تخلف نظم التعليم العربية يوسع الفجوة بين متطلبات العصر والمؤهلات العلمية
المدارس تاهت بين الدور التربوي والواجب المعرفي والتخصصات الجامعية منفصلة عن سوق العمل.
النتيجة دائما صفرية
تظل أمّ الأزمات في العديد من الدول العربية التي تسعى لتغيير واقعها التعليمي أن التطوير يسير بنسق بطيء، في حين يتسارع التغيير في طبيعة المهن ومتطلبات سوق العمل، عالميا، وكلما وصلت أي دولة إلى النقطة المستهدفة تصطدم بأنها تخلّفت عن التطور العالمي، لتبدأ من جديد.
المتابع لواقع التعليم في العديد من الدول العربية، يكتشف من الوهلة الأولى أن رؤساء حكومات الكثير من تلك الدول، لم يقفوا لمرة واحدة ويسألوا المسؤولين عن المنظومة التعليمية لديهم أو المتخصصين: ما فائدة التعليم في بلدنا، وماذا تحقق من تنمية وعوائد على المجتمع والدولة من كل هذه الصروح العلمية، مثل المدارس والجامعات والهيئات البحثية التابعة لها.
لا يحتاج الأمر إلى اكتشاف نتيجة تلك التساؤلات لأنها تبدو كارثية، في ظل عدم استفادة الكثير من الدول العربية من منظومتها التعليمية في شيء، وإن أقدمت على محاولة التغيير والتطوير، فإنها تكتفي بتجميل الصورة لتبدو ناصعة، على أمل إقناع المجتمع بأنها تسعى لفعل المستحيل، ورغم ذلك تكون النتيجة دائما صفرية.
أصبحت سوءات نظم التعليم مثارة على نطاق واسع في بعض الدول، ففي مصر، قامت الحكومة مؤخرا باختزال تطوير مرحلة الثانوية العامة (البكالوريا) في دمج وإلغاء مواد دراسية، بدعوى التخفيف ومحاولة مسايرة الشهادات الدولية، الأميركية والبريطانية في عدد المواد، دون اكتراث بالمحتوى المعرفي والتحصيل العلمي المستهدف.
سعيد صادق: استمرار التجهيل التعليمي، عمدا أو سهوا، قمة الخطر
وتُطرح في تونس والجزائر ودول عربية أخرى تساؤلات مشابهة حول أسباب تهاوي المنظومة التعليمية وعدم قدرة الطلاب والخريجين على منافسة أقرانهم في دول أخرى ربما أقل تقدما وتنمية، وطالت أصابع الاتهام كل أضلع المنظومة، بينما تقف الحكومات شبه عاجزة عن الوصول إلى الدوافع الحقيقة للأزمة أو علاج أوجه القصور.
ويتفق خبراء في شؤون التربية على أنه مهما كان هناك تفاوت وفوارق بين نظم التعليم في الكثير من الدول العربية، لكن الاتفاق الوحيد بينها، أن المجتمع والحكومة والطلاب والخريجين يتعاملون مع المدارس والجامعات على أنها كيانات تمنح شهادات كتصاريح لمباشرة العمل، دون اكتراث أو فهم لكون طالب الجامعة في الوقت الراهن لم يعد في حاجة إلى من يعلّمه، بل يُسلّحه بالعلم والمعرفة ليجد لنفسه مكانا على الساحة.
ويعتقد الكثير من الخبراء أن مشكلة الكثير من نُظم التعليم في الدول العربية ستظل كما هي، لأن أيّ محاولة للتطوير والتغيير بعيدة عن صُلب الأزمة، أو محاولة الوصول بالمنظومة إلى مرحلة إنتاج المبتكرين والمخترعين، لا مجرد منح شهادات، مع أن الابتكارات والاختراعات أصبحت المحرك الأساسي لقياس مكانة الدول في سباق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي مفتاح الرقي والتحضر والتقدم بالأجيال المقبلة.
أدل مثال على ذلك أن مصر لديها نظام تعليمي خاص بمدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا لا يلتحق به سوى الطلاب النخبة وأصحاب القدرات العلمية الخارقة، وتقوم دراستهم على الاختراعات والابتكارات، لكن لم تستفد منهم الدولة جيدا، لأن الحكومة تتعامل مع الطلاب بفكر تقليدي، وبلا استثمار في طاقاتهم وإبداعاتهم، مع أن أغلبهم ينشد الحد الأدنى من الاهتمام وتبني اختراعاتهم.
وعندما قررت مصر إنشاء مدارس تكنولوجية لخدمة الصناعة والتنمية بالتعاون مع بعض المستثمرين وكبار رجال الصناعة والأعمال الحرفية، لم تستفد من أغلب الخريجين وبعضهم سافر خارج البلاد كي يُكمل تعليمه الجامعي وسط بيئة تؤمن بالابتكار وتحترم القدرات العلمية الفنية، لأن كل الملتحقين بالمدارس التكنولوجية درسوا تخصصات عصرية، لكن المسار الجامعي لهم مليء بالعثرات والتحديات والروتين.
وجزء من إشكالية المنظومة التعليمية في بعض الدول العربية أن المدارس تاهت بين الدور التربوي والواجب المعرفي لها، حتى صارت منشغلة فقط في كيفية احتضان الملايين من التلاميذ سنويا وسط عجز صارخ في القاعات التعليمية وعجز عن بناء مدارس جديدة، حتى أصبحت لغة الأرقام الفيصل الوحيد في تحديد ورسم سياسات المنظومة التعليمية، وصار الاهتمام منصبّا على عدد الناجحين والراسبين وليس التعليم.
فكر تقليدي
ويقضي الطالب في الجامعة سنوات في تخصص علمي لا علاقة له بسوق العمل، لمجرد الحصول على شهادة، ثم ينضم سريعا إلى طوابير البطالة، وإما أن يستسلم أو يضطر إلى العمل في مجال بعيد عن تخصصه العلمي، ليخسر، وتخسر معه الدولة قيمة بشرية كان يمكن الاستفادة منها إذا كانت هناك رؤية واقعية لربط متطلبات سوق العمل بالتخصصات الدراسية.
وكثيرا ما أظهرت دراسات علمية أعدها البنك الدولي حول التعليم في المنطقة العربية، أن ثمة انفصالا تاما بين التخصصات التعليمية وسوق العمل، مع أن الدول العربية تحتاج لتوفير عشرة ملايين وظيفة سنويا، دون وقفة جادة من حكومات تلك الدول مع هذه الأرقام، وإعادة النظر بواقعية لمخرجات التعليم والتخصصات الدراسية التي صارت عبئا على أصحابها والدولة معا.
وليس أدل على ذلك، مما هو موجود في مصر. فهناك كليات تستوعب مئات الآلاف من الطلاب سنويا، مثل الحقوق والتجارة والآداب والتربية، لم يعد لها وظائف، دون أن تتدخل الحكومة لتحجيم عدد المقبولين فيها، أو تتوسع في كليات مناظرة بتخصصات عصرية مثل الرقمنة والذكاء الاصطناعي لتفرض التغيير في عقلية المجتمع بسياسة الأمر الواقع، لكن المعضلة في عدم وجود رؤية لتقليل الفجوة بين متطلبات العصر والمؤهلات العلمية، وهي معضلة تواجه الكثير من نظم التعليم الجامعي في النطاق العربي.
ورأى الخبير التربوي والأكاديمي المصري وائل كامل أن ما يقدم من تعليم في الكثير من الدول العربية محاولة للتشبه بدول غربية على مستوى الشكل لا المضمون، ويمكن اكتشاف ذلك في اهتمام المؤسسات التعليمية بالدخول ضمن الأفضل في التصنيفات الدولية أكثر من سعيها إلى تحسين جودة التعليم نفسه، والإصرار على أن يكون التحاق الطالب بالجامعة مرتبطا بالمجموع وليس بالكفاءة والمهارة، ما يفسر زيادة عدد العاطلين عن العمل لسوء التخطيط.
وقال في تصريح لـ “العرب” إن تخلف المسيرة التعليمية في عدد من الدول العربية سيظل مستمرا، لأن هناك محاولات لتصوير الأمر على أن المشكلة في المناهج وعدد المواد وطبيعة الامتحانات، مع أن صميم الأزمة في غياب الكفاءات الحقيقية التي تصل إلى المواقع القيادية داخل المنظومة التعليمية، وهذا ترتب عليه تعامل الكثير من المسؤولين مع تطوير القطاع التعليمي بعقلية الموظف.
مدارس تائهة
ويقود ذلك إلى أن مدير المدرسة يصبح موظفا يدير مجموعة من المعلمين والإداريين، ووزير التعليم نفسه، يتعامل بنفس المنطق، بأنه يدير عشرات الآلاف من المدارس ويرأس قيادات كل منها مسؤول عن ملف، دون أن يكون لدى الدولة، كدولة، رؤية عامة حول هدف محدد يخص تطوير التعليم، من خلال مجالس علمية مسؤولة عن تحديد سياسة تعليمية لها ملامح وآلية تنفيذ على الأرض، تخاطب المستقبل، لا الحاضر.
ويتعلق الجزء الأكبر من أزمة التخلف التعليمي في غالبية الدول العربية بهوية صانع السياسة التعليمية، ففي مصر يأتي وزير التعليم ليحتكر وحده اتخاذ القرارات المرتبطة بالمناهج وطريقة التدريس وعدد المواد ودرجات كل صف دراسي، وآلية الامتحانات، سواء أكانت لديه رؤية منطقية أو خبرة علمية تؤهله لذلك أم لا، ثم يأتي بعده وزير قد ينسف كل ذلك.
ورئيس الجامعة هو شخصية مستقلة يحق له التحكم في كل شيء يخص العملية التعليمية داخل الجامعة بكلياتها وتخصصاتها المختلفة، يحذف هذا ويضيف ذاك، بقطع النظر عن خبراته العلمية ومستوى كفاءته، دون أن يكون لدى الحكومة هيئة استشارية من متخصصين في القطاعات التعليمية المختلفة، ترسم سياسة عامة للنظام التعليمي، المدرسي والجامعي، تلغي القديم وتستحدث ما تتطلبه العصرنة، وتُلزم به الجميع، ويكون تطبيقه وفق توقيت زمني محدد، لتصل الدولة إلى هدفها في غضون فترة قصيرة.
هكذا الحال، تقريبا، في بعض الدول العربية، ما ترتب عليه بقاء نفس المشكلات قائمة، لأن غالبية المسؤولين عن القطاع التعليمي أصبحوا منهكين في خلخلة التحديات، على مستوى كثافة الطلاب وبناء المدارس وتوفير معلمين وعقد امتحانات وتحديد آلية القبول، وغيرها من المتطلبات التقليدية، وما يحدث هذا العام، يتكرر سنويا، بنفس الوتيرة، بلا نتيجة ملموسة، ليستمر تهالك المنظومة.
من الصعب على أي دولة أن تلحق بركب التقدم دون أن تكون لديها منظومة تعليمية يتم التعامل معها كأهم مشروع قومي تنموي
وهناك وجهة نظر تُلمّح إلى أن إضعاف المنظومة التعليمية في بعض الدول العربية يبدو متعمدا، كهدف سياسي لدى حكومات تلك البلدان، من منطلق أن التعليم عندما يتخلف عن الركب العالمي ينتج أجيالا شبه مغيبة عن السلطة والثروة والسياسة ودهاليزها، أما لو تطوّر، فإنه ينتج شريحة متفتحة تُدرك قيمة المشاركة السياسية والحقوق وترفض الطاعة العمياء للسلطة ومؤسساتها، وهذا ليس مطلوبا.
ويدعم الأكاديمي المصري سعيد صادق، وهو أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، تلك الرؤية، من منطلق أن بعض الحكومات لديها تصورات قائمة على ضرورة إبقاء التعليم دون عصرنة، لتستمر متحكمة ومهيمنة على العقول، لا أن تصطدم بأجيال صاعدة لديها وعي سياسي يؤهلها للمطالبة بالتغيير، مع أن استمرار التجهيل التعليمي، عمدا أو سهوا، قمة الخطر السياسي.
وأكد لـ”العرب” أن اهتمام بعض الحكومات العربية بالتنمية البعيدة عن تعليم وتأهيل وعصرنة العنصر البشري وفق متطلبات العصر، يضع علامات استفهام حول المغزى من محاولة بناء الدول بمنطق الحجر، لا البشر، ومن الصعب على أيّ دولة أن تلحق بركب التقدم دون أن تكون لديها منظومة تعليمية يتم التعامل معها كأهم مشروع قومي تنموي، توفر له كل الإمكانيات المالية والبشرية والكفاءات العلمية.
وقال “أصبح من النادر، تحرك دولة عربية لتقييم منظومتها التعليمية كل فترة، أو تجتمع كل مؤسساتها لوضع خارطة طريق تعليمية لها سقف زمني للانتهاء منها ما يخدم التنمية المستدامة ويحسن جودة المخرج النهائي، لذلك، لا سبيل أمام العرب للتقدم والرقي والنمو إلا باعتبار التعليم هو الأساس، وإذا كانت هناك مخاطر تحاك ضد الأمان الوطني، فالتعليم أيضا صمام الأمان، المهم توافر الإرادة السياسية”.
ويصعب إقناع حكومات بعض الدول العربية التي تتعامل باستخفاف مع تخلف نظامها التعليمي، بحتمية النهوض سريعا، دون أن تتعامل مع الأمر بمنطق سياسي، وتفهم أن النظم التعليمية كلما كانت قوية وعصرية فإنها تفرز كوادر قادرة على بناء دولة قوية تستطيع الصمود أمام المخاطر، بقطع النظر عن توافر الأموال في تلك الدول أم لا، لأن المال وحده لا يُحصّن الدول من الانهيار، طالما غابت مؤسساتها القوية وكوادرها القادرة على انتشالها من أزماتها سريعا، وعندما تسقط في الفوضى، فقد لا تنهض مجددا.
ويعتقد مراقبون أنه من السهل على أي بلد عربي أن ينهض تعليميا، شريطة تشخيص واقع التعليم وتحدياته، ووضع خطط قصيرة المدى للنهوض به وتطويره، وأخرى بعيدة المدى تعتمد على أهداف مستقبلية وفق احتياجات العصر لا الأهداف الضيقة للحكومة، ولن يتحقق ذلك سوى بإرادة سياسية قوية وعدم التقشف في رصد ميزانيات ضخمة على التعليم والبحث العلمي مهما كانت هناك أزمات اقتصادية، على الأقل لتتغير نظرة المجتمع نفسه للتعليم، بما ينعكس على المنظومة برمتها بشكل إيجابي.
وأقنعت بعض الحكومات العربية نفسها بصعوبة النهوض اقتصاديا من بوابة التعليم، فهناك دول استطاعت تحقيق ذلك عندما أرادت وتعاملت مع الأمر بجدية، ويكفي أنه في ستينات القرن الماضي، كان حجم اقتصاد كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بحجم اقتصاد مصر، تقريبا، ولم يتوقع أحد تحول هذه الدول في فترة قصيرة إلى نماذج في التقدم والتطور، لكنها استثمرت في التعليم والبحوث والتنمية المستدامة رغم أنها عانت من نكبات اقتصادية لم تستسلم أمامها.
ويمكن البناء على ذلك أن التحجج بالواقع الاقتصادي لعدم تطوير النظم التعليمية في بعض الدول العربية، يحمل مبررات واهية، بأن هناك إمكانيات شبابية مجانية يُساء استغلالها، والاستمرار في هذا النهج قد يدفعهم إلى التحول من قوة بناء في خدمة التنمية والتقدم والنمو إلى قوة تهدد كل ما يتأسس من تنمية طالما أنها قائمة على الحجر، لا البشر.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أحمد حافظ
كاتب مصري
المدارس تاهت بين الدور التربوي والواجب المعرفي والتخصصات الجامعية منفصلة عن سوق العمل.
النتيجة دائما صفرية
تظل أمّ الأزمات في العديد من الدول العربية التي تسعى لتغيير واقعها التعليمي أن التطوير يسير بنسق بطيء، في حين يتسارع التغيير في طبيعة المهن ومتطلبات سوق العمل، عالميا، وكلما وصلت أي دولة إلى النقطة المستهدفة تصطدم بأنها تخلّفت عن التطور العالمي، لتبدأ من جديد.
المتابع لواقع التعليم في العديد من الدول العربية، يكتشف من الوهلة الأولى أن رؤساء حكومات الكثير من تلك الدول، لم يقفوا لمرة واحدة ويسألوا المسؤولين عن المنظومة التعليمية لديهم أو المتخصصين: ما فائدة التعليم في بلدنا، وماذا تحقق من تنمية وعوائد على المجتمع والدولة من كل هذه الصروح العلمية، مثل المدارس والجامعات والهيئات البحثية التابعة لها.
لا يحتاج الأمر إلى اكتشاف نتيجة تلك التساؤلات لأنها تبدو كارثية، في ظل عدم استفادة الكثير من الدول العربية من منظومتها التعليمية في شيء، وإن أقدمت على محاولة التغيير والتطوير، فإنها تكتفي بتجميل الصورة لتبدو ناصعة، على أمل إقناع المجتمع بأنها تسعى لفعل المستحيل، ورغم ذلك تكون النتيجة دائما صفرية.
أصبحت سوءات نظم التعليم مثارة على نطاق واسع في بعض الدول، ففي مصر، قامت الحكومة مؤخرا باختزال تطوير مرحلة الثانوية العامة (البكالوريا) في دمج وإلغاء مواد دراسية، بدعوى التخفيف ومحاولة مسايرة الشهادات الدولية، الأميركية والبريطانية في عدد المواد، دون اكتراث بالمحتوى المعرفي والتحصيل العلمي المستهدف.
سعيد صادق: استمرار التجهيل التعليمي، عمدا أو سهوا، قمة الخطر
وتُطرح في تونس والجزائر ودول عربية أخرى تساؤلات مشابهة حول أسباب تهاوي المنظومة التعليمية وعدم قدرة الطلاب والخريجين على منافسة أقرانهم في دول أخرى ربما أقل تقدما وتنمية، وطالت أصابع الاتهام كل أضلع المنظومة، بينما تقف الحكومات شبه عاجزة عن الوصول إلى الدوافع الحقيقة للأزمة أو علاج أوجه القصور.
ويتفق خبراء في شؤون التربية على أنه مهما كان هناك تفاوت وفوارق بين نظم التعليم في الكثير من الدول العربية، لكن الاتفاق الوحيد بينها، أن المجتمع والحكومة والطلاب والخريجين يتعاملون مع المدارس والجامعات على أنها كيانات تمنح شهادات كتصاريح لمباشرة العمل، دون اكتراث أو فهم لكون طالب الجامعة في الوقت الراهن لم يعد في حاجة إلى من يعلّمه، بل يُسلّحه بالعلم والمعرفة ليجد لنفسه مكانا على الساحة.
ويعتقد الكثير من الخبراء أن مشكلة الكثير من نُظم التعليم في الدول العربية ستظل كما هي، لأن أيّ محاولة للتطوير والتغيير بعيدة عن صُلب الأزمة، أو محاولة الوصول بالمنظومة إلى مرحلة إنتاج المبتكرين والمخترعين، لا مجرد منح شهادات، مع أن الابتكارات والاختراعات أصبحت المحرك الأساسي لقياس مكانة الدول في سباق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي مفتاح الرقي والتحضر والتقدم بالأجيال المقبلة.
أدل مثال على ذلك أن مصر لديها نظام تعليمي خاص بمدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا لا يلتحق به سوى الطلاب النخبة وأصحاب القدرات العلمية الخارقة، وتقوم دراستهم على الاختراعات والابتكارات، لكن لم تستفد منهم الدولة جيدا، لأن الحكومة تتعامل مع الطلاب بفكر تقليدي، وبلا استثمار في طاقاتهم وإبداعاتهم، مع أن أغلبهم ينشد الحد الأدنى من الاهتمام وتبني اختراعاتهم.
وعندما قررت مصر إنشاء مدارس تكنولوجية لخدمة الصناعة والتنمية بالتعاون مع بعض المستثمرين وكبار رجال الصناعة والأعمال الحرفية، لم تستفد من أغلب الخريجين وبعضهم سافر خارج البلاد كي يُكمل تعليمه الجامعي وسط بيئة تؤمن بالابتكار وتحترم القدرات العلمية الفنية، لأن كل الملتحقين بالمدارس التكنولوجية درسوا تخصصات عصرية، لكن المسار الجامعي لهم مليء بالعثرات والتحديات والروتين.
وجزء من إشكالية المنظومة التعليمية في بعض الدول العربية أن المدارس تاهت بين الدور التربوي والواجب المعرفي لها، حتى صارت منشغلة فقط في كيفية احتضان الملايين من التلاميذ سنويا وسط عجز صارخ في القاعات التعليمية وعجز عن بناء مدارس جديدة، حتى أصبحت لغة الأرقام الفيصل الوحيد في تحديد ورسم سياسات المنظومة التعليمية، وصار الاهتمام منصبّا على عدد الناجحين والراسبين وليس التعليم.
فكر تقليدي
ويقضي الطالب في الجامعة سنوات في تخصص علمي لا علاقة له بسوق العمل، لمجرد الحصول على شهادة، ثم ينضم سريعا إلى طوابير البطالة، وإما أن يستسلم أو يضطر إلى العمل في مجال بعيد عن تخصصه العلمي، ليخسر، وتخسر معه الدولة قيمة بشرية كان يمكن الاستفادة منها إذا كانت هناك رؤية واقعية لربط متطلبات سوق العمل بالتخصصات الدراسية.
وكثيرا ما أظهرت دراسات علمية أعدها البنك الدولي حول التعليم في المنطقة العربية، أن ثمة انفصالا تاما بين التخصصات التعليمية وسوق العمل، مع أن الدول العربية تحتاج لتوفير عشرة ملايين وظيفة سنويا، دون وقفة جادة من حكومات تلك الدول مع هذه الأرقام، وإعادة النظر بواقعية لمخرجات التعليم والتخصصات الدراسية التي صارت عبئا على أصحابها والدولة معا.
وليس أدل على ذلك، مما هو موجود في مصر. فهناك كليات تستوعب مئات الآلاف من الطلاب سنويا، مثل الحقوق والتجارة والآداب والتربية، لم يعد لها وظائف، دون أن تتدخل الحكومة لتحجيم عدد المقبولين فيها، أو تتوسع في كليات مناظرة بتخصصات عصرية مثل الرقمنة والذكاء الاصطناعي لتفرض التغيير في عقلية المجتمع بسياسة الأمر الواقع، لكن المعضلة في عدم وجود رؤية لتقليل الفجوة بين متطلبات العصر والمؤهلات العلمية، وهي معضلة تواجه الكثير من نظم التعليم الجامعي في النطاق العربي.
ورأى الخبير التربوي والأكاديمي المصري وائل كامل أن ما يقدم من تعليم في الكثير من الدول العربية محاولة للتشبه بدول غربية على مستوى الشكل لا المضمون، ويمكن اكتشاف ذلك في اهتمام المؤسسات التعليمية بالدخول ضمن الأفضل في التصنيفات الدولية أكثر من سعيها إلى تحسين جودة التعليم نفسه، والإصرار على أن يكون التحاق الطالب بالجامعة مرتبطا بالمجموع وليس بالكفاءة والمهارة، ما يفسر زيادة عدد العاطلين عن العمل لسوء التخطيط.
وقال في تصريح لـ “العرب” إن تخلف المسيرة التعليمية في عدد من الدول العربية سيظل مستمرا، لأن هناك محاولات لتصوير الأمر على أن المشكلة في المناهج وعدد المواد وطبيعة الامتحانات، مع أن صميم الأزمة في غياب الكفاءات الحقيقية التي تصل إلى المواقع القيادية داخل المنظومة التعليمية، وهذا ترتب عليه تعامل الكثير من المسؤولين مع تطوير القطاع التعليمي بعقلية الموظف.
مدارس تائهة
ويقود ذلك إلى أن مدير المدرسة يصبح موظفا يدير مجموعة من المعلمين والإداريين، ووزير التعليم نفسه، يتعامل بنفس المنطق، بأنه يدير عشرات الآلاف من المدارس ويرأس قيادات كل منها مسؤول عن ملف، دون أن يكون لدى الدولة، كدولة، رؤية عامة حول هدف محدد يخص تطوير التعليم، من خلال مجالس علمية مسؤولة عن تحديد سياسة تعليمية لها ملامح وآلية تنفيذ على الأرض، تخاطب المستقبل، لا الحاضر.
ويتعلق الجزء الأكبر من أزمة التخلف التعليمي في غالبية الدول العربية بهوية صانع السياسة التعليمية، ففي مصر يأتي وزير التعليم ليحتكر وحده اتخاذ القرارات المرتبطة بالمناهج وطريقة التدريس وعدد المواد ودرجات كل صف دراسي، وآلية الامتحانات، سواء أكانت لديه رؤية منطقية أو خبرة علمية تؤهله لذلك أم لا، ثم يأتي بعده وزير قد ينسف كل ذلك.
ورئيس الجامعة هو شخصية مستقلة يحق له التحكم في كل شيء يخص العملية التعليمية داخل الجامعة بكلياتها وتخصصاتها المختلفة، يحذف هذا ويضيف ذاك، بقطع النظر عن خبراته العلمية ومستوى كفاءته، دون أن يكون لدى الحكومة هيئة استشارية من متخصصين في القطاعات التعليمية المختلفة، ترسم سياسة عامة للنظام التعليمي، المدرسي والجامعي، تلغي القديم وتستحدث ما تتطلبه العصرنة، وتُلزم به الجميع، ويكون تطبيقه وفق توقيت زمني محدد، لتصل الدولة إلى هدفها في غضون فترة قصيرة.
هكذا الحال، تقريبا، في بعض الدول العربية، ما ترتب عليه بقاء نفس المشكلات قائمة، لأن غالبية المسؤولين عن القطاع التعليمي أصبحوا منهكين في خلخلة التحديات، على مستوى كثافة الطلاب وبناء المدارس وتوفير معلمين وعقد امتحانات وتحديد آلية القبول، وغيرها من المتطلبات التقليدية، وما يحدث هذا العام، يتكرر سنويا، بنفس الوتيرة، بلا نتيجة ملموسة، ليستمر تهالك المنظومة.
من الصعب على أي دولة أن تلحق بركب التقدم دون أن تكون لديها منظومة تعليمية يتم التعامل معها كأهم مشروع قومي تنموي
وهناك وجهة نظر تُلمّح إلى أن إضعاف المنظومة التعليمية في بعض الدول العربية يبدو متعمدا، كهدف سياسي لدى حكومات تلك البلدان، من منطلق أن التعليم عندما يتخلف عن الركب العالمي ينتج أجيالا شبه مغيبة عن السلطة والثروة والسياسة ودهاليزها، أما لو تطوّر، فإنه ينتج شريحة متفتحة تُدرك قيمة المشاركة السياسية والحقوق وترفض الطاعة العمياء للسلطة ومؤسساتها، وهذا ليس مطلوبا.
ويدعم الأكاديمي المصري سعيد صادق، وهو أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، تلك الرؤية، من منطلق أن بعض الحكومات لديها تصورات قائمة على ضرورة إبقاء التعليم دون عصرنة، لتستمر متحكمة ومهيمنة على العقول، لا أن تصطدم بأجيال صاعدة لديها وعي سياسي يؤهلها للمطالبة بالتغيير، مع أن استمرار التجهيل التعليمي، عمدا أو سهوا، قمة الخطر السياسي.
وأكد لـ”العرب” أن اهتمام بعض الحكومات العربية بالتنمية البعيدة عن تعليم وتأهيل وعصرنة العنصر البشري وفق متطلبات العصر، يضع علامات استفهام حول المغزى من محاولة بناء الدول بمنطق الحجر، لا البشر، ومن الصعب على أيّ دولة أن تلحق بركب التقدم دون أن تكون لديها منظومة تعليمية يتم التعامل معها كأهم مشروع قومي تنموي، توفر له كل الإمكانيات المالية والبشرية والكفاءات العلمية.
وقال “أصبح من النادر، تحرك دولة عربية لتقييم منظومتها التعليمية كل فترة، أو تجتمع كل مؤسساتها لوضع خارطة طريق تعليمية لها سقف زمني للانتهاء منها ما يخدم التنمية المستدامة ويحسن جودة المخرج النهائي، لذلك، لا سبيل أمام العرب للتقدم والرقي والنمو إلا باعتبار التعليم هو الأساس، وإذا كانت هناك مخاطر تحاك ضد الأمان الوطني، فالتعليم أيضا صمام الأمان، المهم توافر الإرادة السياسية”.
ويصعب إقناع حكومات بعض الدول العربية التي تتعامل باستخفاف مع تخلف نظامها التعليمي، بحتمية النهوض سريعا، دون أن تتعامل مع الأمر بمنطق سياسي، وتفهم أن النظم التعليمية كلما كانت قوية وعصرية فإنها تفرز كوادر قادرة على بناء دولة قوية تستطيع الصمود أمام المخاطر، بقطع النظر عن توافر الأموال في تلك الدول أم لا، لأن المال وحده لا يُحصّن الدول من الانهيار، طالما غابت مؤسساتها القوية وكوادرها القادرة على انتشالها من أزماتها سريعا، وعندما تسقط في الفوضى، فقد لا تنهض مجددا.
ويعتقد مراقبون أنه من السهل على أي بلد عربي أن ينهض تعليميا، شريطة تشخيص واقع التعليم وتحدياته، ووضع خطط قصيرة المدى للنهوض به وتطويره، وأخرى بعيدة المدى تعتمد على أهداف مستقبلية وفق احتياجات العصر لا الأهداف الضيقة للحكومة، ولن يتحقق ذلك سوى بإرادة سياسية قوية وعدم التقشف في رصد ميزانيات ضخمة على التعليم والبحث العلمي مهما كانت هناك أزمات اقتصادية، على الأقل لتتغير نظرة المجتمع نفسه للتعليم، بما ينعكس على المنظومة برمتها بشكل إيجابي.
وأقنعت بعض الحكومات العربية نفسها بصعوبة النهوض اقتصاديا من بوابة التعليم، فهناك دول استطاعت تحقيق ذلك عندما أرادت وتعاملت مع الأمر بجدية، ويكفي أنه في ستينات القرن الماضي، كان حجم اقتصاد كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بحجم اقتصاد مصر، تقريبا، ولم يتوقع أحد تحول هذه الدول في فترة قصيرة إلى نماذج في التقدم والتطور، لكنها استثمرت في التعليم والبحوث والتنمية المستدامة رغم أنها عانت من نكبات اقتصادية لم تستسلم أمامها.
ويمكن البناء على ذلك أن التحجج بالواقع الاقتصادي لعدم تطوير النظم التعليمية في بعض الدول العربية، يحمل مبررات واهية، بأن هناك إمكانيات شبابية مجانية يُساء استغلالها، والاستمرار في هذا النهج قد يدفعهم إلى التحول من قوة بناء في خدمة التنمية والتقدم والنمو إلى قوة تهدد كل ما يتأسس من تنمية طالما أنها قائمة على الحجر، لا البشر.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أحمد حافظ
كاتب مصري