نساء في ظلال الشعر
17 - سبتمبر - 2023م
صفاء العلي ـ ابتسام الهلال
إبراهيم الزيدي
في حقيقة الأمر نحن نسير في اتجاه الكائن الرقمي، شئنا أم أبينا. وكما أن لهذه الحالة سلبياتها، فلها إيجابياتها أيضا. من تلك الإيجابيات أن التحكم بالإعلام أصبح من الصعوبة بمكان. لقد تحرر الخبر من قبضة الإعلام بصيغته السابقة (التلفزيون والصحافة). وصار يجوب الآفاق دون حسيب أو رقيب، وتلك مشكلة، بل إن فيسبوك منح كل من يريد صفحة تتسع لكل ما يريد قوله، وكذلك فعل الأنستغرام، والتويتر. ولم تعد المعلومة نائمة على صفحات مجلة أو جريدة، ولا هي بين شفتي مذيع، يقولها، فتلتقطها آذان المهتمين بها. وتنسى بانتهاء صلاحيتها. أصبحت موجودة ما وجد الإنترنت. هذا الاختراع العجيب الذي يكاد أن يكون محور فعاليات الإنسان في العصر الحالي، وحاملها الموضوعي.
لقد صار في إمكان أي متابع لهذا العالم الرقمي أن يجد مبتغاه، أيا كان. اللافت للنظر تلك الأصوات التي لم تكن مسموعة قبل وجود مواقع التواصل الاجتماعي، ليس لأنها ضعيفة، الأغلب -على ما أعتقد – لأنها لم تسلك طريق النشر المعروف، والمبني على احتمالات كثيرة، لست بصدد ذكرها الآن. من تلك الأصوات صوت اللواتي يكتبن الشعر في عالمنا العربي، وفي سوريا على وجه الخصوص! ولهذا أسبابه التي يطول شرحها. ومن خلال متابعتي لما ينشر على صفحات فيسبوك، لاحظت قدرة الصوت النسوي على التحليق في فضاء الشعر، تلك القدرة التي توازي قدرات أندادهن من الشعراء، وتفوقهن أحيانا. ها هي الشاعرة محاسن سبع العرب المغرمة بقصيدة النثر تذهب إلى الوزن بجناحي حمامة:
(كُـرمى لِـعَـيـنَـيـكْ
للقلبِ الذي احترقا
آمنتُ بالحب
حين الباب قد طَـرَقَـا
كُـرمى لصوتِـكَ
حينَ اللّـحـنُ مَـوْسَـقَـهُ
حتى حَسِبتُ بأن اللحنَ قَـد دُلِـقَـا
كُـرمى لِـكَـفّـيـكْ
مثل الغيمِ تَـحـمِـلُـني
فيسقُـطُ الغيم من حَولي وقد غَـرِقَـا
كُـرمى لِـخَـدّيـك
قد ثارتْ دِماؤهُما
حتى كأن دَمَ الخدّين قد هُـرِقَـا
كُـرمى لِـثَـغرِكَ
لَـيْـتَ العُمْـرَ يُـمـهِـلُـني
حتى أُرَوِّضَ ثَـغـراً طائشاً نَـزِقَـا
كُـرمى رِضابٌ بُـعَـيْـدَ الحُـبِّ أسْـكَـرَنـي
أشرَكتُ بالبُـعْـدِ حينَ الـرِّيـقُ سَـالَ .. سَـقَى
آمنتُ بالحُـبِّ بَـعدَ الشـِّـركِ
هَـاكَ يَـدي
آمنتُ بالحُبْ
إن يكذِبْ وإن صَـدَقا).
تفتتح قصيدتها بسبب الإيمان، ومن ثم تشرحه لهفة، لهفة. بانسيابية وسلاسة لغة كأنها مفصّلة على «قد» الحب. هذا الربط بين المعاني والصور يتحرك بتسلسل محكم، مما يكفل منطق الاستغراق في اللوحة اللفظية.
الشاعرة صفاء علي محمد تشتغل نصوصها القصيرة على إثارة مخيلة القارئ، وتحفيزها، من خلال المشاهد الشعرية المفخخة بالاحتمالات، مما يذكر بقول شوبنهاور»المهارة أن تصيب هدفا لا يمكن لأحد أن يصيبه، أما العبقرية فهي أن تصيب هدفا لا أحد يراه»:
(كان يمكن أن نرتدي معا/
شتاء آخر.
أنا أشعر بالبرد، وأنت معطف وحيد)
هذا الضرب من الإنشاء يأخذنا إلى عالم بديل، عالم مموه بهدوء فائض.
(أحتاج الكثير من أشرطة الكلام الملون/
ومقصا يقطع النهايات الحزينة
لأغلف قلبي بقصيدة)
إن إظهار ضمير المتكلم هنا، يذهب بالنص إلى وجدان الشاعرة مباشرة، فتتجلى خصوصية التجربة التي تتخطى الرموز المأهولة بالشعراء، لتكون هي. وتملأ بحر لغتها بماء الانزياحات، وأمواج المجاز. فهي تعرف أن لنقطة الماء خصائص كل الماء، لذلك تراها تتوقف حين يكتمل المعنى.
(قطعت يدي/
حتى لا تلوح مجددا
لوداع آخر)
الكاتبة ابتسام الهلال التي تشتغل على القصة يتسرب السرد القصصي إلى قصائدها، وكأنها تنثر حكايتها على ورق الغياب، فهي تعرف أن الشعر أولى من النثر بشوق امرأة داهمها الحنين على حين غرة. وكأنها حين تكتب تقوم بترجمة مقولة لتوماس ترانسترومر»شطآني منخفضة، لو ارتفع الغياب عشرين سنتيمترا لغرقت».
بهذا المساء الماطر)
أعددت وليمة الحنين، كعادتي/
أوقدت نارا…
صنعت حساء ساخنا
مشطت شعري
تزينت
وتعطرت
رتبت كل ما يلزم لحضورك
وحين لم تأت
فتحت باب الذاكرة وهرعت إليك
فوجدتني وحيدة تنتحب
وتشم بقايا عطرك على ملاءات السرير)
أما الشاعرة فاطما خضر، هذا الاسم الذي ينتهي بألف ممدودة، والتي تسم نصوصها بأن لها حافرا، ربما لأنها تلج عتمات معرفية وبصرية وسمعية بتبصر شديد. في نصوصها تجوال في عمق الحياة، لذلك هي تعرف أين هي، وأين الشعراء، وما هي عناصر الاختلاف بينها وبينهم.
(أُحبُّكَ
ولا نية لي في إيذائك
إلا بمقدار برقٍ يشقُّ السّماءَ
قلبين (
هذا موجز النشرة، في المتن يصبح هدم المألوف، والمستنسخ، والمتداول، جزءا من بناء القصيدة. من حيث إن الشعر هو عملية بحث عن الدروب السرية إلى السماء، وليس إلى جمهور المصفقين، لذلك ترى الشعراء الفاشلين في مجموعات، بينما السياب أو محمود درويش أو الجواهري ترى كل منهم وحيدا. ومن شاهق وحدتها يطل يأسها الإيجابي:
(لا بدَّ أنّكَ
تسقي المسافةَ في ما بيننا!
فهيَ كلَّ يومٍ تطولُ
كيفَ لأُنثى أنْ تُقابلَ جَفاءَ رجلٍ
لا ينفعُ معهُ العتابُ؟
بالوردِ؟
– لا
بالقُبلِ؟
– لا
بل حتّى الصّمتُ مُضنٍ
لا تقلق..
في غيابِكَ لا أُعاني الحُمّى
كلُّ ما يلبسُني أعراضُ
يأسٍ إيجابيٍ
خُذْ أصابعي
أضفْها للكأسِ الذي تشربه
متجمدةٌ هي، في
غيابِكَ
خُذْ قلبي
اجعلْ عينيكَ كماداتٍ لهُ
وأطعمْهُ باراسيتامول كلماتِكَ
علَّ حرارته تهدأ
الآن
وأنتَ تُمرِرُ
عينيكَ على كلماتي
لا تظن أنَّكَ تقرأ قصيدةً جديدةً لي
أنا – فقط – أعضُّ على شفتيَّ
شوقا)
تجارب هؤلاء السيدات تقول صراحة، إن الشعر ليس الذي نكتبه، بل الذي يكتبنا، من حيث إن الفن بالمجمل هو الفكرة الجديدة، والإبداع: أسلوب جديد. فالثقافة الفنية هي القدرة على بناء تجاورات متناقضة يحكمها انسجام البناء.
كاتب سوري
17 - سبتمبر - 2023م
صفاء العلي ـ ابتسام الهلال
إبراهيم الزيدي
في حقيقة الأمر نحن نسير في اتجاه الكائن الرقمي، شئنا أم أبينا. وكما أن لهذه الحالة سلبياتها، فلها إيجابياتها أيضا. من تلك الإيجابيات أن التحكم بالإعلام أصبح من الصعوبة بمكان. لقد تحرر الخبر من قبضة الإعلام بصيغته السابقة (التلفزيون والصحافة). وصار يجوب الآفاق دون حسيب أو رقيب، وتلك مشكلة، بل إن فيسبوك منح كل من يريد صفحة تتسع لكل ما يريد قوله، وكذلك فعل الأنستغرام، والتويتر. ولم تعد المعلومة نائمة على صفحات مجلة أو جريدة، ولا هي بين شفتي مذيع، يقولها، فتلتقطها آذان المهتمين بها. وتنسى بانتهاء صلاحيتها. أصبحت موجودة ما وجد الإنترنت. هذا الاختراع العجيب الذي يكاد أن يكون محور فعاليات الإنسان في العصر الحالي، وحاملها الموضوعي.
لقد صار في إمكان أي متابع لهذا العالم الرقمي أن يجد مبتغاه، أيا كان. اللافت للنظر تلك الأصوات التي لم تكن مسموعة قبل وجود مواقع التواصل الاجتماعي، ليس لأنها ضعيفة، الأغلب -على ما أعتقد – لأنها لم تسلك طريق النشر المعروف، والمبني على احتمالات كثيرة، لست بصدد ذكرها الآن. من تلك الأصوات صوت اللواتي يكتبن الشعر في عالمنا العربي، وفي سوريا على وجه الخصوص! ولهذا أسبابه التي يطول شرحها. ومن خلال متابعتي لما ينشر على صفحات فيسبوك، لاحظت قدرة الصوت النسوي على التحليق في فضاء الشعر، تلك القدرة التي توازي قدرات أندادهن من الشعراء، وتفوقهن أحيانا. ها هي الشاعرة محاسن سبع العرب المغرمة بقصيدة النثر تذهب إلى الوزن بجناحي حمامة:
(كُـرمى لِـعَـيـنَـيـكْ
للقلبِ الذي احترقا
آمنتُ بالحب
حين الباب قد طَـرَقَـا
كُـرمى لصوتِـكَ
حينَ اللّـحـنُ مَـوْسَـقَـهُ
حتى حَسِبتُ بأن اللحنَ قَـد دُلِـقَـا
كُـرمى لِـكَـفّـيـكْ
مثل الغيمِ تَـحـمِـلُـني
فيسقُـطُ الغيم من حَولي وقد غَـرِقَـا
كُـرمى لِـخَـدّيـك
قد ثارتْ دِماؤهُما
حتى كأن دَمَ الخدّين قد هُـرِقَـا
كُـرمى لِـثَـغرِكَ
لَـيْـتَ العُمْـرَ يُـمـهِـلُـني
حتى أُرَوِّضَ ثَـغـراً طائشاً نَـزِقَـا
كُـرمى رِضابٌ بُـعَـيْـدَ الحُـبِّ أسْـكَـرَنـي
أشرَكتُ بالبُـعْـدِ حينَ الـرِّيـقُ سَـالَ .. سَـقَى
آمنتُ بالحُـبِّ بَـعدَ الشـِّـركِ
هَـاكَ يَـدي
آمنتُ بالحُبْ
إن يكذِبْ وإن صَـدَقا).
تفتتح قصيدتها بسبب الإيمان، ومن ثم تشرحه لهفة، لهفة. بانسيابية وسلاسة لغة كأنها مفصّلة على «قد» الحب. هذا الربط بين المعاني والصور يتحرك بتسلسل محكم، مما يكفل منطق الاستغراق في اللوحة اللفظية.
الشاعرة صفاء علي محمد تشتغل نصوصها القصيرة على إثارة مخيلة القارئ، وتحفيزها، من خلال المشاهد الشعرية المفخخة بالاحتمالات، مما يذكر بقول شوبنهاور»المهارة أن تصيب هدفا لا يمكن لأحد أن يصيبه، أما العبقرية فهي أن تصيب هدفا لا أحد يراه»:
(كان يمكن أن نرتدي معا/
شتاء آخر.
أنا أشعر بالبرد، وأنت معطف وحيد)
هذا الضرب من الإنشاء يأخذنا إلى عالم بديل، عالم مموه بهدوء فائض.
(أحتاج الكثير من أشرطة الكلام الملون/
ومقصا يقطع النهايات الحزينة
لأغلف قلبي بقصيدة)
إن إظهار ضمير المتكلم هنا، يذهب بالنص إلى وجدان الشاعرة مباشرة، فتتجلى خصوصية التجربة التي تتخطى الرموز المأهولة بالشعراء، لتكون هي. وتملأ بحر لغتها بماء الانزياحات، وأمواج المجاز. فهي تعرف أن لنقطة الماء خصائص كل الماء، لذلك تراها تتوقف حين يكتمل المعنى.
(قطعت يدي/
حتى لا تلوح مجددا
لوداع آخر)
الكاتبة ابتسام الهلال التي تشتغل على القصة يتسرب السرد القصصي إلى قصائدها، وكأنها تنثر حكايتها على ورق الغياب، فهي تعرف أن الشعر أولى من النثر بشوق امرأة داهمها الحنين على حين غرة. وكأنها حين تكتب تقوم بترجمة مقولة لتوماس ترانسترومر»شطآني منخفضة، لو ارتفع الغياب عشرين سنتيمترا لغرقت».
بهذا المساء الماطر)
أعددت وليمة الحنين، كعادتي/
أوقدت نارا…
صنعت حساء ساخنا
مشطت شعري
تزينت
وتعطرت
رتبت كل ما يلزم لحضورك
وحين لم تأت
فتحت باب الذاكرة وهرعت إليك
فوجدتني وحيدة تنتحب
وتشم بقايا عطرك على ملاءات السرير)
أما الشاعرة فاطما خضر، هذا الاسم الذي ينتهي بألف ممدودة، والتي تسم نصوصها بأن لها حافرا، ربما لأنها تلج عتمات معرفية وبصرية وسمعية بتبصر شديد. في نصوصها تجوال في عمق الحياة، لذلك هي تعرف أين هي، وأين الشعراء، وما هي عناصر الاختلاف بينها وبينهم.
(أُحبُّكَ
ولا نية لي في إيذائك
إلا بمقدار برقٍ يشقُّ السّماءَ
قلبين (
هذا موجز النشرة، في المتن يصبح هدم المألوف، والمستنسخ، والمتداول، جزءا من بناء القصيدة. من حيث إن الشعر هو عملية بحث عن الدروب السرية إلى السماء، وليس إلى جمهور المصفقين، لذلك ترى الشعراء الفاشلين في مجموعات، بينما السياب أو محمود درويش أو الجواهري ترى كل منهم وحيدا. ومن شاهق وحدتها يطل يأسها الإيجابي:
(لا بدَّ أنّكَ
تسقي المسافةَ في ما بيننا!
فهيَ كلَّ يومٍ تطولُ
كيفَ لأُنثى أنْ تُقابلَ جَفاءَ رجلٍ
لا ينفعُ معهُ العتابُ؟
بالوردِ؟
– لا
بالقُبلِ؟
– لا
بل حتّى الصّمتُ مُضنٍ
لا تقلق..
في غيابِكَ لا أُعاني الحُمّى
كلُّ ما يلبسُني أعراضُ
يأسٍ إيجابيٍ
خُذْ أصابعي
أضفْها للكأسِ الذي تشربه
متجمدةٌ هي، في
غيابِكَ
خُذْ قلبي
اجعلْ عينيكَ كماداتٍ لهُ
وأطعمْهُ باراسيتامول كلماتِكَ
علَّ حرارته تهدأ
الآن
وأنتَ تُمرِرُ
عينيكَ على كلماتي
لا تظن أنَّكَ تقرأ قصيدةً جديدةً لي
أنا – فقط – أعضُّ على شفتيَّ
شوقا)
تجارب هؤلاء السيدات تقول صراحة، إن الشعر ليس الذي نكتبه، بل الذي يكتبنا، من حيث إن الفن بالمجمل هو الفكرة الجديدة، والإبداع: أسلوب جديد. فالثقافة الفنية هي القدرة على بناء تجاورات متناقضة يحكمها انسجام البناء.
كاتب سوري