ختم ذو وجهين من فيلكا
تشكّل نقوشه قاموساً تشكيلياً لحضارة دلمون
ختم ذو وجهين من فيلكا محفوظ في «متحف الكويت الوطني»
نُشر: 16:15-27 فبراير 2024 م ـ 18 شَعبان 1445 هـ
TT
20يحتفظ «المتحف الوطني الكويتي» بمجموعة كبيرة من الأختام الأثرية؛ منها ختم دائري مميّز صُنع من الحجر الصابوني الأملس، يحمل نقشين متقنين يختزلان بشكل لافت الجمالية الخاصة بهذه القطع التي تُعرف اليوم بـ«الأختام الدلمونية»، نسبة إلى إقليم دلمون الذي جمع في الماضي بين مناطق عدة من ساحل الخليج العربي.
عُثر على مجموعة كبيرة من هذه الأختام في مواقع عدة من جزر البحرين، كما عُثر على مجموعة مشابهة في جزيرة فيلكا الكويتية حيث أعلنت البعثة الدنماركية؛ التي استكشفت هذا الموقع بين عامي 1958 و1963، العثور على نحو 400 ختم، وبدا يومها أن فيلكا تحوي «أكبر عدد من هذا النوع من الأختام في العالم»، كما جاء في تقرير هذه البعثة. في المقابل، بلغ عدد أختام البحرين نحو 150 حتى عام 1977، وأكثر من 200 في نهاية عام 1981. ومع استمرار عمل بعثات التنقيب المنتظمة، إلى يومنا هذا، تواصلت هذه الاكتشافات، وازداد عدد الأختام التي خرجت من فيلكا، وشكّلت هذه المجموعة الضخمة مادة رئيسية لدراسة هذه القطع الأثرية التي تشكّل نقوشها قاموساً تشكيلياً ثرياً، يعكس العالم التصويري الفني الخاص بحضارة دلمون على مر العهود التي عرفتها.
منذ ظهور هذه الأختام في نهاية خمسينات الماضي، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتأريخها، واختلفت الآراء وتباينت مع ظهور اكتشافات ودراسات متعددة في العقود الماضية. وفي الخلاصة، تبيّن أن هذه الأختام تعود إلى ثلاث حقب تاريخية متلاحقة بين 2050 و1500 قبل الميلاد، ظهر في كل منها طراز مميّز، وذلك ضمن الأسلوب الواحد الجامع الذي ساد على امتداد هذه العهود الثلاثة. يتجلى الطراز الأول في مرحلة تمتدّ من 2050 إلى 1900 قبل الميلاد، وفيه تتحدّد سمات جمالية الأختام الدلمونية. ويظهر الطراز الثاني في المرحلة التالية التي تمتد إلى 1700 قبل الميلاد، ويشكل امتداداً للطراز الأول، مع دخول عناصر جديدة إلى قاموسه التصويري.
يتحوّل هذا القاموس ويتطوّر بشكل كبير مع ظهور الطراز الثالث في المرحلة الثالثة التي تمتدّ حتى 1500 قبل الميلاد، وتتزامن مع سيطرة سلالة الكيشيين البابلية على دلمون بشكل كامل. يتمثّل هذا الطراز الأخير بشكل خاص في مجموعة من أختام جزيرة فيلكا تبدو أكثر إتقاناً من مثيلاتها البحرينية، ويظهر هذا الإتقان بشكل جلي في تكويناتها كما في صياغاتها التي تشهد لتطوّر كبير في المشهد التصويري الخاص بالأختام الدلمونية.
تتّضح ملامح هذا التطور بشكل لافت في مجموعة صغيرة من أختام فيلكا يحمل كل منها نقشين تصويريين. يحتل كل من هذين النقشين وجهاً من وجهي الختم الواحد، بخلاف التقليد السائد الذي يكتفي بنقش واحد يظهر على وجه الختم الدائري المسطح، بينما يحمل ظهر هذا الختم المدبب ثقباً لتثبيته على شكل زر. ضمن هذه المجموعة الخاصة بنتاج فيلكا، يبرز ختم ذو وجهين عُرض ضمن معرض خاص بهذه الجزيرة أُقيم في «متحف الفنون الجميلة» بمدينة ليون الفرنسية سنة 2005. صُنع هذا الختم الدائري من الحجر الصابوني الأملس، وفقاً للتقليد السائد، ويبلغ قطره 3 سنتيمترات، ويتميّز بحضور كتابة مسمارية على أحد وجهيه.
يحيط بالوجه الأول إطار دائري ناتئ يخلو من أي عنصر زخرفي. داخل هذا الإطار، تستقر ستة خطوط عمودية تحد بين العناصر التصويرية والكتابة المسمارية المنقوشة التي تشكّل عناصر التأليف. تشكل هذه الخطوط ستّ مساحات متوازية، أكبرها حجماً تلك التي تحتل وسط التأليف، وفيها يظهر رجل يقف منتصباً في وضعية جانبية، رافعاً ذراعيه نحو الأعلى في حركة ابتهال. ينتصب هذا المبتهل في ثبات فوق منصة مستطيلة تظهر في الأسفل، تحت قدميه، رافعاً يده اليسرى نحو فمه، حاملاً بيده اليمنى سعفة نخيل حدّدت أوراقها بشكل هندسي مجرّد. قامته رفيعة وطويلة، وملامحها محددة بشكل جلي، ولباسها بسيط، ويتمثّل في إزار طويل ينسدل حتى الركبتين، تزيّنه شبكة من الخطوط الأفقية الصغيرة، إضافة إلى شق عمودي طويل في الوسط.
في مواجهة هذا المبتهل، في المساحة التي تحتل طرف الختم، تظهر سعفة أخرى مشابهة لتلك التي يرفعها، وترفع عمودياً في الفراغ، فوق مكعب صغير يحضر بشكل مستقل تحت جذعها. تحتل الكتابة المسمارية ثلاثاً من هذه المساحات العمودية الست، وتأتي على شكل تقدمة «إلى المعبودة الكبيرة... السيدة ريباكاتوم»، وتبدو هوية هذه المعبودة غامضة في غياب شواهد أثرية أخرى تسميها، وأغلب الظن أنها من أصول أكادية أو سامية، كما يشير جذر اسمها في رأي اللغويين المختصين.
أختام جزيرة فيلكا تبدو أعلى إتقاناً من أمثالها البحرينية... ويظهر هذا الإتقان بشكل جلي في تكويناتها كما في صياغاتها
يحيط بالوجه الثاني إطار دائري ناتئ تزينه شبكة من الخطوط العمودية المصطفّة على شكل مشط. يحتلّ وسط التأليف ثور كبير يعلو رأسه قرنان هائلان على شكل هلالين متقابلين في وجهة معاكسة. يقف هذا الثور بثبات على قوائمه الأربع، في وضعية جانبية، ويظهر من خلفه رجل في وضعية مشابهة، رافعاً يديه نحو الأعلى، ممسكاً بحبل طويل يتدلى طرفه نحو الأسفل ويلتف حول قائمة الثور الأمامية اليمنى.
تماثل قامة هذا الحارث في تأليفها قامة المبتهل الذي يحتل وسط الوجه الأول للختم، ويظهر من خلفها خط عمودي متعرج يرمز - ربّما - إلى أفعى. في الطرف المقابل، في مواجهة الثور، تتكرّر صورة سعفة النخيل المنتصبة، وتحضر من أمامها آنية على شكل مذبح، يعلوها مكعب مجرّد. في الأسفل، تحت قوائم الثور، تظهر منصّة تتألف من مساحتين مستطيلتين. وفوق ظهره، تظهر نجمة بسيطة تتكون من ثمانية خطوط متقاطعة. في الأعلى، بين هامة الحارث وقرني الثور، يحضر هلال كبير يحتضن نجماً له ثمانية رؤوس وثمانية أضلاع، ويشكّل هذا العنصر رمزاً كوكبياً من الرموز المعروفة في بلاد ما بين النهرين.
تتكرّر عناصر هذين المشهدين التصويريين على الأختام التي تمثّل الطراز الثالث، كما تتكرّر على كسر من أوانٍ عُثر عليها في فيلكا، تعود إلى الحقبة نفسها، ويشهد هذا التماثل لقاموس تشكيلي جامع انتشر في تلك الحقبة الأخيرة من تاريخ دلمون.
تشكّل نقوشه قاموساً تشكيلياً لحضارة دلمون
ختم ذو وجهين من فيلكا محفوظ في «متحف الكويت الوطني»
نُشر: 16:15-27 فبراير 2024 م ـ 18 شَعبان 1445 هـ
TT
20يحتفظ «المتحف الوطني الكويتي» بمجموعة كبيرة من الأختام الأثرية؛ منها ختم دائري مميّز صُنع من الحجر الصابوني الأملس، يحمل نقشين متقنين يختزلان بشكل لافت الجمالية الخاصة بهذه القطع التي تُعرف اليوم بـ«الأختام الدلمونية»، نسبة إلى إقليم دلمون الذي جمع في الماضي بين مناطق عدة من ساحل الخليج العربي.
عُثر على مجموعة كبيرة من هذه الأختام في مواقع عدة من جزر البحرين، كما عُثر على مجموعة مشابهة في جزيرة فيلكا الكويتية حيث أعلنت البعثة الدنماركية؛ التي استكشفت هذا الموقع بين عامي 1958 و1963، العثور على نحو 400 ختم، وبدا يومها أن فيلكا تحوي «أكبر عدد من هذا النوع من الأختام في العالم»، كما جاء في تقرير هذه البعثة. في المقابل، بلغ عدد أختام البحرين نحو 150 حتى عام 1977، وأكثر من 200 في نهاية عام 1981. ومع استمرار عمل بعثات التنقيب المنتظمة، إلى يومنا هذا، تواصلت هذه الاكتشافات، وازداد عدد الأختام التي خرجت من فيلكا، وشكّلت هذه المجموعة الضخمة مادة رئيسية لدراسة هذه القطع الأثرية التي تشكّل نقوشها قاموساً تشكيلياً ثرياً، يعكس العالم التصويري الفني الخاص بحضارة دلمون على مر العهود التي عرفتها.
منذ ظهور هذه الأختام في نهاية خمسينات الماضي، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتأريخها، واختلفت الآراء وتباينت مع ظهور اكتشافات ودراسات متعددة في العقود الماضية. وفي الخلاصة، تبيّن أن هذه الأختام تعود إلى ثلاث حقب تاريخية متلاحقة بين 2050 و1500 قبل الميلاد، ظهر في كل منها طراز مميّز، وذلك ضمن الأسلوب الواحد الجامع الذي ساد على امتداد هذه العهود الثلاثة. يتجلى الطراز الأول في مرحلة تمتدّ من 2050 إلى 1900 قبل الميلاد، وفيه تتحدّد سمات جمالية الأختام الدلمونية. ويظهر الطراز الثاني في المرحلة التالية التي تمتد إلى 1700 قبل الميلاد، ويشكل امتداداً للطراز الأول، مع دخول عناصر جديدة إلى قاموسه التصويري.
يتحوّل هذا القاموس ويتطوّر بشكل كبير مع ظهور الطراز الثالث في المرحلة الثالثة التي تمتدّ حتى 1500 قبل الميلاد، وتتزامن مع سيطرة سلالة الكيشيين البابلية على دلمون بشكل كامل. يتمثّل هذا الطراز الأخير بشكل خاص في مجموعة من أختام جزيرة فيلكا تبدو أكثر إتقاناً من مثيلاتها البحرينية، ويظهر هذا الإتقان بشكل جلي في تكويناتها كما في صياغاتها التي تشهد لتطوّر كبير في المشهد التصويري الخاص بالأختام الدلمونية.
تتّضح ملامح هذا التطور بشكل لافت في مجموعة صغيرة من أختام فيلكا يحمل كل منها نقشين تصويريين. يحتل كل من هذين النقشين وجهاً من وجهي الختم الواحد، بخلاف التقليد السائد الذي يكتفي بنقش واحد يظهر على وجه الختم الدائري المسطح، بينما يحمل ظهر هذا الختم المدبب ثقباً لتثبيته على شكل زر. ضمن هذه المجموعة الخاصة بنتاج فيلكا، يبرز ختم ذو وجهين عُرض ضمن معرض خاص بهذه الجزيرة أُقيم في «متحف الفنون الجميلة» بمدينة ليون الفرنسية سنة 2005. صُنع هذا الختم الدائري من الحجر الصابوني الأملس، وفقاً للتقليد السائد، ويبلغ قطره 3 سنتيمترات، ويتميّز بحضور كتابة مسمارية على أحد وجهيه.
يحيط بالوجه الأول إطار دائري ناتئ يخلو من أي عنصر زخرفي. داخل هذا الإطار، تستقر ستة خطوط عمودية تحد بين العناصر التصويرية والكتابة المسمارية المنقوشة التي تشكّل عناصر التأليف. تشكل هذه الخطوط ستّ مساحات متوازية، أكبرها حجماً تلك التي تحتل وسط التأليف، وفيها يظهر رجل يقف منتصباً في وضعية جانبية، رافعاً ذراعيه نحو الأعلى في حركة ابتهال. ينتصب هذا المبتهل في ثبات فوق منصة مستطيلة تظهر في الأسفل، تحت قدميه، رافعاً يده اليسرى نحو فمه، حاملاً بيده اليمنى سعفة نخيل حدّدت أوراقها بشكل هندسي مجرّد. قامته رفيعة وطويلة، وملامحها محددة بشكل جلي، ولباسها بسيط، ويتمثّل في إزار طويل ينسدل حتى الركبتين، تزيّنه شبكة من الخطوط الأفقية الصغيرة، إضافة إلى شق عمودي طويل في الوسط.
في مواجهة هذا المبتهل، في المساحة التي تحتل طرف الختم، تظهر سعفة أخرى مشابهة لتلك التي يرفعها، وترفع عمودياً في الفراغ، فوق مكعب صغير يحضر بشكل مستقل تحت جذعها. تحتل الكتابة المسمارية ثلاثاً من هذه المساحات العمودية الست، وتأتي على شكل تقدمة «إلى المعبودة الكبيرة... السيدة ريباكاتوم»، وتبدو هوية هذه المعبودة غامضة في غياب شواهد أثرية أخرى تسميها، وأغلب الظن أنها من أصول أكادية أو سامية، كما يشير جذر اسمها في رأي اللغويين المختصين.
أختام جزيرة فيلكا تبدو أعلى إتقاناً من أمثالها البحرينية... ويظهر هذا الإتقان بشكل جلي في تكويناتها كما في صياغاتها
يحيط بالوجه الثاني إطار دائري ناتئ تزينه شبكة من الخطوط العمودية المصطفّة على شكل مشط. يحتلّ وسط التأليف ثور كبير يعلو رأسه قرنان هائلان على شكل هلالين متقابلين في وجهة معاكسة. يقف هذا الثور بثبات على قوائمه الأربع، في وضعية جانبية، ويظهر من خلفه رجل في وضعية مشابهة، رافعاً يديه نحو الأعلى، ممسكاً بحبل طويل يتدلى طرفه نحو الأسفل ويلتف حول قائمة الثور الأمامية اليمنى.
تماثل قامة هذا الحارث في تأليفها قامة المبتهل الذي يحتل وسط الوجه الأول للختم، ويظهر من خلفها خط عمودي متعرج يرمز - ربّما - إلى أفعى. في الطرف المقابل، في مواجهة الثور، تتكرّر صورة سعفة النخيل المنتصبة، وتحضر من أمامها آنية على شكل مذبح، يعلوها مكعب مجرّد. في الأسفل، تحت قوائم الثور، تظهر منصّة تتألف من مساحتين مستطيلتين. وفوق ظهره، تظهر نجمة بسيطة تتكون من ثمانية خطوط متقاطعة. في الأعلى، بين هامة الحارث وقرني الثور، يحضر هلال كبير يحتضن نجماً له ثمانية رؤوس وثمانية أضلاع، ويشكّل هذا العنصر رمزاً كوكبياً من الرموز المعروفة في بلاد ما بين النهرين.
تتكرّر عناصر هذين المشهدين التصويريين على الأختام التي تمثّل الطراز الثالث، كما تتكرّر على كسر من أوانٍ عُثر عليها في فيلكا، تعود إلى الحقبة نفسها، ويشهد هذا التماثل لقاموس تشكيلي جامع انتشر في تلك الحقبة الأخيرة من تاريخ دلمون.