.
السينما النفسية عند إنغمار بيرغمان : عندما يمتزج الحلم بالواقع
يعتبر بيرغمان من المخرجين القلائل والنادرين ربما الذين مزجوا سيرة حياتهم الشخصية مع قصص أفلامهم، فالكثير من أفلامه تتقاطع مع ذكريات طفولته، وكوابيسه، والتي تشكل في بعض مشاهدها لوحات فنية صامتة بعيدة عن موسيقى صخب الأحداث. يذكر بيرغمان في كتاب سيرته الذاتية "المصباح السحري" أنه كان باستطاعته أن يختبر عالم الأمس وكأنه يحياه الآن، فقد كان عالماً مغموراً بالروائح والأضواء والأصوات، وهو بوسعه أن يطوف عوالم طفولته ويشعر بكل شيء. يقول بيرغمان: "عندما أكون هادئاً أستطيع أن أمضي من غرفة لأخرى، فأعرف وأشعر بكل شيء، الروائح، والغرف، واللحظات، والتلميحات والهمسات.. هذه الذكريات التي تشبه كثيراً فيلماً سينمائياً تم تصويره بشكل عشوائي، فكل ما يدور حولي أشبه بأجزاء فيلم، مركبة بطريقة غير ثابتة توحي بالغموض وأحياناً بالحزن. لقد عشت على ذاكرة الأحاسيس، وعرفت كيف أعيد خلقها".
- "التوت البري" 1957.
ولعل هذا التوصيف في سيرة بيرغمان الذاتية يأخذنا إلى جانب من طفولته يشبه إلى حد كبير مشهد العجوز في فيلم التوت البري الذي أنتج في عام 1957.
فإسحق بورج العجوز، هو طبيب واستشاري متقاعد هجر المجتمع والعلاقات الاجتماعية، بسبب الثرثرة، والتفاهة، والأحكام العقلية المسبقة عند البشر، لكنه يحاول أن يجد معنى لحياته، من خلال استرجاعه لحياته الماضية، بل إن تلك الحياة تصبح مكثفة في لحظات من الذاكرة، وفي بعض الأحلام التي تداهمه. وعندما يسافر بسيارته مع ابنة أخيه من ستوكهولم إلى لوند، ليحصل على شهادة فخرية من جامعة لوند يصادف في طريقه شابين وفتاة، فيصطحبهما معه، يذكره الشابان والفتاة من خلال طريقة كلامهم وحركاتهم وأفكارهم بشبابه وبأحداث ماضية عاشها في قصر العائلة القديم، وكأن هؤلاء الشباب صور باهتة انسلخت من الماضي الأصل لتحيي حاضر الرجل العجوز بقيم ومعانٍ جديدة، وبحياة يصبح فيها الوجود مضاعفاً ومزدوجاً. أما الأماكن التي يزورها إسحق بورج، والتي يسترجع فيها ذكرياته قبل عشرات السنين، تظهر لنا من خلال مشاهد الفيلم أن للمكان روحاً وحركة مستمرة داخل الأبعاد الزمنية، فنرى الدكتور إسحق يحيا ذكرياته الطفولية وهو عجوز وكأنه قد سافر عبر الزمن، وفي مشاهد أخرى نراه يطل على أحداث ماضية كانت غائبة عنه ولم يحياها، وهذا ما يبين لنا كيف أن الوجود يرتبط بالذاكرة وما تحتفظ به من لحظات وأحداث، أما الذي يغيب ويتلاشى من الذاكرة؛ فيكتسب صفة العدم، وكأنه لم يحدث أصلاً.
-"سوناتا الخريف" 1978.
هناك فكرة سيكولوجية فلسفية ما انفكت تتردد كثيراً عند بيرغمان، والتي نستطيع تتبع أثرها في الكثير من أفلامه، وهي الثغرة النفسية أو النقص الذي يرافق الإنسان طوال حياته، وهذه الثغرة ترتبط بالعدم، والغياب، والذنب، والرغبات غير المكتملة. فالذنب والمغفرة لهما حضور واضح عند بيرغمان وتحديداً في فيلمه سوناتا الخريف.
إن إيفا ابنة عازفة البيانو الشهيرة شارلوت في فيلم "سوناتا الخريف" تعيش حياتها بأحاسيس متبلدة وبلا اهتمام مع شعور دائم يرافقها بالنقص، لذا نراها تحاول أن تقوم بواجباتها على أتم وجه. وهذا الشعور يمتد عميقا ًإلى طفولتها وعلاقاتها بأمها شارلوت الأنانية وغير المبالية، فمنذ طفولة إيفا ووعيها المبكر بأنوثتها تبدأ معاناتها مع عيوبها الخلقية في جسدها مثل انحراف ساقيها وظهرها المقوس، وفي الوقت الذي تحتاج فيه إلى اهتمام ورعاية واحتواء من الأهل، كانت الأم تريد من ابنتها أن تكون نسخة عنها في كل شيء، في الكلام، وفي الملبس، وفي عزف البيانو، وفي غيرها من الأمور، فيرافق إيفا خوف دائم من أن لا تخطئ أمام أمها، وأن لا تبدو غبية وبلهاء، لذلك ظلت إيفا تعيش طوال حياتها ممسوحة الشخصية، بلا آراء وأفكار، وحتى مشاعر أيضاً.
إيفا المتزوجة الآن من شخص لا تحبه تستقبل أمها بعد فراق دام أكثر من سبع سنوات، وفي بادئ الأمر يكون كل شيئ على ما يرام، وتبدي الابنة محبة وعطفاً وتظاهراً بالاشتياق لأمها، وتجري الأمور بشكل روتيني في المنزل، إلى الليلة التي يداهم فيها شارلوت كابوس ويوقظها في منتصف الليل مذعورة، في تلك الأثناء أيضاً تكون إيفا مستيقظة، لتبدأ بعدها سلسلة من الأحاديث تكتمل فيها الحبكة الدرامية، وتنفرج عن مكاشفات نفسية عنيفة، وعن أحداث مؤلمة حصلت في الماضي. إن هذه المكاشفة النفسية في فيلم سوناتا الخريف ستأخذنا إلى مفهومين مهمين تخلقه الثغرة النفسية عند الإنسان وهما الجرح والذنب.
فالشعور بالذنب ليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بالعار أو الندم بعد الخطيئة. الشعور بالذنب موجود ومرافق لكل إنسان طوال حياته وبنسب ودرجات متفاوتة. إنه الثغرة التي نحاول ردمها في مسيرة حياتنا، ذلك الفراغ الذي لن يشبعه أي امتلاء في الحاضر، العدم الذي يهندس طريقة تفكيرنا، وشكل عاطفتنا، وردات فعلنا الشعورية تجاه الأشياء والأحداث.
نبقى طوال حياتنا مقيدين بالجرح أو الذنب حتى تأتي اللحظة المناسبة بتكرار الموقف مع نفس الشخص عن طريق البوح الجريح من الأعماق. يشفى الجرح عندما نعيد فتحه أكثر بسكاكين الماضي مع الشخص ذاته، وهكذا يخرج من أعماق اللاوعي إلى الوعي، أما الذنب- وقد يكون خطايا صغيرة، لامبالاة، أو عدم معرفة لقيمة الآخرين إلا بعد غيابهم- فإنه يصبح طريقنا إلى الحرية بعد التماس المغفرة من الآخر، شيئ شبيه بالصلاة والتوبة وتطهير النفس، وهذا يتطلب حساسية مرهفة وتذكراً مستمراً للألم. تقول شارلوت الأم في سوناتا الخريف:.." الإحساس الحقيقي مسألة موهبة، وأكثر الناس يفتقرون إلى تلك الموهبة."
- الحلم ..وسينما اللامعقول
لم تنفصل حياة بيرغمان عن معاصريه ومعاناتهم بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان العالم يتهاوى، والحياة تنسلخ عن أسمى معانيها، وتكشف رويدا رويداً عن الرعب واللاجدوى أمام الإنسان. عانى بيرغمان كغيره من أدباء وفناني ما بعد الحداثة من نوبات اكتئاب وقلق عام رافقته تشنجات معوية وأعراض جسدية أخرى. وقد توصل إلى أن العالم لا يمكن فهمه فهماً منطقياً وعقلانياً، ومن هنا نستطيع أن نرى الكثير من أفلام بيرغمان يسودها التناقض والأحداث اللامعقولة، لذا فلم يهتم كثيراً باللغة أو بالسيناريو المكتوب، وكأنه أراد بذلك أن يؤسس لسينما اللامعقول؛ ففي العديد من أفلامه نلاحظ أن أثر الحبكة خفيف، وأحياناً لا وجود له، واللغة مفككة ضبابية وقد فقدت صلتها وروابطها بالواقع الحسي. أما البناء الدرامي للحدث لا يتطور زمنيا ً ولا يتمثل بشكل أفقي ومرئي للشخصية، بل إن التطور يحصل في عملية بناء الأفكار وصراعها ونموها، وما ترافق هذه الأفكار من كتلة عواطف تشكل الموقف الوجودي الأعمق عند الإنسان.
لقد جسد بيرغمان الكثير من خيالاته، وأحلامه، وهواجس طفولته في عدد من أفلامه، وحاول أن يبقيها في منطقة الحلم المحض، ولعل هذا نراه واضحاً في فيلم ساعة الذئب الذي أنتج في عام 1968. في أحد المشاهد وعلى لسان يوهان يذكر بيرغمان جانباً من العقاب الذي كان يلقاه في طفولته، وما يعانيه من رعب ومخاوف وصراخ عندما كان يحبس في خزانة مظلمة صغيرة، فيخبروه أهله أن هناك كائناً صغيراً سيأتي ليقضم أقدام الأطفال المسيئين عقاباً لهم على عصيانهم. إن الأجواء التي يحياها الرسام يوهان في القلعة تشبه إلى حد كبير أجواء كافكا الكابوسية، وقصص الرعب عند أدغار ألن بو، أما الحوار فهو يقترب كثيراً من لغة آرتور آدموف، وأوجين يونسكو، وصموئيل بيكيت؛ فلا معقولية الأحداث وعدميتها تجعلنا نشعر أننا في حلم فعلاً. وهذا ما أراده بيرغمان أن تكون أحلامنا ممتزجة ومتداخلة بشكل كبير مع الواقع، وإذا كان العمل الفني عند بيرغمان يمتد بمجساته وجذوره عميقاً في الزمن والأحلام، فذلك لأن الفيلم عنده كالحلم والموسيقى، وهو أكثر الفنون نفاذاً إلى ما وراء الإدراك العادي وملامسة أعماق الروح.
- "ضوء الشتاء" 1963
تصبح الحياة ممكنة، وجديرة بأن تعاش وتستمر عندما يسودها شيء من اللاجدوى وانعدام اليقين؛ لأن اليقين المفرط في الأشخاص والأفكار قد يتسبب لنا بانهيارات وصدمات نفسية، تجعل العالم برمته حطاماً وبلا معنى، حتى الإيمان يجب أن يستند إلى درجة كبيرة من الشك واللايقين؛ فعندما كان المسيح يصلب بالمسامير ويتعذب، صرخ بأعلى صوته قائلاً: إلهي، لماذا تخليت عني؟ وقد اعتقد أن كل شيء بشر به كذب، لقد تملك الشك السيد المسيح في اللحظات الأخيرة التي سبقت موته، وهذا ما عالجه فيلم "ضوء الشتاء"؛ فتوماس القس المؤمن بيقين مفرط، يبدأ بالتمرد على صمت الرب، لكن الرب يبقى صامتاً وكذلك العالم أمام آلام البشر وعذاباتهم المتكررة وغير المبررة عقلياً، وهنا يدور حوار بين توماس ويوناس المضطرب نفسياً للموضوع ذاته، والذي ينتحر في نهاية المطاف.
يقول توماس القس: "كانت لديّ أحلام عظيمة ذات مرة. كنت سأضع بصمتي في هذا العالم.
هذا النوع من الأفكار التي تراودك عندما تكون شاباً. لم أكن أعرف شيئاً عن الشر أو القسوة. أنا والرب أقمنا في عالم منظم ..حيث لكل شيء معنى."
يكمل توماس :.."إذا لم يكن هناك إله، هل حقاً سيحدث ذلك فرقاً؟
الحياة ستصبح مفهومة، يا له من شعور مريح، وهكذا سيكون الموت مغادرة من الحياة، انفصال الروح عن الجسد... القسوة، والشعور بالوحدة، والخوف، كل هذه الأشياء ستكون واضحة وشفافة.
المعاناة غامضة، لذلك لا تحتاج إلى تفسير...أنا حرٌ الآن."
أخيراً، فإن شخصيات بيرغمان ليست أحادية ومطلقة، بل قلقة تجتمع فيها الثنائيات والأضداد: كالخير، والشر، والإيمان، والإلحاد، والجنون، والعقل، وكل شخصية لها عوالمها الداخلية الصامتة، وانفعالاتها الباطنية مثل: الرعب، والقلق، واليأس. شخصيات بيرغمان وجودية بالفطرة؛ فهي دائماً ما تحمل في طياتها حرية الروح، وشوقاً إلى عالم أسمى.
.
السينما النفسية عند إنغمار بيرغمان : عندما يمتزج الحلم بالواقع
يعتبر بيرغمان من المخرجين القلائل والنادرين ربما الذين مزجوا سيرة حياتهم الشخصية مع قصص أفلامهم، فالكثير من أفلامه تتقاطع مع ذكريات طفولته، وكوابيسه، والتي تشكل في بعض مشاهدها لوحات فنية صامتة بعيدة عن موسيقى صخب الأحداث. يذكر بيرغمان في كتاب سيرته الذاتية "المصباح السحري" أنه كان باستطاعته أن يختبر عالم الأمس وكأنه يحياه الآن، فقد كان عالماً مغموراً بالروائح والأضواء والأصوات، وهو بوسعه أن يطوف عوالم طفولته ويشعر بكل شيء. يقول بيرغمان: "عندما أكون هادئاً أستطيع أن أمضي من غرفة لأخرى، فأعرف وأشعر بكل شيء، الروائح، والغرف، واللحظات، والتلميحات والهمسات.. هذه الذكريات التي تشبه كثيراً فيلماً سينمائياً تم تصويره بشكل عشوائي، فكل ما يدور حولي أشبه بأجزاء فيلم، مركبة بطريقة غير ثابتة توحي بالغموض وأحياناً بالحزن. لقد عشت على ذاكرة الأحاسيس، وعرفت كيف أعيد خلقها".
- "التوت البري" 1957.
ولعل هذا التوصيف في سيرة بيرغمان الذاتية يأخذنا إلى جانب من طفولته يشبه إلى حد كبير مشهد العجوز في فيلم التوت البري الذي أنتج في عام 1957.
فإسحق بورج العجوز، هو طبيب واستشاري متقاعد هجر المجتمع والعلاقات الاجتماعية، بسبب الثرثرة، والتفاهة، والأحكام العقلية المسبقة عند البشر، لكنه يحاول أن يجد معنى لحياته، من خلال استرجاعه لحياته الماضية، بل إن تلك الحياة تصبح مكثفة في لحظات من الذاكرة، وفي بعض الأحلام التي تداهمه. وعندما يسافر بسيارته مع ابنة أخيه من ستوكهولم إلى لوند، ليحصل على شهادة فخرية من جامعة لوند يصادف في طريقه شابين وفتاة، فيصطحبهما معه، يذكره الشابان والفتاة من خلال طريقة كلامهم وحركاتهم وأفكارهم بشبابه وبأحداث ماضية عاشها في قصر العائلة القديم، وكأن هؤلاء الشباب صور باهتة انسلخت من الماضي الأصل لتحيي حاضر الرجل العجوز بقيم ومعانٍ جديدة، وبحياة يصبح فيها الوجود مضاعفاً ومزدوجاً. أما الأماكن التي يزورها إسحق بورج، والتي يسترجع فيها ذكرياته قبل عشرات السنين، تظهر لنا من خلال مشاهد الفيلم أن للمكان روحاً وحركة مستمرة داخل الأبعاد الزمنية، فنرى الدكتور إسحق يحيا ذكرياته الطفولية وهو عجوز وكأنه قد سافر عبر الزمن، وفي مشاهد أخرى نراه يطل على أحداث ماضية كانت غائبة عنه ولم يحياها، وهذا ما يبين لنا كيف أن الوجود يرتبط بالذاكرة وما تحتفظ به من لحظات وأحداث، أما الذي يغيب ويتلاشى من الذاكرة؛ فيكتسب صفة العدم، وكأنه لم يحدث أصلاً.
-"سوناتا الخريف" 1978.
هناك فكرة سيكولوجية فلسفية ما انفكت تتردد كثيراً عند بيرغمان، والتي نستطيع تتبع أثرها في الكثير من أفلامه، وهي الثغرة النفسية أو النقص الذي يرافق الإنسان طوال حياته، وهذه الثغرة ترتبط بالعدم، والغياب، والذنب، والرغبات غير المكتملة. فالذنب والمغفرة لهما حضور واضح عند بيرغمان وتحديداً في فيلمه سوناتا الخريف.
إن إيفا ابنة عازفة البيانو الشهيرة شارلوت في فيلم "سوناتا الخريف" تعيش حياتها بأحاسيس متبلدة وبلا اهتمام مع شعور دائم يرافقها بالنقص، لذا نراها تحاول أن تقوم بواجباتها على أتم وجه. وهذا الشعور يمتد عميقا ًإلى طفولتها وعلاقاتها بأمها شارلوت الأنانية وغير المبالية، فمنذ طفولة إيفا ووعيها المبكر بأنوثتها تبدأ معاناتها مع عيوبها الخلقية في جسدها مثل انحراف ساقيها وظهرها المقوس، وفي الوقت الذي تحتاج فيه إلى اهتمام ورعاية واحتواء من الأهل، كانت الأم تريد من ابنتها أن تكون نسخة عنها في كل شيء، في الكلام، وفي الملبس، وفي عزف البيانو، وفي غيرها من الأمور، فيرافق إيفا خوف دائم من أن لا تخطئ أمام أمها، وأن لا تبدو غبية وبلهاء، لذلك ظلت إيفا تعيش طوال حياتها ممسوحة الشخصية، بلا آراء وأفكار، وحتى مشاعر أيضاً.
إيفا المتزوجة الآن من شخص لا تحبه تستقبل أمها بعد فراق دام أكثر من سبع سنوات، وفي بادئ الأمر يكون كل شيئ على ما يرام، وتبدي الابنة محبة وعطفاً وتظاهراً بالاشتياق لأمها، وتجري الأمور بشكل روتيني في المنزل، إلى الليلة التي يداهم فيها شارلوت كابوس ويوقظها في منتصف الليل مذعورة، في تلك الأثناء أيضاً تكون إيفا مستيقظة، لتبدأ بعدها سلسلة من الأحاديث تكتمل فيها الحبكة الدرامية، وتنفرج عن مكاشفات نفسية عنيفة، وعن أحداث مؤلمة حصلت في الماضي. إن هذه المكاشفة النفسية في فيلم سوناتا الخريف ستأخذنا إلى مفهومين مهمين تخلقه الثغرة النفسية عند الإنسان وهما الجرح والذنب.
فالشعور بالذنب ليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بالعار أو الندم بعد الخطيئة. الشعور بالذنب موجود ومرافق لكل إنسان طوال حياته وبنسب ودرجات متفاوتة. إنه الثغرة التي نحاول ردمها في مسيرة حياتنا، ذلك الفراغ الذي لن يشبعه أي امتلاء في الحاضر، العدم الذي يهندس طريقة تفكيرنا، وشكل عاطفتنا، وردات فعلنا الشعورية تجاه الأشياء والأحداث.
نبقى طوال حياتنا مقيدين بالجرح أو الذنب حتى تأتي اللحظة المناسبة بتكرار الموقف مع نفس الشخص عن طريق البوح الجريح من الأعماق. يشفى الجرح عندما نعيد فتحه أكثر بسكاكين الماضي مع الشخص ذاته، وهكذا يخرج من أعماق اللاوعي إلى الوعي، أما الذنب- وقد يكون خطايا صغيرة، لامبالاة، أو عدم معرفة لقيمة الآخرين إلا بعد غيابهم- فإنه يصبح طريقنا إلى الحرية بعد التماس المغفرة من الآخر، شيئ شبيه بالصلاة والتوبة وتطهير النفس، وهذا يتطلب حساسية مرهفة وتذكراً مستمراً للألم. تقول شارلوت الأم في سوناتا الخريف:.." الإحساس الحقيقي مسألة موهبة، وأكثر الناس يفتقرون إلى تلك الموهبة."
- الحلم ..وسينما اللامعقول
لم تنفصل حياة بيرغمان عن معاصريه ومعاناتهم بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان العالم يتهاوى، والحياة تنسلخ عن أسمى معانيها، وتكشف رويدا رويداً عن الرعب واللاجدوى أمام الإنسان. عانى بيرغمان كغيره من أدباء وفناني ما بعد الحداثة من نوبات اكتئاب وقلق عام رافقته تشنجات معوية وأعراض جسدية أخرى. وقد توصل إلى أن العالم لا يمكن فهمه فهماً منطقياً وعقلانياً، ومن هنا نستطيع أن نرى الكثير من أفلام بيرغمان يسودها التناقض والأحداث اللامعقولة، لذا فلم يهتم كثيراً باللغة أو بالسيناريو المكتوب، وكأنه أراد بذلك أن يؤسس لسينما اللامعقول؛ ففي العديد من أفلامه نلاحظ أن أثر الحبكة خفيف، وأحياناً لا وجود له، واللغة مفككة ضبابية وقد فقدت صلتها وروابطها بالواقع الحسي. أما البناء الدرامي للحدث لا يتطور زمنيا ً ولا يتمثل بشكل أفقي ومرئي للشخصية، بل إن التطور يحصل في عملية بناء الأفكار وصراعها ونموها، وما ترافق هذه الأفكار من كتلة عواطف تشكل الموقف الوجودي الأعمق عند الإنسان.
لقد جسد بيرغمان الكثير من خيالاته، وأحلامه، وهواجس طفولته في عدد من أفلامه، وحاول أن يبقيها في منطقة الحلم المحض، ولعل هذا نراه واضحاً في فيلم ساعة الذئب الذي أنتج في عام 1968. في أحد المشاهد وعلى لسان يوهان يذكر بيرغمان جانباً من العقاب الذي كان يلقاه في طفولته، وما يعانيه من رعب ومخاوف وصراخ عندما كان يحبس في خزانة مظلمة صغيرة، فيخبروه أهله أن هناك كائناً صغيراً سيأتي ليقضم أقدام الأطفال المسيئين عقاباً لهم على عصيانهم. إن الأجواء التي يحياها الرسام يوهان في القلعة تشبه إلى حد كبير أجواء كافكا الكابوسية، وقصص الرعب عند أدغار ألن بو، أما الحوار فهو يقترب كثيراً من لغة آرتور آدموف، وأوجين يونسكو، وصموئيل بيكيت؛ فلا معقولية الأحداث وعدميتها تجعلنا نشعر أننا في حلم فعلاً. وهذا ما أراده بيرغمان أن تكون أحلامنا ممتزجة ومتداخلة بشكل كبير مع الواقع، وإذا كان العمل الفني عند بيرغمان يمتد بمجساته وجذوره عميقاً في الزمن والأحلام، فذلك لأن الفيلم عنده كالحلم والموسيقى، وهو أكثر الفنون نفاذاً إلى ما وراء الإدراك العادي وملامسة أعماق الروح.
- "ضوء الشتاء" 1963
تصبح الحياة ممكنة، وجديرة بأن تعاش وتستمر عندما يسودها شيء من اللاجدوى وانعدام اليقين؛ لأن اليقين المفرط في الأشخاص والأفكار قد يتسبب لنا بانهيارات وصدمات نفسية، تجعل العالم برمته حطاماً وبلا معنى، حتى الإيمان يجب أن يستند إلى درجة كبيرة من الشك واللايقين؛ فعندما كان المسيح يصلب بالمسامير ويتعذب، صرخ بأعلى صوته قائلاً: إلهي، لماذا تخليت عني؟ وقد اعتقد أن كل شيء بشر به كذب، لقد تملك الشك السيد المسيح في اللحظات الأخيرة التي سبقت موته، وهذا ما عالجه فيلم "ضوء الشتاء"؛ فتوماس القس المؤمن بيقين مفرط، يبدأ بالتمرد على صمت الرب، لكن الرب يبقى صامتاً وكذلك العالم أمام آلام البشر وعذاباتهم المتكررة وغير المبررة عقلياً، وهنا يدور حوار بين توماس ويوناس المضطرب نفسياً للموضوع ذاته، والذي ينتحر في نهاية المطاف.
يقول توماس القس: "كانت لديّ أحلام عظيمة ذات مرة. كنت سأضع بصمتي في هذا العالم.
هذا النوع من الأفكار التي تراودك عندما تكون شاباً. لم أكن أعرف شيئاً عن الشر أو القسوة. أنا والرب أقمنا في عالم منظم ..حيث لكل شيء معنى."
يكمل توماس :.."إذا لم يكن هناك إله، هل حقاً سيحدث ذلك فرقاً؟
الحياة ستصبح مفهومة، يا له من شعور مريح، وهكذا سيكون الموت مغادرة من الحياة، انفصال الروح عن الجسد... القسوة، والشعور بالوحدة، والخوف، كل هذه الأشياء ستكون واضحة وشفافة.
المعاناة غامضة، لذلك لا تحتاج إلى تفسير...أنا حرٌ الآن."
أخيراً، فإن شخصيات بيرغمان ليست أحادية ومطلقة، بل قلقة تجتمع فيها الثنائيات والأضداد: كالخير، والشر، والإيمان، والإلحاد، والجنون، والعقل، وكل شخصية لها عوالمها الداخلية الصامتة، وانفعالاتها الباطنية مثل: الرعب، والقلق، واليأس. شخصيات بيرغمان وجودية بالفطرة؛ فهي دائماً ما تحمل في طياتها حرية الروح، وشوقاً إلى عالم أسمى.
.