"الباص" رواية لم يسبق كاتبها أحد إلى ثيمتها وموضوعها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "الباص" رواية لم يسبق كاتبها أحد إلى ثيمتها وموضوعها

    "الباص" رواية لم يسبق كاتبها أحد إلى ثيمتها وموضوعها


    صالح الغازي يرصد مجتمعا كاملا من وسيلة مواصلات.
    الجمعة 2024/10/04
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الباص بطل مكاني وجسر زمني

    قد تتخذ الأمكنة أدوار البطولة في العديد من الأعمال الروائية، فتهيمن على السرد وتتحكم في تفاصيله وحركته ومساراته وتصبغ حتى الشخصيات والأحداث، لكن وإن اعتدنا الأمكنة الثابتة فإن هناك نمطا آخر من الأمكنة المتحركة مثل وسائل النقل العمومية، تلك التي اتخذ أحدها الروائي صالح الغازي بطلا لعمله الروائي “الباص”.

    بعض الروايات في الأدب العالمي شهرتها من عنوانها. لا أتخيل أنها كانت ستأخذ شهرتها لولا ذلك العنوان الذي اختارته ملكة إبداعية هي جزء من الحالة الإبداعية والذهن المتوقّد إبّان كتابة النص. عليّ أن أورد هنا أمثلة على تلك العناوين التي أحدثت شهرة واسعة لرواياتها وكتّابها. مثل “الساعة الخامسة والعشرون”، “الحب في زمن الكوليرا”، “حقل الشوفان”، “زقاق المدق”، “مدن الملح”، “المعطف” وغيرها كثير.

    ويقودني ذلك لطرح التساؤل التالي: هل العنوان مفتاح لمتن الرواية؟ للسرد؟ للحبكة؟ للغة؟ للمعنى؟ أم أن العنوان هو كل ذلك؟
    مجتمع الباص


    في رواية “الباص” للكاتب صالح الغازي، والصادرة عن منشورات ذات السلاسل بالكويت، استخدم الكاتب كلمة حافلة، وأتوبيس، وباص، لنفي المعنى. لكنه في النهاية اختار كلمة باص لأنها هي المستخدمة في الكويت. كما لو كان لها معنى التمريرة، في اللهجة المحلية المحكية، مقابل كلمة حافلة، حيث تحفل هذه المركبة بأناس من عوالم وبلدان شتى.



    ونبدأ على نحو مواز أيضا من الشخصية المحورية: أحمد صابر، مهندس الاتصالات المصري الذي حصل على عقد عمل في شركة اتصالات في الكويت. أول عمل قام به أحمد صابر بطل الرواية حين هبط في المطار قادما من بلده مصر هو التقاط كرة بيضاء رآها أمامه تتدحرج بهدوء على أرضية المطار.

    في المتن، أو ما بينهما، هناك حشد من الموظفين في الرواية من محيطه العملي الجديد، في بلد جديد، إسماعيل، باسل، عارف، ومنهم شوام. الموظفات على الأغلب آسيويات صغيرات في السن.

    وكلهم تقريبا رددوا عليه دوما تلك العبارة التي تسلم من يسمعها إلى الهاوية والتيه والضياع: دبّر حالك!

    يبدأ أحمد صابر رحلته في الحياة في البلد الجديد مستخدما الباص: التمريرة. التي أوصلته إلى هذا المكان. حيث مصريته الجامحة جعلته شديد الملاحظة. إنسان ينظر بقلبه إلى الدنيا واختلافاتها. وبعينين مصريتين وقع على أسماء من بلده رآها في الكويت مثل: مطعم البغل للفول. محل فول وفلافل السويس. كانت تلك ثغرات ثقافية وفولكلورية دخل منها عائدا إلى المكان الأول، أي مصر، سواء كانت المحلة أو الإسكندرية أو القاهرة.

    كان يتعين عليه حفظ محطات الباص. كأن الباص هو الحياة والمحطات خط سير العمر في هذه الدنيا. والكراسي أماكننا التي نتبادلها، وكلها ليست لنا في النهاية ولسنا قادرين على الاحتفاظ بها. كل يوم نكون في مكان ما مختلف، أو نجلس على كرسي عشوائي يتبدل في كل مشوار. لكن أحمد صابر يمشي كثيرا أيضا. من البيت إلى المحطات. ومن مكان العمل إلى المحطات.

    لا أخفي إعجابي الشديد بالرواية المتكاملة، من حيث الحبكة والبناء والسرد واللغة والقدرة على الحفاظ على تدفّقها المنضبط في وحدة نفسية وعاطفية ممتدة على طول أحداث الرواية حتى الكلمة الأخيرة منها. فهي من هذه الناحية رواية جميلة جدا وجذابة فاجأتني بقدرة الكاتب الفائقة على السرد المتقن والتقاط التفاصيل الصغيرة من مجتمع الغرباء: الوافدين والأجانب بشكل عام. هؤلاء الذين وفدوا من الآفاق البعيدة ليس لكي يصنعوا حياة جديدة لهم في المكان الجديد، بقدر ما كانوا موظفين يساهمون في استمرار الحياة في المكان الجديد، غير أن حياتهم وقلوبهم في مكان المنشأ، في مكان آخر.

    لأول مرة يكتب عربي يعيش بيننا عن خط من خطوط الحياة في مجتمعنا الخليجي. خط يتخذ من أحد خطوط حافلات النقل العام عالمه بكل تفاصيله الهامشية والبسيطة، لكن العميقة إنسانيّا. وعلى حد علمي هي رواية رائدة من هذا الباب. رواية لم يسبقه أحد إلى ثيمتها أو موضوعها.

    وإذا استثنيت شخصية أحمد صابر فإن المكان والزمان هما بطلا الرواية بامتياز حيث وضع الروائي صالح الغازي المكان في الكويت أمام مرآته في مصر. من خلال الشخصية الرئيسية في الرواية الراوي أحمد صابر. ليشكلا ضفيرة الحبكة في هذا العمل الروائي الممتع الذي يذكرني بفيلم سواق الأوتوبيس للمخرج عاطف الطيب. والذي جاء ضمن أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما العربية. وجسّد سائق الأتوبيس فيه الفنان الراحل نور الشريف.

    في بلده المحلّة التي تشبه الكويت في المناخ وبعض الميادين يستدعي أحمد صابر “محطات” من حياته هناك مقارنا بينها وبين ما يشاهده ويعيشه ويكابده في مكان عمله الجديد في العاصمة. لا أظن أن الاسم صابر إلا تجسيدا للصبر، الصبر الذي في المخيلة الجمعية مفتاح للفرج. الصبر على الغربة سيكون مفتاحا لشخصية أحمد. بطل هذه التغريبة.

    يمتزج الأوتوبيس في مصر في نهاية الرواية بـ”الباص” في الكويت، حيث هناك يسمى الأوتوبيس وهنا الباص. وفي السعودية التي عمل أيضا فيها أحمد صابر يُسمى الحافلة. فتكون هذه الاستدعاءات إحالات على ثقافات ينبوعية لها دلالة التأثير الخارجي.

    يصور لنا الكاتب مجتمع الباص بشكل يومي على نحو مذهل غير مسبوق. كما لو كان خطّا بيانيّا للسرد الحياتي اليومي الذي تحكمه حبكة الملل، متجسّدة في كلمات ومشاهد عميقة لا تُرى إلا من عيني غريب تلتقطها من الداخل كما من الخارج. كما لو كانت عمليات عثور وتنقيب حيث الباص هو وسيلته الوحيدة تقريبا للتنقل. سواء بالذهاب إلى العمل أو العودة منه، أو التوجه إلى أماكن أخرى في البلد الجديد الذي يستحق اكتناه جغرافيته ومعالمه. هو أنبوب الحياة الذي يجد نفسه داخلا فيه كل يوم صباحا ومساء، يتقاسم معه هذا الأنبوب أناس عشوائيون من جنسيات وثقافات مختلفة يتواصلون مع المكان الأم بواسطة الإنترنت والهاتف النقّال. كما لو كانوا جميعا يعيشون في حياة افتراضية.

    في الباص وعلى مقاعده تتجاور أقل الطبقات في المجتمع. على المقاعد يسجل الراوي يوميات بشر من جنسيات مختلفة يجمع بينهم جميعا أنهم كلهم مغتربون، وأنهم يشتركون في عدم قدرتهم على اتخاذ وسيلة نقل أخرى سوى هذا الباص. وكأن الغربة تريد لهم أن يكونوا ضمن جماعة بلا خصوصية كبيرة عبر امتلاك وسيلة نقل خاصة مثل السيارة. ويبعد بينهم الهاتف الذي يعزل كل واحد منهم عن الآخر.

    بطل الرواية يعيش عزلته الإرادية ويكوّن علاقاته مع محيطه بحذر. عزلته ليست نابعة من الآخرين ولا من الظروف، بل عزلته ترشح منها خطوط سلوكية لشخصية انفرادية تنشد الكمال، وتواقة في الوقت نفسه لعلاقات متكافئة ليست مبنية على مصالح آنية، أو علاقات سطحية وسخيفة تجبرها ظروف الغربة على تقبلها. شخصية لا تتقبل الآخرين تحت أي بند من بنود الاضطرار. شخصية انسحابية من التفاهة بعناد عجيب.



    تحرّك مشاعره زميلته نورما في شركة الاتصالات التي جاء لكي يعمل بها مهندسا لتطوير الشبكات، وهي من أب مصري وأم فلبينية. وسط مشاعر الحنين إلى أمه وأبيه وبلده وأصدقائه حيث يموت أقرب الأصدقاء إليه لكنه لا يحظى بلحظة وداع أخيرة، لأن جدران الغربة تمنعه منعا تاما من هذه الحميمية المفقودة أو الغائبة، إلا من نافذة صغيرة من العالم الموازي في الفيسبوك، نافذة تكاد تكون وحيدة.
    غربة ساحقة


    “زمن الجدران”، العنوان الذي اختاره الكاتب لجزء رئيس من الرواية، ستتكسر في نهاية الرواية، وهي الجدران التي أصبحت تحول بيننا وبين الآخرين وحتى أقرب الناس، إذا كان أصلا هناك مقربون وتحول بيننا وبين أنفسنا. مصير الإنسان الجديد في هذه الحضارة الآفلة.

    في الفصل الأخير تختلط الأزمنة فلم يعد يدرك أحمد صابر هل هو في مصر أم الكويت، ذاهب إلى عمله أم إلى بيته وتقول له نورما: أنت غريب لماذا تفعل هذه الأخطاء؟

    نعم يرتكب الشخص الغريب الأخطاء ويقع في ضياع مستمر بين المحطات حيث يتوجه به الباص إلى أماكن بعيدة مثل الفحيحيل. وهي مدينة في أقصى الجنوب. يفتح هؤلاء الغرباء الإنترنت في الباص ويتواصلون مع عالمهم البعيد، ناسين أنفسهم. يصبح الباص هو الجسر الزمني الوحيد بينهم وبين عائلاتهم وأماكنهم الحقيقية في بلدانهم.

    هذا ما يجمع بينهم وسط الوحدة والفقد والقلق والتوتر على حد تعبير الكاتب. يجدون في هذه التوصيلة سواء كانت خمس دقائق أو نصف ساعة، استراحة للغيبوبة في المكان الأصلي عبر الإنترنت، عن طريق اتصال مرئي على الأغلب.

    فاطمة المقتولة حسبما أعلنت الشرطة، والقاتل هو البنغالي والذي رآه في الباص، نموذج من النماذج التي يراها البطل يوميا في هذا الباص، حيث ما يحدث داخل الباص يجسد حركة المجتمع الحقيقي خارج الباص. داخل الباص عالم مصغّر لمجتمع هؤلاء الغرباء لكنه عالم متغير على مرّ الساعات في اليوم الواحد. تلتقط عينا الغريب أحمد صابر كل تفاصيل الركاب. فهو دقيق الملاحظة. يبنى عالم الرواية المرتكز على عزلة الإنسان المعاصر وغربته.

    نعود إلى البداية. فحين هبط أحمد صابر على الرواية في المكان الجديد، كما ذكرنا سابقا، وجد كرة بيضاء صغيرة وضعها في جيبه. هكذا كان الراوي قد استهل سرده الأنيق. حيث عليه أن يدبّر حاله. تلك الجملة التي سمعها من زملاء العمل، وأصبحت قانونا للغريب الذي عليه أن يدبّر حاله، بمفرده على الأغلب.

    يندهش أحمد صابر من وجود محل فول وفلافل السويس. فول البغل في منطقة المحجوب وفي الفروانية. هذه التماثلات هي ما يعترض طريق المغترب عموما. والكاتب يختار معلم الشيراتون وهو أول شيراتون في العالم يُبنى خارج أميركا، وأقدم فندق خمس نجوم في المنطقة، لكي يكون قريبا من مكان عمله. هو العلامة التي تميز تواجده هناك في كل صباح.

    من الملاحظ أن الشخصية الرئيسية، الراوي، وهو البطل، أحمد صابر، بتعليمه وخبرته وأعماله السابقة حذر في تعامله مع الآخرين طوال أحداث الرواية.

    لم يفضل أن يتشارك السكن مع أحد، وفضّل أن يدفع أجرة شقة على أن يكون مع آخر. أحمد صابر يفضل أن يكون وحيدا على الدوام. إنها العزلة الإرادية.

    يتمحور خط الرواية الرئيسي على الحركة داخل الباص على نحو يومي بمحطاته الغريبة أيضا. بينما نلاحظ عدم معرفة أحمد صابر لأي شخص من أهل البلد، ما يشير إلى غربة ساحقة عن المكان. حتى المدير الكويتي نواف لا يظهر في الرواية.
    ما يحدث داخل الباص يجسد حركة المجتمع الحقيقي خارج الباص، داخل الباص عالم مصغر لمجتمع هؤلاء الغرباء

    رمزية عمل الشخصية أحمد صابر، كمهندس اتصالات، تعكس رغبة الكاتب في التغلب على قتامة الغربة والعزلة التامة من خلال كلمة اتصالات، ومن خلال نقل الصورة، صورة المكان الجديد في الكويت إلى المكان الأم في مصر من خلال المكالمات المرئية.

    كما لو كان عمله كمهندس اتصالات هو جعل العزلة للإنسان المغترب أقل وطأة. فهو من هذا الباب محارب ضد المسافة. معذب بالنأي عن أماكن الطفولة حيث تتجلى مكانة الأم والأب، بوصفهما أيضا حضنين، في ضفيرة السرد، وشرايينه، وهما حاضران بقوة، بين كل فصل وآخر. ويمثلان الجانب العاطفي والامتداد النفسي المكاني والزماني.

    عليّ أن أشير إلى أن الروايات الهادئة، روايات العزلة، عادةً ما تكون هي الأكثر حزنا.

    معالم الكويت التي يذكرها الروائي إشارات وإحالات مفعمة بالدلالة تقول أشياء كثيرة بالنسبة للنص والحكاية.

    الرواية من روائع ما ظهر لنا في السنوات الأخيرة من إبداع روائي لأسباب كثيرة أهمها: الحيادية الباردة بين مكونات حياة الغربة.. المكان والزمان.. شخصية البطل.. الشخصيات الهامشية في الرواية.

    بالنسبة إلي لا أقرأ دوما رواية بهذا الأسلوب السهل الممتنع للسرد والحبكة، واللغة الموجزة ذات التعبير الإيحائي والإحالي، الملبّدة بالمصير الإنساني. لذا أستطيع أن أقول إن رواية الباص للروائي صالح الغازي، تستحق أن تكون رواية العام خاصة بعد أن أُختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة كتارا للرواية العربية.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد الدوسري
    ناقد بحريني
يعمل...
X