مقالة نقدية عن أعمالي الفنية في معرضي الشخصي الذي أقيم في صالة نصير شورى بدمشق عام 2005
للناقد والفنان الكبير الدكتور غازي الخالدي المتوفى عام 2006 رحمه الله تعالى وهي من المقالات التي أحبها وأتمنى على الأصدقاء المتابعين لتجربتي الفنية قراءتها لأن الكثيرون من الأصدقاء يسألونني عن مفهوم بعض أعمالي الفنية
وأرفق مجموعة
مختارة ومتفرقة من أعمالي الفنية
عنوان المقالة:
أحمد الياس ... بين الأصالة والمعاصرة
الموروث الشعبي عنده وسيلة وليست غاية
من يتابع أعمال أحمد الياس منذ بداياته، يلاحظ ان هذا الفنان جاد، ومجتهد، ويبحث باستمرار عن أمرين اثنين: الشكل الخارجي للوحة التجريدية، وعناصرها اعتماداً على معطيات تراثية، وهذا يعني باختصار مسألة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، ومن عناصر الأصالة الزخرفة العربية أو الموروث الشعبي، وكذلك الكتابة العربية وقد عمل أحمد بكل جدية في هاتين المسألتين بكل اهتمام..مستنيراً بأعمال كبار فناني التجريد في العالم والوطن العربي، وكبار فناني العرب والمسلمين في مسألة الزخرفة والكتابة العربية.
أما بالنسبة للتجريد، فالمساحة اللونية التي يصنعها في لوحته، ليست صماء، وليست زخرفية، وليست هندسية معمارية، انما هي مساحة متحركة تنبض بالحياة والحركة، سواء من حيث اللون أو التقنية، أو من حيث تعامل المساحة الصغيرة مع المساحة التي تجاورها.
فهو يفكر أولاً بتقسيم المساحة الأولى، مساحة اللوحة الكبيرة يفكر في تقسيمها الى أجزاء غالباً ما يكون المربع والمستطيل هو التفصيل الجزئي الأولي لها، وبالوقت نفسه يعتبر ان جسم اللوحة الأساسي يبنى على خطين رئيسيين عمودي وأفقي، وبين هذين الخطين تتشكل مجموعة مربعات ومجموعة مستطيلات، تكبر أو تصغر، دون أي تناظر أو رقابة، أو تشابه بل هي موضوعة على أساس التعادل مرة والتوازن مرة أخرى..ولهذا فإن الهيكل المعماري الأساسي لعمله في اللوحة يعتبر بناء له جذور، وامتدادات لا تنتهي بانتهاء حدود الطول والعرض في اللوحة، فتشعر وأنت تقرأ لوحته كأنها جزء من مساحة اخرى تمتد شمالاً وغرباً وجنوباً وشرقاً... في جميع الاتجاهات كأنما يريد ان يوحي لنا ان هذه المساحات التي يوزعها ويستخدم بداخلها بعض الكتابات العربية المكتوبة بخط مغربي أحياناً وبكلمات وخطوط غير مغربية، كأنما هي مستمرة ولا تقف عند حدود اللوحة، اي ان الفنان لا يفرض علينا مساحة واحدة محددة ذات فضاء لوني بلا حدود، بل هو شكل متماسك له حدود وله أبعاد وله وجود واضح في العمودين المتصالبين الأفقي والعمودي.
وقد يضع بعض المساحات من المربعات أو المستطيلات المشكلة بين عناصر الكتابة أو الزخرفة قد يضع بعض هذه المستطيلات أو المربعات بألوان داكنة، غامقة، لا تعني الا العمق، أو الايهام بالعمق وقد يستخدم بعض الأشكال التي تشبه النوافذ أو ما يعرف في الحياة الشعبية القديمة كالمثلث والدائرة وشكل السمكة، عليها بعض الزخارف المتناوبة وقد يرسم العين، والبؤبؤ كرمز لأشكال تحفظ صاحبها من السحر والشعوذة..
وكل هذا لا يعني التلقي الا بالتنويه الى جوانب صغيرة جدا وهامة جداًً في الفن الشعبي القديم، الذي أجده من أهم ما ورثناه في الفنون القديمة، كالرسم على الجدران، والزخرفة البسيطة التي يضعها ابناء الريف على مدخل المنزل، بمناسبة الاحتفال بعودة الحاج من الديار المقدسة، أو بمناسبة مولود جديد دخل في حياة الأسرة،وفي المحاولات لإبعاد الشر والأشرار عن الحياة اليومية..وكل هذا يقع في خانة البحث في المضمون الذي يريده أحمد الياس، فهو كما نرى في لوحاته معجب الى حد كبير بهذه المعطيات الشعبية المتوفرة في كثير من البيوت الشعبية سواء في الأدوات البدائية المستخدمة أوسواء في الرسم والزخرفة على بعض الجدران الطينية القديمة المعروفة في ريفنا الجميل.
أقول كل هذا لا يعني المتلقي لأول وهلة، ولكن الذي يعنينا كيف استطاع الفنان ان ينظر الى هذه المعطيات المتوفرة، والتي لم يتناولها أحد غيره، وكيف وظفها، واستخدمها، وجعل منها موضوع لوحته والأجمل في هذه النقطة ان كل مساحة من هذه المساحات غير المتساوية تحمل مدلولاً تشكيلياً جمالياً يكمل الجزء الذي يجاوره وبالوقت نفسه له استقلاليته كوحدة تشكيلية قائمة بذاتها، وهي على هذا الاساس، تشكل جزءاً من كل، وهي نفسها تشكل قيمة خاصة بذاتها، وهذا من أهم ميزات اعمال وتكوينات والحلول التشكيلية التي يقدمها أحمد الياس، وعلى هذا نقول ان في لوحاته أكثر من لوحة، وان من تكويناته أكثر من شكل، يتكامل مع غيره أحياناً، ويقف لوحده كقيمة خاصة به دون الاعتماد على ما يجاوره من لون أو زخرفة او كتابة او شكل أو مساحة ذات تأثيرات بصرية مباشرة.
ولكن هذا لا يعني ان لوحته، وتكوينه يمكن ان ينقسم الى أجزاء، كل جزء لوحده، أبداً، والحل الذي طرحه هو وحدة «الهارموني اللوني العام في اللوحة» او ما يسمى بالمصطلح العلمي الفني «تون لوكال» لذلك نجد بعض لوحاته يسيطر عليها لون «اوكرجون» وبعضها يسيطر عليها لون «الأصفر النابولي» وبعضها يسيطر عليها لون الأزرق «بلوسكاي» وأحياناً الاخضر من نوع «جرين جراس»..هذه الألون هي التي تجمع كل العناصر وكل الأجزاء وكل المربعات وكل المستطيلات في وحدة روحية متكاملة تقرؤها للوهلة الأولى وأنت تنظر الى اللوحة لأول مرة.
ولكن المدقق في لوحاته يكتشف هذا البحث الجاد في اغناء عناصره وأشكاله المربعة أو المستطيلة اما بتحريك اللون وبوضع ظلال في أطرافه، أو في وضع عناصر زخرفية شعبية أو في وضع كتابات وكلمات مأخوذة كما قلت من الموروث الشعبي.
انني اريد ان اصل الى حقيقة هامة جداً يمتاز بها هذا الفنان، وهي اعتزازه بالحضارة العربية والاسلامية، وحبه الواضح للموروثات الشعبية..وهذا ما حقق له هويته الفنية، وجعل حضوره قوياً مختلفاً تماماً عن بعض التجارب الفنية التي تكبّر بالفانوس السحري، بالراشق، بعض الزخارف وبعض الكتابات وبعض الخطوط، وبعض الادوات المستعملة كالابريق والسجادة، والكرسي وقطعة فخار أو قطعة نحاس، ينقلها ويجمعها هكذا بشكل عشوائي، ليقول ان هذا من التراث الشعبي العربي الأصيل، وهو بعيد كل البعد عن ذلك، لان الفنان لم يقوم الا بجمع هذه العناصر، ولم يبحث في أي تكوين أو تأليف يستخدم هذه الاشياء كوسيلة، وليس كفاية، وأحمد الياس وظف الزخرفة والكتابة والموروث الشعبي كوسيلة لايجاد عمل فني متكامل فيه تأليف وفيه ابداع وفيه فكر مسؤول وموقف صريح وواضح من جمع طرفي المعادلة الصعبة بين الأصالة والمعاصرة.
بقلم د. غازي الخالدي./ رحمه الله
----------------------------------------------------------------------------------
بطاقة:
أحمد محمد الياس فنان تشكيلي سوري درس العمارة الداخلية (الديكور) في كلية الفنون الجميلة بدمشق، لكنه توجه كلياً لإنتاج لوحة حروفيّة زخرفية.
ولد أحمد في بلدة (دير عطية) بريف دمشق عام 1954، وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، صمم العديد من الشعارات والميداليات والكتب والمجلات، كتبت العديد من الصحف المحلية والعربية والمجلات عن أعماله.
أقام العديد من المعارض الفردية، وشارك في العديد من المعارض الداخلية والخارجية، وهو أحد الرموز البارزة في التشكيل السوري الحديث، التي تعمل على الاتجاه الحروفي.
استخدم شتى التقانات اللونية في تنفيذ منجزه البصري، إضافة إلى طريقة التلصيق (الكولاج) ولوحته عموماً، تقوم بكاملها على المعطيات التشكيلية الفريدة، للزخرفة والخط العربي.
أعماله مقتناة لدى وزارة الثقافة، ولدى بعض المجموعات الخاصة العربية والعالمية في سورية، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، لبنان، الأردن، إسبانيا، والإمارات العربية المتحدة.
حصل على العديد من الجوائز وشهادات التقدير، حيث نال الجائزة الفضية لبينالي اللاذقية الثالث في عام"1999"، كما حصل على جائزة عالمية في مهرجان بغداد العالمي الثالث للفنون عام"2002".
تعليق