"طرائق مختلفة للنظر إلى الماء".. رواية كورالية لكل شخصية فيها صوتها
الروائي خوليو ياماثاريس: روايتي طرائق مختلفة للنظر إلى الحياة والعالم.
الثلاثاء 2024/09/10
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أطلال تثير حنين المهجرين وأحفادهم
التهجير القصري يترك نوعا من الحنين إلى الموطن الأول لا يخفت أبدا، وهذا ما عاناه سكان القرى الإسبان الذين وقع تهجيرهم من قراهم لإنشاء سدود وخزانات مياه ضخمة. واقع صعب ومؤلم يرصده الروائي الإسباني خوليو ياماثاريس في روايته المكتوبة بأسلوب مثير "طرائق مختلفة للنظر إلى الماء".
حول رماد الجد الذي سيبقى إلى الأبد تحت الماء، الجد الذي كان مرجعا لصدقه واجتهاده، وفي مشهد يمنح الناس صلابة وصامت مثل الجبال، يقوم ستة عشر شخصا بإعادة بناء تاريخ عائلاتهم بالإضافة إلى تاريخهم الخاص. من الجدة إلى الحفيدة الصغرى، من ذاكرة القرية التي ولد وترعرع فيها الكبار قبل أن يضطروا إلى تركها بسبب دمارها الوشيك لقصص ومشاعر الصغار، الأمر الذي يجعل السرد في رواية “طرائق مختلفة للنظر إلى الماء” للروائي الإسباني خوليو ياماثاريس يجري متدفقا.
رواية “طرائق مختلفة للنظر إلى الماء”، التي ترجمها الشاعر والناقد طلعت شاهين مقدما لها برؤية كاشفة للخلفية السياسية والاجتماعية في إسبانيا وانعكست على أحداثها، هي رواية عن المنفى والحنين إلى ما ضاع، عن مرور الزمن والذاكرة، عن الشعور بالارتباط بالطبيعة، عن البصمة التي تتركها البيئة الريفية والطبيعية في قلوب من عاشوها من قبل. رواية حزينة ولكنها جميلة.
أهمية المياه
رواية عن المنفى والحنين
يشكل أفراد العائلة الستة عشر في الرواية مجموعة متعددة الألحان، وكأنهم جوقة بأسلوب المآسي اليونانية، مع التركيز على الجانب المأساوي من تاريخ العائلة.
يقول ياماثاريس “أردت أن تكون الرواية كورالية بدلا من سردها بضمير المتكلم أو أن يرويها أحد الشخصيات الـ16 التي تشكل تيارات وعيها وهيكلها. إن ‘طرائق مختلفة للنظر إلى الماء‘، هي أيضا طرائق مختلفة للنظر إلى الحياة، للنظر إلى العالم. البطل الذي، بالمناسبة، هو الوحيد الذي لا يتكلم، من بين أمور أخرى لأنه مات بالفعل، ولكن في الجنازة يكون بطل الرواية دائما هو الميت. لقد أردت أن أصنع نوعا من المأساة اليونانية حيث كانت هناك شخصيات ترتدي أقنعة تسمّى شخصا. سيكون مجموع هذه الأصوات هو قناع المؤلف”.
ويضيف موضحا “ينتهي الماء دائما بالعودة إلى مساره. لقد تأثرت عندما رأيت المستنقعات تفرغ والنهر يتدفق مرة أخرى في مجراه بعد 15 عاما في الخزانات. الطبيعة عنيدة للغاية، وينتهي بها الأمر إلى إعادة احتلال ما كان لها والماء جزء من الطبيعة، والذاكرة تشبه إلى حد ما الماء الذي يخرج إلى النور، وينتهي به الأمر إلى فرض نفسه. إن المجيء إلى سرقسطة للحديث عن المياه في هذا الوقت أمر جريء. إنها طريقة أخرى للنظر إلى المياه وكذلك الأشخاص الذين يعانون من فيضان الأنهار يمكنهم رؤيتها”.
ويتابع الكاتب “كل واحد في نقطة من النهر يرى النهر بطريقة مختلفة. أولئك الذين عانوا من المستنقعات لا يرونها مثل أولئك الذين يطلبون المزيد من المياه في الدلتا حتى لا تنحسر، وعلى طول الطريق هناك أولئك الذين يريدون المزيد من الري، وأولئك الذين يريدون المزيد من المستنقعات. وكما يحدث مع الماء، فإنه يحدث مع كل شيء في الحياة، وهذا هو السبب في أن العنوان بالنسبة إليّ مهم لكل من عنوان الرواية وهيكلها، على الرغم من أنه يتحدث على ما يبدو عن موضوع هو الاقتلاع النهائي، لأنه لا يستطيع حتى رؤية أنقاض موطنه إيثاكا لأنها تحت الماء، فإن الموضوع الكبير الآخر للرواية هو نسبية النظرة البشرية. كيف في مواجهة نفس الشيء نفكر بشكل مختلف، ونشعر بشكل مختلف ونستجيب بشكل مختلف”.
وفي مقدمته أوضح طلعت شاهين أنه “نظرا إلى العوامل الجغرافية والمناخية لشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، وندرة الأنهار التي تغذي سكانها بالمياه، أنهارها قليلة وصغيرة المجرى، بعضها مجراه عميق بشكل كبير لا يسمح باستخراج المياه، أو يجعل استخراج مياهها صعبا للغاية، وأيضا اعتماد تلك الأنهار على مصادر تغذية خاضعة لتقلبات المناخ، تأتي من ذوبان الثلوج التي تتجمع على بعض القمم العالية لجبالها، أمر يخضع لأهواء الطبيعة، ويصيب البلاد بالقحط في حال انخفاض معدل سقوط الجليد على تلك القمم الجبلية، أو يعرّضها لفيضانات تغرق حقولها وقراها وتتسبب لسكانها بخسائر فادحة. من هنا اهتمت إسبانيا منذ زمن قديم بمشروعات تنمية المياه على امتداد جغرافيتها الواسعة”.
كل شخصية في الرواية تقص الحكاية من وجهة نظرها، لكن محور الحكاية القرية النائمة تحت سطح مياه البحيرة
ويضيف “يذكر التاريخ أن الرومان خلال احتلالهم أنشأوا فيها العديد من المشروعات لنقل المياه من مكان إلى آخر ولا تزال المجاري المائية التي أقاموها شاهدا على تلك المشروعات، ويعتبر مجرى المياه المقام في سيجوبيا لنقل المياه من طرف الوادي العميق إلى الطرف المقابل أحد تلك الظواهر، إضافة إلى العديد من القناطر التي أقيمت في الوديان العميقة. ثم جاء العرب من بعدهم لينقلوا خبرتهم في زراعة الري الدائم واستخدموا تقنيات الري المستجلبة من بلاد إسلامية زراعية مثل مصر والشام، لا تزال آثارها موجودة، بشكل خاص في مناطق السهول الواقعة على البحر المتوسط، بل وعرفوا وطبقوا قوانين توزيع المياه بين المزارعين، شاهد عليها اليوم ‘محكمة المياه‘ التي تقام أسبوعيا، في الساعة الثانية عشرة من كل يوم خميس عدا أيام الأعياد والعطلات الرسمية، بشكل رمزي أمام برج كاتدرائية ‘الميجيليتي‘ في فالنسيا”.
وأضاف “تلك السياسات الباحثة عن كيفية الاهتمام بتوفير المياه استمرت حتى العصر الحديث، وكانت خطة التوسع في إقامة السدود قد بدأت بخطة عامة وضعتها حكومة البلاد في العام 1902، ثم جاءت من بعدها خطة عام 1936 التي استغلت تقنيات أكثر حداثة بإقامة سدود في الوديان العميقة من المناطق الممطرة بحيث يجري إقامة بناء شاهق بين الجبلين اللذين يقتربان من بعضهما عند نهاية كل واد، يحتجز خلفه مياه الأمطار في مواسمها الغزيرة، يجري التحكم في تلك المياه من خلال فتحات بجسم السد، تقف من خلفها توربينات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتسمح بمرور كمية كافية لري الأراضي المحيطة”.
ويذكر أنه جاء بعد ذلك نظام الدكتاتور الجنرال فرانكو ليؤسس لخطة دعائية ضخمة تستغل إقامة مثل تلك السدود وخزانات المياه باعتبارها مشروعات قومية، إلا أن هذا التوسع الكبير في إنشاء خزانات المياه كانت له آثاره السلبية اجتماعيا، الكثير من تلك السدود حجزت المياه من خلفها في وديان عميقة بها العديد من القرى مما أدى إلى إغراقها وتهجير سكانها بالقوة الجبرية إلى مناطق السهول البعيدة عن الخزانات، بعد وضع يد الدولة عليها مقابل أموال زهيدة لا تكفي لإقامة حياة جديدة في الأماكن الأخرى، أماكن تختلف جغرافيا ومناخيا عن القرى الغارقة، إضافة إلى تشتيت شمل سكان القرى الغارقة بعد نزعهم من جذورهم، وأماكن أجدادهم، حتى أن الكثيرين من تلك القرى لم يجدوا الوقت والمال الكافي لنقل قبور آبائهم وأجدادهم، مما أدى إلى ما يشبه الفصام في معظم سكان تلك القرى خاصة بين كبار السن منهم.
التدرج في المشاعر
خوليو ياماثاريس: الطبيعة عنيدة للغاية
وأشار شاهين إلى أن بعض الكتابات الأدبية عكست الواقع الجديد وآثاره على سكان القرى القديمة الراقدة تحت مياه الخزانات، وكان الشاعر والروائي خوليو ياماثاريس من أهم هؤلاء الكتاب، كتب أولا عن القرى التي كانت تندثر بسبب هجرة سكانها إلى المدن بحثا عن حياة أكثر رفاهية، فكانت روايته “المطر الأصفر” التي ترجمها قبل أكثر من ثلاثين عاما نموذجا حيا لتخليد تلك القرى المندثرة. ثم جاءت روايته الأخيرة “طرق أخرى للنظر إلى الماء” لتعكس أثر السدود والخزانات المائية على سكان القرى القديمة التي أغرقتها تلك الخزانات.
يرى المترجم أن رواية “طرائق أخرى للنظر إلى الماء” جاءت مختلفة في تقنية كتابتها عن كتابات خوليو ياماثاريس الأخرى، ونظرا إلى أنها تتناول حياة عائلة من تلك العوائل التي أجبرت على الهجرة من أرض أجدادها، وجاءت الكتابة لتسجل هذا الواقع بعد عشرات السنين من الحدث، كان لا بد من البحث عن تقنية تعكس رؤية الأجيال المختلفة من تلك العائلة، وموقفها من حدث إنشاء هذا المشروع الضخم الذي أثّر على مجرى حياتهم حتى الجيل الثالث.
الجد “دمينجو” ورب الأسرة قرر الصمت وعدم الحديث عن قريته القديمة، بل وامتنع عن زيارتها في الأوقات التي كانت تنخفض فيها مياه خزان السد، فتظهر بقايا قريته، وتصبح مزارا جاذبا لسكانها القدامى، يصطحبون أبناءهم وأحفادهم لرؤية تلك الأطلال، وينتهزون الفرصة ليحكوا لهم حكايات تعود إلى الزمن القديم عندما كانت حياتهم مستقرة فيها. لكنه فاجأ الجميع بأن أوصى أن يدفن في مسقط رأسه، أمر مستحيل تحقيقه نظرا لغرق مقابر الأسرة، التي تضم أجساد العائلة الراحلين بمن فيهم الابن البكري الذي مات في طفولته.
لتحقيق أمنية الجد كان لا بد من اللجوء إلى طقس جديد انتشر مؤخرا في العديد من بلاد العالم بما فيها إسبانيا: إحراق جثته ونثر رماده على سطح مياه بحيرة الحزان. وخلال تحقيق أمنية الجد، أو تنفيذ وصيته تبدأ حكاية رواية هذه القرية الغارقة تحت سطح الماء منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، أيضا تبدأ رواية مأساة سكانها. الجدة التي عاشت حياتها كلها في القرية ولم تخرج منها إلا لأسباب قاهرة، تلك المرأة المحافظة رفيقة درب وحياة الجد، رغم تديّنها، تقبل بإحراق جثة الجد لأنها تنفيذ لوصيته، حتى يعود وتستقر روحه التي هامت خلال حياته بعيدا عن مسقط رأسه.
تدور الرواية، أو تبدأ خلال مشهد تجمّع الأسرة لوداع رماد الجد دومينجو ليرقد رماده إلى الأبد في قاع بحيرة الخزان الذي كان سببا في تهجيره من المكان قسرا. بينما ابنته الكبرى تحمل “القارورة الجنائزية” على شاطئ بحيرة الخزان الأقرب من قريتهم الغارقة، يبدأ صمت يدفع كل شخصية إلى التفكير والتأمل وتقديم وجهة نظرها في هذا الواقع الناتج عن تهجير قسري طبع حياتهم جميعا، من الجدة وحتى أصغر الأحفاد والحفيدات.
رواية عن المنفى والحنين إلى ما ضاع، عن مرور الزمن والذاكرة، عن الشعور بالارتباط بالطبيعة وحياة الريف
كل شخصية في الرواية تقص الحكاية من وجهة نظرها، لكن تظل القرية النائمة تحت سطح مياه البحيرة وعودة الجد إليها في قارورة جنائزية مركز تلك الحكاية. حكاية يشارك الجميع روايتها، تبدأها الجدة، رفيقة حياة الجد دومينجو، إلى الابنة الكبرى والأخ الأكبر، إلى الأحفاد والحفيدات، بل وتصل المشاركة إلى تقديم وجهة نظر طليق الابنة الكبرى، وإحدى خطيبات أحد الأحفاد، أجنبية إيطالية الجنسية، تتابع ما يحدث من احتفال طقسي يبدو غريبا عنها، لكنها تربطه أيضا بأحد أفراد عائلتها في إيطاليا، قرر العودة إلى قريته على نفس طريقة الجد هنا.
تتكون الرواية من سبعة عشر فصلا، ستة عشر فصلا كل واحد منها عنوانه باسم شخصية الراوي، ليأتي الفصل الأخير تعليقا على المشهد يبديه سائقو السيارات المارة بالمكان لحظة تنفيذ وصية الجد. من الفصل الأول وحتى الفصل الأخير يمكننا أن نتابع وهج الذكريات القديمة، وكيف أن هذا الوهج يخفت مع ابتعاد الشخصية عن القرية لقلة ذكرياتها فيها بالنسبة إلى بعض الأبناء، ولدوا في القرية لكنهم غادروها صغارا فاختلطت ذكرياتها بذكريات القرية التي نشأوا فيها، أو لانعدام تلك الذكريات أصلا كما هو الحال بالنسبة إلى الأحفاد الذين وُلدوا في أماكن بعيدة ولم يعيشوا لحظة التهجير الإجباري والنزع من الجذور.
نتدرج في المشاعر تجاه القرى الغارقة ومشروعات خزانات المياه لتصبح المسألة في النهاية مجرد وجهة نظر تجاه كل هذا، من الارتباط الكامل بالمكان والبكاء على ذكريات الحياة في المكان والالتصاق به وألم فراقه، إلى مجرد الحنين لبعض ذكريات الطفولة للشخصيات التي خرجت منها في وقت مبكر فارتبطت بمكان حياتها الجديد، لتصل في النهاية إلى اللامبالاة للشخصيات التي ولدت ونشأت بعيدا ولا تعرف عن المكان سوى ما سمعته من الآباء والجد والجدة، حتى نصل إلى تعليق سائقي السيارات المارة تجاه مشهد العائلة الجنائزي باعتبارها زيارة سياحية للاستمتاع بمشهد الطبيعة الخلابة التي تحيط بخزان مياه السد.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
الروائي خوليو ياماثاريس: روايتي طرائق مختلفة للنظر إلى الحياة والعالم.
الثلاثاء 2024/09/10
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أطلال تثير حنين المهجرين وأحفادهم
التهجير القصري يترك نوعا من الحنين إلى الموطن الأول لا يخفت أبدا، وهذا ما عاناه سكان القرى الإسبان الذين وقع تهجيرهم من قراهم لإنشاء سدود وخزانات مياه ضخمة. واقع صعب ومؤلم يرصده الروائي الإسباني خوليو ياماثاريس في روايته المكتوبة بأسلوب مثير "طرائق مختلفة للنظر إلى الماء".
حول رماد الجد الذي سيبقى إلى الأبد تحت الماء، الجد الذي كان مرجعا لصدقه واجتهاده، وفي مشهد يمنح الناس صلابة وصامت مثل الجبال، يقوم ستة عشر شخصا بإعادة بناء تاريخ عائلاتهم بالإضافة إلى تاريخهم الخاص. من الجدة إلى الحفيدة الصغرى، من ذاكرة القرية التي ولد وترعرع فيها الكبار قبل أن يضطروا إلى تركها بسبب دمارها الوشيك لقصص ومشاعر الصغار، الأمر الذي يجعل السرد في رواية “طرائق مختلفة للنظر إلى الماء” للروائي الإسباني خوليو ياماثاريس يجري متدفقا.
رواية “طرائق مختلفة للنظر إلى الماء”، التي ترجمها الشاعر والناقد طلعت شاهين مقدما لها برؤية كاشفة للخلفية السياسية والاجتماعية في إسبانيا وانعكست على أحداثها، هي رواية عن المنفى والحنين إلى ما ضاع، عن مرور الزمن والذاكرة، عن الشعور بالارتباط بالطبيعة، عن البصمة التي تتركها البيئة الريفية والطبيعية في قلوب من عاشوها من قبل. رواية حزينة ولكنها جميلة.
أهمية المياه
رواية عن المنفى والحنين
يشكل أفراد العائلة الستة عشر في الرواية مجموعة متعددة الألحان، وكأنهم جوقة بأسلوب المآسي اليونانية، مع التركيز على الجانب المأساوي من تاريخ العائلة.
يقول ياماثاريس “أردت أن تكون الرواية كورالية بدلا من سردها بضمير المتكلم أو أن يرويها أحد الشخصيات الـ16 التي تشكل تيارات وعيها وهيكلها. إن ‘طرائق مختلفة للنظر إلى الماء‘، هي أيضا طرائق مختلفة للنظر إلى الحياة، للنظر إلى العالم. البطل الذي، بالمناسبة، هو الوحيد الذي لا يتكلم، من بين أمور أخرى لأنه مات بالفعل، ولكن في الجنازة يكون بطل الرواية دائما هو الميت. لقد أردت أن أصنع نوعا من المأساة اليونانية حيث كانت هناك شخصيات ترتدي أقنعة تسمّى شخصا. سيكون مجموع هذه الأصوات هو قناع المؤلف”.
ويضيف موضحا “ينتهي الماء دائما بالعودة إلى مساره. لقد تأثرت عندما رأيت المستنقعات تفرغ والنهر يتدفق مرة أخرى في مجراه بعد 15 عاما في الخزانات. الطبيعة عنيدة للغاية، وينتهي بها الأمر إلى إعادة احتلال ما كان لها والماء جزء من الطبيعة، والذاكرة تشبه إلى حد ما الماء الذي يخرج إلى النور، وينتهي به الأمر إلى فرض نفسه. إن المجيء إلى سرقسطة للحديث عن المياه في هذا الوقت أمر جريء. إنها طريقة أخرى للنظر إلى المياه وكذلك الأشخاص الذين يعانون من فيضان الأنهار يمكنهم رؤيتها”.
ويتابع الكاتب “كل واحد في نقطة من النهر يرى النهر بطريقة مختلفة. أولئك الذين عانوا من المستنقعات لا يرونها مثل أولئك الذين يطلبون المزيد من المياه في الدلتا حتى لا تنحسر، وعلى طول الطريق هناك أولئك الذين يريدون المزيد من الري، وأولئك الذين يريدون المزيد من المستنقعات. وكما يحدث مع الماء، فإنه يحدث مع كل شيء في الحياة، وهذا هو السبب في أن العنوان بالنسبة إليّ مهم لكل من عنوان الرواية وهيكلها، على الرغم من أنه يتحدث على ما يبدو عن موضوع هو الاقتلاع النهائي، لأنه لا يستطيع حتى رؤية أنقاض موطنه إيثاكا لأنها تحت الماء، فإن الموضوع الكبير الآخر للرواية هو نسبية النظرة البشرية. كيف في مواجهة نفس الشيء نفكر بشكل مختلف، ونشعر بشكل مختلف ونستجيب بشكل مختلف”.
وفي مقدمته أوضح طلعت شاهين أنه “نظرا إلى العوامل الجغرافية والمناخية لشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، وندرة الأنهار التي تغذي سكانها بالمياه، أنهارها قليلة وصغيرة المجرى، بعضها مجراه عميق بشكل كبير لا يسمح باستخراج المياه، أو يجعل استخراج مياهها صعبا للغاية، وأيضا اعتماد تلك الأنهار على مصادر تغذية خاضعة لتقلبات المناخ، تأتي من ذوبان الثلوج التي تتجمع على بعض القمم العالية لجبالها، أمر يخضع لأهواء الطبيعة، ويصيب البلاد بالقحط في حال انخفاض معدل سقوط الجليد على تلك القمم الجبلية، أو يعرّضها لفيضانات تغرق حقولها وقراها وتتسبب لسكانها بخسائر فادحة. من هنا اهتمت إسبانيا منذ زمن قديم بمشروعات تنمية المياه على امتداد جغرافيتها الواسعة”.
كل شخصية في الرواية تقص الحكاية من وجهة نظرها، لكن محور الحكاية القرية النائمة تحت سطح مياه البحيرة
ويضيف “يذكر التاريخ أن الرومان خلال احتلالهم أنشأوا فيها العديد من المشروعات لنقل المياه من مكان إلى آخر ولا تزال المجاري المائية التي أقاموها شاهدا على تلك المشروعات، ويعتبر مجرى المياه المقام في سيجوبيا لنقل المياه من طرف الوادي العميق إلى الطرف المقابل أحد تلك الظواهر، إضافة إلى العديد من القناطر التي أقيمت في الوديان العميقة. ثم جاء العرب من بعدهم لينقلوا خبرتهم في زراعة الري الدائم واستخدموا تقنيات الري المستجلبة من بلاد إسلامية زراعية مثل مصر والشام، لا تزال آثارها موجودة، بشكل خاص في مناطق السهول الواقعة على البحر المتوسط، بل وعرفوا وطبقوا قوانين توزيع المياه بين المزارعين، شاهد عليها اليوم ‘محكمة المياه‘ التي تقام أسبوعيا، في الساعة الثانية عشرة من كل يوم خميس عدا أيام الأعياد والعطلات الرسمية، بشكل رمزي أمام برج كاتدرائية ‘الميجيليتي‘ في فالنسيا”.
وأضاف “تلك السياسات الباحثة عن كيفية الاهتمام بتوفير المياه استمرت حتى العصر الحديث، وكانت خطة التوسع في إقامة السدود قد بدأت بخطة عامة وضعتها حكومة البلاد في العام 1902، ثم جاءت من بعدها خطة عام 1936 التي استغلت تقنيات أكثر حداثة بإقامة سدود في الوديان العميقة من المناطق الممطرة بحيث يجري إقامة بناء شاهق بين الجبلين اللذين يقتربان من بعضهما عند نهاية كل واد، يحتجز خلفه مياه الأمطار في مواسمها الغزيرة، يجري التحكم في تلك المياه من خلال فتحات بجسم السد، تقف من خلفها توربينات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتسمح بمرور كمية كافية لري الأراضي المحيطة”.
ويذكر أنه جاء بعد ذلك نظام الدكتاتور الجنرال فرانكو ليؤسس لخطة دعائية ضخمة تستغل إقامة مثل تلك السدود وخزانات المياه باعتبارها مشروعات قومية، إلا أن هذا التوسع الكبير في إنشاء خزانات المياه كانت له آثاره السلبية اجتماعيا، الكثير من تلك السدود حجزت المياه من خلفها في وديان عميقة بها العديد من القرى مما أدى إلى إغراقها وتهجير سكانها بالقوة الجبرية إلى مناطق السهول البعيدة عن الخزانات، بعد وضع يد الدولة عليها مقابل أموال زهيدة لا تكفي لإقامة حياة جديدة في الأماكن الأخرى، أماكن تختلف جغرافيا ومناخيا عن القرى الغارقة، إضافة إلى تشتيت شمل سكان القرى الغارقة بعد نزعهم من جذورهم، وأماكن أجدادهم، حتى أن الكثيرين من تلك القرى لم يجدوا الوقت والمال الكافي لنقل قبور آبائهم وأجدادهم، مما أدى إلى ما يشبه الفصام في معظم سكان تلك القرى خاصة بين كبار السن منهم.
التدرج في المشاعر
خوليو ياماثاريس: الطبيعة عنيدة للغاية
وأشار شاهين إلى أن بعض الكتابات الأدبية عكست الواقع الجديد وآثاره على سكان القرى القديمة الراقدة تحت مياه الخزانات، وكان الشاعر والروائي خوليو ياماثاريس من أهم هؤلاء الكتاب، كتب أولا عن القرى التي كانت تندثر بسبب هجرة سكانها إلى المدن بحثا عن حياة أكثر رفاهية، فكانت روايته “المطر الأصفر” التي ترجمها قبل أكثر من ثلاثين عاما نموذجا حيا لتخليد تلك القرى المندثرة. ثم جاءت روايته الأخيرة “طرق أخرى للنظر إلى الماء” لتعكس أثر السدود والخزانات المائية على سكان القرى القديمة التي أغرقتها تلك الخزانات.
يرى المترجم أن رواية “طرائق أخرى للنظر إلى الماء” جاءت مختلفة في تقنية كتابتها عن كتابات خوليو ياماثاريس الأخرى، ونظرا إلى أنها تتناول حياة عائلة من تلك العوائل التي أجبرت على الهجرة من أرض أجدادها، وجاءت الكتابة لتسجل هذا الواقع بعد عشرات السنين من الحدث، كان لا بد من البحث عن تقنية تعكس رؤية الأجيال المختلفة من تلك العائلة، وموقفها من حدث إنشاء هذا المشروع الضخم الذي أثّر على مجرى حياتهم حتى الجيل الثالث.
الجد “دمينجو” ورب الأسرة قرر الصمت وعدم الحديث عن قريته القديمة، بل وامتنع عن زيارتها في الأوقات التي كانت تنخفض فيها مياه خزان السد، فتظهر بقايا قريته، وتصبح مزارا جاذبا لسكانها القدامى، يصطحبون أبناءهم وأحفادهم لرؤية تلك الأطلال، وينتهزون الفرصة ليحكوا لهم حكايات تعود إلى الزمن القديم عندما كانت حياتهم مستقرة فيها. لكنه فاجأ الجميع بأن أوصى أن يدفن في مسقط رأسه، أمر مستحيل تحقيقه نظرا لغرق مقابر الأسرة، التي تضم أجساد العائلة الراحلين بمن فيهم الابن البكري الذي مات في طفولته.
لتحقيق أمنية الجد كان لا بد من اللجوء إلى طقس جديد انتشر مؤخرا في العديد من بلاد العالم بما فيها إسبانيا: إحراق جثته ونثر رماده على سطح مياه بحيرة الحزان. وخلال تحقيق أمنية الجد، أو تنفيذ وصيته تبدأ حكاية رواية هذه القرية الغارقة تحت سطح الماء منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، أيضا تبدأ رواية مأساة سكانها. الجدة التي عاشت حياتها كلها في القرية ولم تخرج منها إلا لأسباب قاهرة، تلك المرأة المحافظة رفيقة درب وحياة الجد، رغم تديّنها، تقبل بإحراق جثة الجد لأنها تنفيذ لوصيته، حتى يعود وتستقر روحه التي هامت خلال حياته بعيدا عن مسقط رأسه.
تدور الرواية، أو تبدأ خلال مشهد تجمّع الأسرة لوداع رماد الجد دومينجو ليرقد رماده إلى الأبد في قاع بحيرة الخزان الذي كان سببا في تهجيره من المكان قسرا. بينما ابنته الكبرى تحمل “القارورة الجنائزية” على شاطئ بحيرة الخزان الأقرب من قريتهم الغارقة، يبدأ صمت يدفع كل شخصية إلى التفكير والتأمل وتقديم وجهة نظرها في هذا الواقع الناتج عن تهجير قسري طبع حياتهم جميعا، من الجدة وحتى أصغر الأحفاد والحفيدات.
رواية عن المنفى والحنين إلى ما ضاع، عن مرور الزمن والذاكرة، عن الشعور بالارتباط بالطبيعة وحياة الريف
كل شخصية في الرواية تقص الحكاية من وجهة نظرها، لكن تظل القرية النائمة تحت سطح مياه البحيرة وعودة الجد إليها في قارورة جنائزية مركز تلك الحكاية. حكاية يشارك الجميع روايتها، تبدأها الجدة، رفيقة حياة الجد دومينجو، إلى الابنة الكبرى والأخ الأكبر، إلى الأحفاد والحفيدات، بل وتصل المشاركة إلى تقديم وجهة نظر طليق الابنة الكبرى، وإحدى خطيبات أحد الأحفاد، أجنبية إيطالية الجنسية، تتابع ما يحدث من احتفال طقسي يبدو غريبا عنها، لكنها تربطه أيضا بأحد أفراد عائلتها في إيطاليا، قرر العودة إلى قريته على نفس طريقة الجد هنا.
تتكون الرواية من سبعة عشر فصلا، ستة عشر فصلا كل واحد منها عنوانه باسم شخصية الراوي، ليأتي الفصل الأخير تعليقا على المشهد يبديه سائقو السيارات المارة بالمكان لحظة تنفيذ وصية الجد. من الفصل الأول وحتى الفصل الأخير يمكننا أن نتابع وهج الذكريات القديمة، وكيف أن هذا الوهج يخفت مع ابتعاد الشخصية عن القرية لقلة ذكرياتها فيها بالنسبة إلى بعض الأبناء، ولدوا في القرية لكنهم غادروها صغارا فاختلطت ذكرياتها بذكريات القرية التي نشأوا فيها، أو لانعدام تلك الذكريات أصلا كما هو الحال بالنسبة إلى الأحفاد الذين وُلدوا في أماكن بعيدة ولم يعيشوا لحظة التهجير الإجباري والنزع من الجذور.
نتدرج في المشاعر تجاه القرى الغارقة ومشروعات خزانات المياه لتصبح المسألة في النهاية مجرد وجهة نظر تجاه كل هذا، من الارتباط الكامل بالمكان والبكاء على ذكريات الحياة في المكان والالتصاق به وألم فراقه، إلى مجرد الحنين لبعض ذكريات الطفولة للشخصيات التي خرجت منها في وقت مبكر فارتبطت بمكان حياتها الجديد، لتصل في النهاية إلى اللامبالاة للشخصيات التي ولدت ونشأت بعيدا ولا تعرف عن المكان سوى ما سمعته من الآباء والجد والجدة، حتى نصل إلى تعليق سائقي السيارات المارة تجاه مشهد العائلة الجنائزي باعتبارها زيارة سياحية للاستمتاع بمشهد الطبيعة الخلابة التي تحيط بخزان مياه السد.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري