة حقيقة الموت التي ستختبرها كل الكائنات البشرية: الحركة المتواترة للروايات نحو الخواتيم واجتلاء المعنى في النصوص الروائية ما هي إلا نماذج تقارب حيواتنا البشرية التي تتحرّك حثيثاً نحو الخاتمة - الموت وتسعى خلال حركتها تلك لتخليق وسائل تخلع معنى ما على ذواتنا في حياتنا" (1)، وهذا ما يتكشّف لنا في "النباتية" من خلال شخصيات تروي صراعها الداخلي مع الذات منذ لحظة إبصارها النور، موصولاً بصراعها الخارجي مع الآخرين، كل ذلك في إطار إضفاء معنى على حيواتها والغاية النهائية من وجودها، في ظلّ عوامل سلبية معارضة لمشروعها بدءاً بتقاليد المجتمع مروراً بتسلّط الأهل وقساوة الآخر وانتهاءً بعشوائية القدر. فيونغ هيه، الشخصية الرئيسية في الرواية، تغيب عن كون القصّ باستثناء وقفات/ تقطّعات بوحية لا واعية يكتنفها الغموض والضبابية؛ وكأن لا صوت لها ولا هوية، فمنذ طفولتها عانت الأمرّين مع والد، جندي سابق في فيتنام، كان يحتسي الكحول ويجلدها على بطّة ساقها لتخضع لاحقاً لتقاليد المجتمع والعائلة وتنتهي رفقة رجل بليد لا طموح لديه، ناهيك بمشهد الكلب الذي عضّها في صغرها، والذي عوقب بجرّه بالدراجة النارية حتى الموت ليُصار إلى أكله ليُشفى الجرح بحسب المعتقدات. كلّ ما اختزنتُه ذاكرتُها، إذاً، كان يُعذّب روحها، وكأنّها كانت تختنقُ وكل ما فيها مُكبّلٌ "مجبرةٌ على الصمت خلف باب بلا مقبض"، كأنّ هذا الكائن الداخلي المقموع ما عاد قادراً على الاحتمال بل بدأ يمزّق طبقات القشور"، (...) شخصاً آخر بزغ في داخلي وبدأ يفترسني آنذاك". هذان الخذلان والقمع اللذان عانتهما يونغ هيه أديا بها إلى حال من الذهان والانفصام ومرض العصاب بحيث إنها لم تعد تثق بأحد باستثناء ثدييها اللذين شاءتهما من دون حمّالة صدر كنوع من التمرّد "أثق بثديي فحسب، فأنا أحبُّ ثدييَّ. لأنه لا يمكن قتل شيء بواسطتهما". كذلك الأمر بالنسبة إلى زوج شقيقتها الذي بقي من غير اسم في الرواية، في إحالةٍ على التخبّط والتيهان وعدم الوضوح في تشكّل هويته. فيما شقيقتها إنْ هيه أخذت تدرك أخيراً أن كدّها في العمل وتضحياتها العائلية كزوجة وأخت كبرى ليسا نضوجاً ومسؤولية بل هروباً وجبناً.
إن تحوّل يونغ هيه إلى نباتية وظنّها لاحقاً أنّها صارت شجرة ما هما إلا انتفاضة على العنف المجتمعي وعصيان على الواقع المرير وخيبة من جدوى الإنسانية. إذ يبدو أن ثمة استحالة للنجاة ولا إمكان للتبرّؤ. هي لم تعد تريد الانتماء إلى الجنس البشري، وتعتقد أنها بتحولها شجرةً تنقذ نفسها، لكن ذلك لا يفعل إلا أن يقرّبها من الموت.
جلّ الأمر لا يعدو أن يكون حُلماً، والعِبرة في من يريد الاستفاقة...
(1): الرواية المعاصرة، روبرت إيغلستون، "دار المدى"، 2017
هان كانغ في "النباتية": فجاجة الخلاص بالدنوّ الإيروتيكي من الموت
شربل أبي منصور
عمليّة التطهّر من الألم، والتصالح مع الذات، والخلاص، لا تكون دائماً باستعادة الحياة بل بالدنوّ من الموت. هذا هو العنوان العريض، إن جاز القول، لرواية "النباتية" للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ الفائزة بجائزة "مان بوكر" الدولية في 2016، والصادرة بطبعتها العربية (2018) عن "دار التكوين" وبترجمة عن الكورية لمحمود عبد الغفار.
الروائية لا تستمهلنا كثيراً للتفكّر بالعنوان، ليُطالعنا السطر الأول "لم أكن أرى شيئاً مميزاً في زوجتي قبل أن تصبح نباتية"، هذا ما يرويه جونغ زوج يونغ هيه الذي يراها ذات شخصية سلبية "لا تتمتّع بعذوبة أو سحر أو أيّ وهجٍ خاص". حياة الزوجين كانت تسير طبيعياً وروتينياً حتى ذات يومٍ استفاقت يونغ هيه وبدأت برمي اللحوم من الثلاجة معلنةً تحوّلها نباتيةً من دون أي تبرير منطقي لزوجها سوى... "رأيتُ حلماً". هذا التحول سيُشكّل منطلقاً للسرد، وعاملاً محرِّكاً لمجريات الأحداث ومبدِّلاً للبرامج السردية للشخصيات.
الفجاجة والسوداوية
الرواية تنقسم إلى ثلاثة فصول/أجزاء: الأول تُروى أحداثه من وجهة نظر الزوج جونغ الموظف البسيط الذي يسرد تحول زوجته يونغ هيه إلى نباتية، وتداعيات قرارها على حياتهما الزوجية وعلاقتها بعائلتها. الفصل الثاني "البقعة المنغولية" يُروى من منظور زوج شقيقة يونغ هيه، فنان فيديو مغمور لم يتمكن بعد من أن يترك له بصمةً في مضماره، ويسكنه هاجس جسد شقيقة زوجته. الثالث "لهيب الأشجار" محوره إنْ هيه شقيقة يونغ هيه وصاحبة متجر لمستحضرات التجميل، إمرأة عصامية وربة منزل تبذل جهدها للمحافظة على رباطة جأشها رغم ماضيها الذي يؤرّقُ حاضرها، وإيمانها بتكاتف أفراد الأسرة بعضهم مع بعض.
"النباتية" رواية صادمة فجّة سوداوية صاخبة إيروتيكية جنسانية تُسقط أوراق التين عن المجتمع بتهميشه الفردانية وإخضاع المرأة للسلطة البطريركية، وتُعرّي الذات وتكشف هواجسها الدفينة وما يعتريها من قلق وخواء وتساؤلات حول جدوى وجودها. بحساسيّة فائقة تبرع كانغ في رصد هذه الانفعالات متنقلةً بين الواقعية والتصويرية والفانتازيا، وبحرفيّة في استخدام الخطاب السردي إذ تارّةً تعتمد الخطاب غير المباشر الحر لتعبّر عن أفكار الشخصية الحميمة وأحاسيسها مبيّنةً ما وراء الوعي في تواطؤ جليّ ما بين صوت الراوي وصوت الشخصية، وتارةً أخرى تُسلسُ لها القيادة بوحاً وتعبيراً مباشراً ومناجاةً.
"جسدك تفوح منه رائحة اللحوم!"
حياة يونغ هيه انقلبت رأساً على عقب بعدما اختارت أن تصير نباتيةً، لتتوتّر علاقتها بزوجها حدودَ عدم ممارستها الجنس معه بسبب "رائحة اللحوم، جسدك تفوح منه رائحة اللحوم!"، وفق قولها، ليتأزم وضعهما أكثر مما اضطرّ زوجها إلى مكالمة عائلتها التي شجبت تصرفها، والتي كانت تنتظر اللقاء بها في الاجتماع السنوي للأسرة في الأحد الثاني من حزيران. في التجمّع العائلي باءت كل محاولات أفراد عائلة يونغ هيه في حضّها على تناول اللحوم بالفشل، فما كان من والدها إلا أن حاول عنوةً إطعامها مما حدا بها إلى قطع معصمها بالسكين لتنهمر الدماء وتُنقل إلى المستشفى. بعد سنتين من الحادثة وطلاق يونغ هيه وانتقالها إلى مسكن خاص بها، يعرف زوج شقيقتها مصادفةً امتلاكها بقعة منغولية ما بين ردفيها ليتملّكه هاجس رؤيتها وتحويل جسدها عملاً فنياً. وبعد ترددٍ وقلق استملكاه، استجمع قواه وطلب منها أن تكون "موديلاً" عاريةً ليرسم على جسدها ويصوّرها، فوافقت. شرع زوج شقيقتها في عملية الرسم على جسدها وصوّر العمل الفني في شريط فيديو. من ثمّ شاء استتباعه بجزء ثانٍ عن رجل وإمرأة يمارسان الجنس، وجسداهما مرسومان بالزهور. توافق يونغ هيه فيما اكتفى زميله الفنان ج. بالرسم واتخاذ الوضعيات رافضاً الجنس. لم يكن منهُ إلا أن اقترح على يونغ هيه أن يحل محل الشاب فقبلت لكن شرطَ أن يغطي جسده برسوم مماثلة. بعدما انتهى من التصوير وممارسة الجنس وإفراغ كل رغباته وإشباع ناظريه من بقعتها الزرقاء، غفَوا ليستيفق صباحاً ويجد زوجته إن هيه في غرفة الطعام بعدما صدمها هول المشهد. هنا، لم ينفع شرح الزوج بعدما اعتبرت أنه استغل الحالة العقلية المضطربة لشقيقتها فاستدعَت خدمات الطوارئ الطبية التي قبضَت عليه ونقلَت شقيقتها إلى مصحّة للأمراض النفسية. زوجها الذي أُطلق بعد فترة احتجاز ما عادت التقتهُ، فيما ظلّت تتابع وضع يونغ هيه وتداوم على زيارتها في المشفى بعد تدهور صحتها وفقدانها وزنها، وشعورها بالمسؤولية حيال ما آل إليه حالها.
"الإحساس بالنهاية"
في كتابه "الإحساس بالنهاية" يحاجج الناقد الأدبي فرانك كيرمود في أن "الروايات في كل أشكالها ما هي إلا وسائل مختلفة لمقاربة حقيقة الموت التي ستختبرها كل الكائنات البشرية: الحركة المتواترة للروايات نحو الخواتيم واجتلاء المعنى في النصوص الروائية ما هي إلا نماذج تقارب حيواتنا البشرية التي تتحرّك حثيثاً نحو الخاتمة - الموت وتسعى خلال حركتها تلك لتخليق وسائل تخلع معنى ما على ذواتنا في حياتنا" (1)، وهذا ما يتكشّف لنا في "النباتية" من خلال شخصيات تروي صراعها الداخلي مع الذات منذ لحظة إبصارها النور، موصولاً بصراعها الخارجي مع الآخرين، كل ذلك في إطار إضفاء معنى على حيواتها والغاية النهائية من وجودها، في ظلّ عوامل سلبية معارضة لمشروعها بدءاً بتقاليد المجتمع مروراً بتسلّط الأهل وقساوة الآخر وانتهاءً بعشوائية القدر. فيونغ هيه، الشخصية الرئيسية في الرواية، تغيب عن كون القصّ باستثناء وقفات/ تقطّعات بوحية لا واعية يكتنفها الغموض والضبابية؛ وكأن لا صوت لها ولا هوية، فمنذ طفولتها عانت الأمرّين مع والد، جندي سابق في فيتنام، كان يحتسي الكحول ويجلدها على بطّة ساقها لتخضع لاحقاً لتقاليد المجتمع والعائلة وتنتهي رفقة رجل بليد لا طموح لديه، ناهيك بمشهد الكلب الذي عضّها في صغرها، والذي عوقب بجرّه بالدراجة النارية حتى الموت ليُصار إلى أكله ليُشفى الجرح بحسب المعتقدات. كلّ ما اختزنتُه ذاكرتُها، إذاً، كان يُعذّب روحها، وكأنّها كانت تختنقُ وكل ما فيها مُكبّلٌ "مجبرةٌ على الصمت خلف باب بلا مقبض"، كأنّ هذا الكائن الداخلي المقموع ما عاد قادراً على الاحتمال بل بدأ يمزّق طبقات القشور"، (...) شخصاً آخر بزغ في داخلي وبدأ يفترسني آنذاك". هذان الخذلان والقمع اللذان عانتهما يونغ هيه أديا بها إلى حال من الذهان والانفصام ومرض العصاب بحيث إنها لم تعد تثق بأحد باستثناء ثدييها اللذين شاءتهما من دون حمّالة صدر كنوع من التمرّد "أثق بثديي فحسب، فأنا أحبُّ ثدييَّ. لأنه لا يمكن قتل شيء بواسطتهما". كذلك الأمر بالنسبة إلى زوج شقيقتها الذي بقي من غير اسم في الرواية، في إحالةٍ على التخبّط والتيهان وعدم الوضوح في تشكّل هويته. فيما شقيقتها إنْ هيه أخذت تدرك أخيراً أن كدّها في العمل وتضحياتها العائلية كزوجة وأخت كبرى ليسا نضوجاً ومسؤولية بل هروباً وجبناً.
إن تحوّل يونغ هيه إلى نباتية وظنّها لاحقاً أنّها صارت شجرة ما هما إلا انتفاضة على العنف المجتمعي وعصيان على الواقع المرير وخيبة من جدوى الإنسانية. إذ يبدو أن ثمة استحالة للنجاة ولا إمكان للتبرّؤ. هي لم تعد تريد الانتماء إلى الجنس البشري، وتعتقد أنها بتحولها شجرةً تنقذ نفسها، لكن ذلك لا يفعل إلا أن يقرّبها من الموت.
جلّ الأمر لا يعدو أن يكون حُلماً، والعِبرة في من يريد الاستفاقة...
(1): الرواية المعاصرة، روبرت إيغلستون، "دار المدى"، 2017