منال السيد لـ"العرب": كل عالم المرأة الحقيقي غير مرئي
كاتبة مصرية تكشف صمت السنوات المرعب بعد سن الأربعين.
الاثنين 2024/09/16
ShareWhatsAppTwitterFacebook
لا توجد روح تشبه الأخرى
تأخذ الكاتبة والفنانة التشكيلية المصرية منال السيد وقتها في تأليف أعمالها التي لا تتسرع في بنائها وحبك تفاصيلها لتخرج بدقة وتماسك، وتقدم ما تريد قوله في عوالم فنية مميزة لقرائها، إذ لا تستسهل الكتابة ولا تتسرع فيها. في هذا الحوار مع "العرب" نتعرف على رؤية السيد لحضور المرأة في أعمالها وخاصة عملها الأخير "بنات الملح"، وكذلك رؤاها وأفكارها بشأن الإبداع والثقافة في مصر.
تحتفي الروائية والفنانة التشكيلية منال السيد في أعمالها بالمرأة التي تعيش على مقربة منها وحولها، هذه المرأة الشابة والزوجة والجدة، العاملة وغير العاملة، ترقبها وترصد حركاتها وسلوكها وعلاقاتها وتقرأ وتحلل ذاتها وما تعانيه من إشكاليات داخلية وخارجية في الواقع الاجتماعي المتخم بالتناقضات والأزمات، وتكتب بلغة سردية شفافة ومفعمة بالتوهج الفني والجمالي في إطار تقنية تعتمد بنية زمنية مطردة متصاعدة.
وقد تجلى ذلك في مجموعاتها القصصية “الذي فوق”، “أحلى البنات تقريبًا”، “درقة البلاد” ورواية “غنا المجاذيب” وأخيرا رواية “بنات الملح” التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
ما بين روايتين
◙ منال السيد تحتفي في أعمالها بالمرأة التي تعيش على مقربة منها وحولها
“بنات الملح” تبدأ بالحديث عن مجموعة من الفتيات تكون الساردة الرئيسة واحدة من بينهن، وتستمر مع تطور أحداث حياتهن المتقلبة وصولا إلى نهاية المرحلة الجامعية والزواج، الأمر الذي قد يدفعنا إلى وصف الرواية بأنها رواية شخصيات، حيث تمثل الشخصية السردية محورا أساسيا يفوق بنيتي الزمان والمكان.
تقول منال السيد “بعد أن انتهيت من عالم رواية ‘غنا المجازيب‘ حيث نشرت عام 2010 من الدار المصرية اللبنانية. الحقيقة أنها كانت عملا مجهدا بالنسبة إليّ على المستوى النفسي والإبداعي، حتى أنني لم أستطع تجاوز عالمها بسهولة. وكان عليّ التفكير فيما سوف يليها. كنت بالفعل كامرأة قد مررت بالكثير من الصور غير القابلة للتجاوز، الكثير من الملاحظات على نفسي وقريناتي وعلى العالم. كانت لدي رغبة في الاقتراب والتدوين أكثر. ولاحظت أن الاقتراب ينبئ عن اكتشافات يراها البعض عادية وأراها مذهلة ومؤلمة أيضا. في ‘غنا المجازيب‘ كان العالم ملحميا مليئا بالشخوص والأماكن والمشاعر العنيفة، كان هناك وجود للمكان وللتباينات العنيفة للحكايات. الحقيقة أنها كانت تجربة صاخبة، فكنت بحاجة للصمت وفي الصمت نبتت حكايات ‘بنات الملح‘”.
وتضيف “حكايات ‘بنات الملح‘ نبتت ببطء تحت الجلد؛ الحكايات غير المعلنة، الأطياف والأشباح الخافتة داخل جلد الفتيات، القصص المختبئة في الابتسامات، العالم الذي كنت أكتشفه ‘خطوة تلو الأخرى‘، وعلى مدار أكثر من عشر سنوات هي عمر تحضير الرواية. يبدو الأمر مضحكا أو هزليا أن أحتاج كل هذا الوقت. لكنني كنت بحاجة لذلك، ولم يكن يعنيني كم يستغرق من الوقت”.
وتتابع “كنت أتبع تقييمي الذاتي لنفسي أكثر من أي شيء. كان هناك تحد هائل من كم الإصدارات السابقة، والتي توقفت عند ذات العالم، وكان عليّ أن أغمض عيني تماما، وأعود لذاتي ومشاهدي فقط، أنا أوقن أن كل ذات هي كون فريد وقائم بمفرده، كل ذات ترى الضوء من نوافذها الخاصة، لا توجد روح تشبه الأخرى، ولا توجد امرأة تشبه أخرى. الكتابة عن المرأة تحتمل ملايين المحاولات لأنها كائن يمتلئ بالحكايات والمشاعر المتباينة؛ الرهيفة والساذجة والصادقة والوضيعة أحيانا والهامة دائما. تستطيع أن تضع كل ما تتخيل من وصف. يمكنني القول على مسئوليتي إن المرأة هي حزمة مشاعر الكون واكتب في هذا ما تشاء”.
وإجابة عن سؤال لماذا بنات الملح؟ ترى السيد أن الملح في الرواية هو كل ما هو احتياج، كل ما هو فقد، كل ما هو رغبة في الحياة والخصب والإشباع، وكل ما هو عطش وتصحر ووحدة. وتقول “البنات في روايتي يمررن على الآبار ويعدن بعقود من الملح، يطوقن ببعضها أعناقهن ويستخدمن بعضها أساور لأيديهن. هن صامتات؛ الصمت الأسطوري للأنثى رغم ثرثرتها أحيانا. لكن الحقيقي، صمت الألم الداخلي، هي لا تقوله فتملأ الدنيا بالضجيج، لكن الحقيقة أن الحلي الملحية المحيطة بعنقها ويديها هي الحلي الحقيقية حتى وإن كنت لا تراها. فكما اتفقنا كل عالم المرأة الحقيقي غير مرئي”.
وتكشف أنه في “غنا المجازيب” كانت الراوية طفلة ترى العلم وتحاول تجميع صورته أمام عينيها الصغيرتين، طفلة في سنواتها الأولى، تتفتح على كون لا تفهمه، ترسمه ولا تفهمه، تحكي عنه ولا تفهمه، تحكي دون أن تعي نفسها أو حتى تكون لها حكاية ما. وفي “بنات الملح” لا وجود للراوية الوحيدة بل هن راويات متعددات، لكل منهن منظورها للرواية، ولا توجد راوية أساسية ولا يوجد انحياز لإحداهن، وعلى الرغم من تعارض الروايات إلا أنك تتفهمها جميعا. ربما جميعهن صادقات، ربما يكذبن أمامك على الورق، ربما تؤلم إحداهن الأخرى، لكن ما يربطهن جميعا أنهن جميعا مفتتات من ألم الفقد، سواء اخترنه أو فرض عليهن. والمرحلة العمرية هنا هي ذلك القوس المرعب في سرعة دورانه ما بين سنوات الجامعة بصخبها ورونقها وأحلامها وجنونها وصمت السنوات المرعب بعد سن الأربعين.
الفن والكتابة
◙ الفن التشكيلي موجود وحاضر في كل كتابات السيد
تكشف السيد أن دراسة الفن التشكيلي وممارسته كرسامة أو كمدربة حاليا على تعليم الرسم للهواة كان لهما أثر على تشكيلات “بنات الملح” بدءا من شخصيات الرواية، وهن فتيات درسن في كلية فنية، لكن الحقيقة لم يكن لذلك خط عميق في الرواية، لأنها انشغلت أكثر بكونهن فتيات، بشكل خام مجرد، ربما كان من بينهن من كانت تعنيها كونها فنانة تشكيلية وهي شخصية ريم. لكن ذلك لم يكن ميسرا نظرا إلى أزمة الفتاة الواضحة والمتمثلة في تسلط الأم الذي وصل لمرحلة السحق، مرورا بشخصية الفتاة التي تشكل تكرار الشخصية الأم من جديد، وإن كان بشكل أكثر تشويها.
وتضيف “الفن التشكيلي موجود في هذا الرواية كما هو موجود في كل كتاباتي، فقد تعلمت كيف أرسم صورة حقيقية في قسم التصوير الزيتي الذي شرفت بالدراسة به بكلية الفنون الجميلة، ومن ثم تعلمت أيضا كيف أرسمها كتابة ومتى أرفع يدي بالكتابة عن الصورة كي لا تفسد”.
وتتابع الكاتبة “كما أنني أثناء عملي بالتدريب على التصوير الزيتي بإحدى الجامعات المصرية تقدمت لي إحدى المتدربات بـ ‘اسكتش‘ بسيط لمجموعة من الفتيات منكسرات الرؤوس بشكل لفت نظري بشدة. تحمست للفكرة جدا، وجلسنا سويا جلسات مطولة امتدت لأكثر من ستة أشهر حتى خرجت لوحة أحببتها جدا، وأثناء العمل عليها أخبرت الفتاة المتدربة أنني أحب هذه اللوحة، وأتمنى أن تكون لوحة الغلاف لروايتي القادمة، ابتسمت الفنانة الصغيرة بخجل، وأنا أيضا دهشت من الفكرة لأنني لم أكن قد تعاقدت بعد على نشر الرواية مع دار أو مؤسسة نشر ما، لكني كنت قد عزمت على الأمر وتمنيت حدوثه، وبالفعل بعد الانتهاء من اللوحة بشهور تم الاتصال بي من قبل المسؤولين عن النشر في سلسلة أصوات أدبية من أجل دعوتي لإرسال الروية لنشرها، فكان أن نشرت بغلاف حمل لوحة إحدى المتدربات لديَّ وهي الفنانة الجميلة هند ناجي” .
◙ دراسة الفن التشكيلي وممارسته كرسامة أو كمدربة على تعليم الرسم للهواة كان لهما أثر على الكاتبة
وتؤكد السيد “اتكائي على عالم المرأة المهمش من المؤكد أنه نابع من انتمائي لذات العالم، لكنني دائما أردد أن للألم وجوها عدة وليس مرتبطا بنوع أو جنس أو فئة بعينها، وإنما قدرة هذه الذات على الاحتمال. نحن نندهش من احتمال بعض النساء للألم، من قدرة المرأة المذهلة على إعادة تصنيع الحالة. ومع ذلك فإن التهميش في مجتمعاتنا لم يعد مرتبطا بجنس قدر ارتباطه بموقعك من العالم، ووجودك في طابور الطبقات في المجتمع سواء كنت رجلا او امرأة”.
وترى أنه لا بأس بالطبع إن كتبت كاتبة ما عن المرأة، ولا تعرف مدى اختلافها عن باقي الكاتبات إلا إن كانت تحاول أن تخرج من حكايتها الشخصية. أحيانا تنجح، وأحيانا تحاول، متابعة “ربما أفكر بشكل دائري طول الوقت. في ‘غنا المجازيب‘ هناك أكثر من ثلاثين شخصية مختلفة ليست جميعها من النساء. لكن في ‘بنات الملح‘ حاولت الاقتراب أكثر، لكن ليس من حكايتي الشخصية، ربما دوائر أخرى وإن كان في هذه المرة لأربع نساء فقط”.
وتلفت السيد إلى أن الحركة الفنية المصرية مليئة بالعديد من المبدعات المقاتلات، وهي تسميهن هكذا، فمن تستطيع أن تنتج فنا وسط هذه الكومة من التناقضات والصعوبات التي يواجهها الإنسان أولا والمرأة بشكل أخص، هي مبدعة مقاتلة. وتقول “لدينا جيل متماسك من الكاتبات والتشكيليات يقدمن لمسيرة الإبداع كل يوم أشواطا جديدة من الإضافات الفنية. الحقيقة أنا سعيدة بهن جميعا، وإن كانت السنوات القادمة هي التي سوف تقول الكلمة النهائية في الحكم عليهن جميعا، حيث اكتمال البناء لكل تجربة وخروج شكلها النهائي الذي يمكن أن نعتبره إضافة حقيقية للمكتبة العربية وللإبداع العربي عموما”.
وتختم السيد بأن المشهد الثقافي الآن للأسف غير مرض. والمشكلة ليست بسيطة فيمكن حلها بإجراء أو اثنين. نحن نتكلم عن عصر ـ للأسف ـ في طريقه لهجر الإبداع الورقي. وبالتبعية صار الإبداع الحقيقي تائها في ممرات الإبداع السريع وثقافة البوست. وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تغري البعض أحيانا بسرعة النشر بغض النظر عن مدى رضا المبدع عن جودة وأصالة عمله.
وتضيف “هناك ثقافة لهذه الإصدارات حتى وإن كانت لا تحوي أي إضافة للمبدع.. لا أعرف كيفية السيطرة على الأمر أو كيفية علاجه. فقط أحاول صم أذني عن كل هذا الضجيج. أدير عالمي بالطريقة التي أعرفها. أحاول بناء عالم لاسمي ومسيرتي. عالم لا أخجل حين أتفحصه؛ الخجل هنا من المستوى الفني للمنتج الذي أحاول تقديمه. أما ما يحدث في المشهد الثقافي فلو حاولت مجاراته فلن أكون أنا، ولا أريد ذلك بالطبع”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
كاتبة مصرية تكشف صمت السنوات المرعب بعد سن الأربعين.
الاثنين 2024/09/16
ShareWhatsAppTwitterFacebook
لا توجد روح تشبه الأخرى
تأخذ الكاتبة والفنانة التشكيلية المصرية منال السيد وقتها في تأليف أعمالها التي لا تتسرع في بنائها وحبك تفاصيلها لتخرج بدقة وتماسك، وتقدم ما تريد قوله في عوالم فنية مميزة لقرائها، إذ لا تستسهل الكتابة ولا تتسرع فيها. في هذا الحوار مع "العرب" نتعرف على رؤية السيد لحضور المرأة في أعمالها وخاصة عملها الأخير "بنات الملح"، وكذلك رؤاها وأفكارها بشأن الإبداع والثقافة في مصر.
تحتفي الروائية والفنانة التشكيلية منال السيد في أعمالها بالمرأة التي تعيش على مقربة منها وحولها، هذه المرأة الشابة والزوجة والجدة، العاملة وغير العاملة، ترقبها وترصد حركاتها وسلوكها وعلاقاتها وتقرأ وتحلل ذاتها وما تعانيه من إشكاليات داخلية وخارجية في الواقع الاجتماعي المتخم بالتناقضات والأزمات، وتكتب بلغة سردية شفافة ومفعمة بالتوهج الفني والجمالي في إطار تقنية تعتمد بنية زمنية مطردة متصاعدة.
وقد تجلى ذلك في مجموعاتها القصصية “الذي فوق”، “أحلى البنات تقريبًا”، “درقة البلاد” ورواية “غنا المجاذيب” وأخيرا رواية “بنات الملح” التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
ما بين روايتين
◙ منال السيد تحتفي في أعمالها بالمرأة التي تعيش على مقربة منها وحولها
“بنات الملح” تبدأ بالحديث عن مجموعة من الفتيات تكون الساردة الرئيسة واحدة من بينهن، وتستمر مع تطور أحداث حياتهن المتقلبة وصولا إلى نهاية المرحلة الجامعية والزواج، الأمر الذي قد يدفعنا إلى وصف الرواية بأنها رواية شخصيات، حيث تمثل الشخصية السردية محورا أساسيا يفوق بنيتي الزمان والمكان.
تقول منال السيد “بعد أن انتهيت من عالم رواية ‘غنا المجازيب‘ حيث نشرت عام 2010 من الدار المصرية اللبنانية. الحقيقة أنها كانت عملا مجهدا بالنسبة إليّ على المستوى النفسي والإبداعي، حتى أنني لم أستطع تجاوز عالمها بسهولة. وكان عليّ التفكير فيما سوف يليها. كنت بالفعل كامرأة قد مررت بالكثير من الصور غير القابلة للتجاوز، الكثير من الملاحظات على نفسي وقريناتي وعلى العالم. كانت لدي رغبة في الاقتراب والتدوين أكثر. ولاحظت أن الاقتراب ينبئ عن اكتشافات يراها البعض عادية وأراها مذهلة ومؤلمة أيضا. في ‘غنا المجازيب‘ كان العالم ملحميا مليئا بالشخوص والأماكن والمشاعر العنيفة، كان هناك وجود للمكان وللتباينات العنيفة للحكايات. الحقيقة أنها كانت تجربة صاخبة، فكنت بحاجة للصمت وفي الصمت نبتت حكايات ‘بنات الملح‘”.
وتضيف “حكايات ‘بنات الملح‘ نبتت ببطء تحت الجلد؛ الحكايات غير المعلنة، الأطياف والأشباح الخافتة داخل جلد الفتيات، القصص المختبئة في الابتسامات، العالم الذي كنت أكتشفه ‘خطوة تلو الأخرى‘، وعلى مدار أكثر من عشر سنوات هي عمر تحضير الرواية. يبدو الأمر مضحكا أو هزليا أن أحتاج كل هذا الوقت. لكنني كنت بحاجة لذلك، ولم يكن يعنيني كم يستغرق من الوقت”.
وتتابع “كنت أتبع تقييمي الذاتي لنفسي أكثر من أي شيء. كان هناك تحد هائل من كم الإصدارات السابقة، والتي توقفت عند ذات العالم، وكان عليّ أن أغمض عيني تماما، وأعود لذاتي ومشاهدي فقط، أنا أوقن أن كل ذات هي كون فريد وقائم بمفرده، كل ذات ترى الضوء من نوافذها الخاصة، لا توجد روح تشبه الأخرى، ولا توجد امرأة تشبه أخرى. الكتابة عن المرأة تحتمل ملايين المحاولات لأنها كائن يمتلئ بالحكايات والمشاعر المتباينة؛ الرهيفة والساذجة والصادقة والوضيعة أحيانا والهامة دائما. تستطيع أن تضع كل ما تتخيل من وصف. يمكنني القول على مسئوليتي إن المرأة هي حزمة مشاعر الكون واكتب في هذا ما تشاء”.
وإجابة عن سؤال لماذا بنات الملح؟ ترى السيد أن الملح في الرواية هو كل ما هو احتياج، كل ما هو فقد، كل ما هو رغبة في الحياة والخصب والإشباع، وكل ما هو عطش وتصحر ووحدة. وتقول “البنات في روايتي يمررن على الآبار ويعدن بعقود من الملح، يطوقن ببعضها أعناقهن ويستخدمن بعضها أساور لأيديهن. هن صامتات؛ الصمت الأسطوري للأنثى رغم ثرثرتها أحيانا. لكن الحقيقي، صمت الألم الداخلي، هي لا تقوله فتملأ الدنيا بالضجيج، لكن الحقيقة أن الحلي الملحية المحيطة بعنقها ويديها هي الحلي الحقيقية حتى وإن كنت لا تراها. فكما اتفقنا كل عالم المرأة الحقيقي غير مرئي”.
وتكشف أنه في “غنا المجازيب” كانت الراوية طفلة ترى العلم وتحاول تجميع صورته أمام عينيها الصغيرتين، طفلة في سنواتها الأولى، تتفتح على كون لا تفهمه، ترسمه ولا تفهمه، تحكي عنه ولا تفهمه، تحكي دون أن تعي نفسها أو حتى تكون لها حكاية ما. وفي “بنات الملح” لا وجود للراوية الوحيدة بل هن راويات متعددات، لكل منهن منظورها للرواية، ولا توجد راوية أساسية ولا يوجد انحياز لإحداهن، وعلى الرغم من تعارض الروايات إلا أنك تتفهمها جميعا. ربما جميعهن صادقات، ربما يكذبن أمامك على الورق، ربما تؤلم إحداهن الأخرى، لكن ما يربطهن جميعا أنهن جميعا مفتتات من ألم الفقد، سواء اخترنه أو فرض عليهن. والمرحلة العمرية هنا هي ذلك القوس المرعب في سرعة دورانه ما بين سنوات الجامعة بصخبها ورونقها وأحلامها وجنونها وصمت السنوات المرعب بعد سن الأربعين.
الفن والكتابة
◙ الفن التشكيلي موجود وحاضر في كل كتابات السيد
تكشف السيد أن دراسة الفن التشكيلي وممارسته كرسامة أو كمدربة حاليا على تعليم الرسم للهواة كان لهما أثر على تشكيلات “بنات الملح” بدءا من شخصيات الرواية، وهن فتيات درسن في كلية فنية، لكن الحقيقة لم يكن لذلك خط عميق في الرواية، لأنها انشغلت أكثر بكونهن فتيات، بشكل خام مجرد، ربما كان من بينهن من كانت تعنيها كونها فنانة تشكيلية وهي شخصية ريم. لكن ذلك لم يكن ميسرا نظرا إلى أزمة الفتاة الواضحة والمتمثلة في تسلط الأم الذي وصل لمرحلة السحق، مرورا بشخصية الفتاة التي تشكل تكرار الشخصية الأم من جديد، وإن كان بشكل أكثر تشويها.
وتضيف “الفن التشكيلي موجود في هذا الرواية كما هو موجود في كل كتاباتي، فقد تعلمت كيف أرسم صورة حقيقية في قسم التصوير الزيتي الذي شرفت بالدراسة به بكلية الفنون الجميلة، ومن ثم تعلمت أيضا كيف أرسمها كتابة ومتى أرفع يدي بالكتابة عن الصورة كي لا تفسد”.
وتتابع الكاتبة “كما أنني أثناء عملي بالتدريب على التصوير الزيتي بإحدى الجامعات المصرية تقدمت لي إحدى المتدربات بـ ‘اسكتش‘ بسيط لمجموعة من الفتيات منكسرات الرؤوس بشكل لفت نظري بشدة. تحمست للفكرة جدا، وجلسنا سويا جلسات مطولة امتدت لأكثر من ستة أشهر حتى خرجت لوحة أحببتها جدا، وأثناء العمل عليها أخبرت الفتاة المتدربة أنني أحب هذه اللوحة، وأتمنى أن تكون لوحة الغلاف لروايتي القادمة، ابتسمت الفنانة الصغيرة بخجل، وأنا أيضا دهشت من الفكرة لأنني لم أكن قد تعاقدت بعد على نشر الرواية مع دار أو مؤسسة نشر ما، لكني كنت قد عزمت على الأمر وتمنيت حدوثه، وبالفعل بعد الانتهاء من اللوحة بشهور تم الاتصال بي من قبل المسؤولين عن النشر في سلسلة أصوات أدبية من أجل دعوتي لإرسال الروية لنشرها، فكان أن نشرت بغلاف حمل لوحة إحدى المتدربات لديَّ وهي الفنانة الجميلة هند ناجي” .
◙ دراسة الفن التشكيلي وممارسته كرسامة أو كمدربة على تعليم الرسم للهواة كان لهما أثر على الكاتبة
وتؤكد السيد “اتكائي على عالم المرأة المهمش من المؤكد أنه نابع من انتمائي لذات العالم، لكنني دائما أردد أن للألم وجوها عدة وليس مرتبطا بنوع أو جنس أو فئة بعينها، وإنما قدرة هذه الذات على الاحتمال. نحن نندهش من احتمال بعض النساء للألم، من قدرة المرأة المذهلة على إعادة تصنيع الحالة. ومع ذلك فإن التهميش في مجتمعاتنا لم يعد مرتبطا بجنس قدر ارتباطه بموقعك من العالم، ووجودك في طابور الطبقات في المجتمع سواء كنت رجلا او امرأة”.
وترى أنه لا بأس بالطبع إن كتبت كاتبة ما عن المرأة، ولا تعرف مدى اختلافها عن باقي الكاتبات إلا إن كانت تحاول أن تخرج من حكايتها الشخصية. أحيانا تنجح، وأحيانا تحاول، متابعة “ربما أفكر بشكل دائري طول الوقت. في ‘غنا المجازيب‘ هناك أكثر من ثلاثين شخصية مختلفة ليست جميعها من النساء. لكن في ‘بنات الملح‘ حاولت الاقتراب أكثر، لكن ليس من حكايتي الشخصية، ربما دوائر أخرى وإن كان في هذه المرة لأربع نساء فقط”.
وتلفت السيد إلى أن الحركة الفنية المصرية مليئة بالعديد من المبدعات المقاتلات، وهي تسميهن هكذا، فمن تستطيع أن تنتج فنا وسط هذه الكومة من التناقضات والصعوبات التي يواجهها الإنسان أولا والمرأة بشكل أخص، هي مبدعة مقاتلة. وتقول “لدينا جيل متماسك من الكاتبات والتشكيليات يقدمن لمسيرة الإبداع كل يوم أشواطا جديدة من الإضافات الفنية. الحقيقة أنا سعيدة بهن جميعا، وإن كانت السنوات القادمة هي التي سوف تقول الكلمة النهائية في الحكم عليهن جميعا، حيث اكتمال البناء لكل تجربة وخروج شكلها النهائي الذي يمكن أن نعتبره إضافة حقيقية للمكتبة العربية وللإبداع العربي عموما”.
وتختم السيد بأن المشهد الثقافي الآن للأسف غير مرض. والمشكلة ليست بسيطة فيمكن حلها بإجراء أو اثنين. نحن نتكلم عن عصر ـ للأسف ـ في طريقه لهجر الإبداع الورقي. وبالتبعية صار الإبداع الحقيقي تائها في ممرات الإبداع السريع وثقافة البوست. وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تغري البعض أحيانا بسرعة النشر بغض النظر عن مدى رضا المبدع عن جودة وأصالة عمله.
وتضيف “هناك ثقافة لهذه الإصدارات حتى وإن كانت لا تحوي أي إضافة للمبدع.. لا أعرف كيفية السيطرة على الأمر أو كيفية علاجه. فقط أحاول صم أذني عن كل هذا الضجيج. أدير عالمي بالطريقة التي أعرفها. أحاول بناء عالم لاسمي ومسيرتي. عالم لا أخجل حين أتفحصه؛ الخجل هنا من المستوى الفني للمنتج الذي أحاول تقديمه. أما ما يحدث في المشهد الثقافي فلو حاولت مجاراته فلن أكون أنا، ولا أريد ذلك بالطبع”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري