توافقات آب (أغسطس) في حياة محمود درويش وشعره
17 - أغسطس - 2024م
حاتم الصكَر
تتوافق في لائحة حياة محمود درويش وشعره وقائع لا تفوتنا ملاحظة زمنها، وترابطها في مصادفة لافتة، هي بعض ما في حياة محمود درويش وغيابه من وقائع شعرية الوقع، رغم نثرها القاسي العنيف أحياناً.
1
هو ذا شهرآب الذي أسلم محمود درويش في التاسع منه روحه، في غرفة بمستشفى ميموريال هيرمان في هيوستن بولاية تكساس. وهي ذي أمريكا تشهد زيارته الأخيرة بعد سنوات من زيارته لنيويورك ولقائه بمواطنه إدوارد سعيد في الشارع الخامس. وحيث وُلدت بذرة قصيدته (طباق) المهداة له.
كان في تلك القصيدة كمن يسجل ما سيحل به هو نفسه من مرض مختلف بعد ستة أعوام من لقاء آخر بسعيد الذي أصيب بالسرطان. حيث كان يدافع عن سردية أخرى لاحتلال فلسطين، غير تلك التي يروّج لها محتل أرضهما والمتسبب في نفيهما وتشردهما:
عندما زرتُه في سدوم الجديدةِ
في عام ألفين واثنين، كان يقاوم
حربَ سدوم على أهل بابلَ…
والسرطانَ معاً. كان كالبطل الملحمي الأخير
يدافع عن حق طروادة في اقتسام الرواية.
لقد كان يستحضر رمزية المقاوم في لحظة قدرية فذة: يقاوم استشراء السرطان المنتشر في الجسد، والاحتلال المتمدد بذرائع الوهم والانتحال، لينتشر فوق جسد الأرض التي خلَّدها محمود درويش في قصيدة ذات وقع تاريخي ووطني خاص. وليظل رمزُها الدمَ المسفوح والفائض من الأجساد والشاشات والضمائر، فيخاطب سعيد:
دمٌ
ودمٌ
ودمٌ
في بلادكَ
في اسمي وفي اسمك، في
زهرة اللوز، في قشرة الموز
في لبن الطفل، في الضوء والظل،
في حبة القمح، في علبة الملح/
قنّاصة بارعون يصيبون أهدافهم
بامتيازٍ
دماً
ودماً
ودماً
وفي الحالين تذكرتُ محمود درويش، حين كنتُ أسير بعد أعوام من غيابه في الشارع الخامس بمرائيه الغريبة وعمارة مبانيه المتنوعة، وضجيج الخطى والسائحين والعربات. كنت أكاد أسمع صوته الواهن يهمس لسعيد بحديث أو حوارات بالأحرى تقطرت في القصيدة، تساؤلات عن اللغة والهوية والانتماء، والشرق الذي كوُنته عقلية الغربي في التداول.
وفي حالٍ ثانية سيأتي درويش في منازلة أخيرة مع الموت، مستنجداً بقلبه ومتوسلاً ألّا يخذله. وعدٌ لم يقدر عليه قلبُ شاعر شهِد الاحتلال واقعاً يومياً وناله منه عسف وقمع، ولم يسترجعه حكايةً تروى على مسامعه، ترددها ذاكرات ٌ أنهكها العدل المفقود والحرية المستلبة والتشريد.
كان الأخَوان رعد وراضي السيفي يقودانني في شوارع هيوستن لنقف تحت نافذة الغرفة التي شهدت الساعات الأخيرة من حياة محمود، في المركز الطبي في شارع فانين بالمدينة. وأتساءل بصمتٍ يغلفه الألم إن كان محمود قد شهِد الغروب الأخير وشمسَ الصباح في يوم قائض سيدخل في أوله غرفة العمليات، ليقوم الطبيب العراقي حازم الصافي بعملية جراحية له، كان احتمال نجاحها متعثراً. ولربما كان سيذكره في قصيدة نجاته، لو قُدر له أن يعيش ليسرد تجربته الثانية، كما ذكر طبيبَه الفرنسي في قصيدة (جدارية) بعد شفائه من العملية الأولى بباريس.
كان يسجل في (جدارية) حواره مع الموت. ويرسم البياض الذي فاض على الأشياء من حوله وعلى ذاكرته وجسده. يرصد تلك اللحظات التي تسبق استغراقه في الغيبوبة وما قبلها. يلاعبُ الموت بأسمائه، ويدعوه ليسمع روايته لما يجري.
لقد كانت جدارية محمود درويش بملحميتها سجلاً شعرياً إنسانياً لهذ الصراع الأزلي بين الموت وإرادة الحياة التي جسّدها درويش مكرراً: أريد أن أحيا، ليس لأن على الأرض ما يستحق الحياة فحسب، بل لأن ثمة مهماتٍ أخرى بانتظاره:
وأريد أن أحيا…
فلي عمل على ظهر السفينة، لا
لأنقذ طائراً من جوعنا أو من
دوار البحر، بل لأشاهد الكون
عن كثبٍ: وماذا بعدُ. ماذا يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكايةَ؟
ما البدايةُ؟
ما النهاية؟
فكّرتُ كثيراً بجدارية الموت التي لم يكتبها درويش، لكنها منبثة في تضاعيف شعره حقيقة واستعارة، ورمزاً طالما تمثَّله محمود درويش، ووجد له إشاراتٍ وتمثيلات أسطورية خلدت في ذاكرته ووعيه.
2
وأعود لتوافقات آب.
هنا سألتقي بفتوة محمود درويش وهبَة وعيِه وتمرده.
لقد كتب مقالته (رأي في شعرنا) بحلقتين في مجلة «الجديد» التي تصدر في حيفا في اليوم الثامن من آب أيضاً، عام 1961. وأعاد نشرها أنطوان شلحت في (ضفة ثالثة) 14 آذار/مارس 2018 مع تعريف بسياقها. وعَدَها (البيان الشعري الأول) لدرويش. لقد كانت بحقّ مساءَلةً جريئة للكتابة الشعرية والثقافة العربية في الأرض المحتلة.
يكتب محمود درويش رأيه أو بيانه بروح شاعر وعبارات يحكمها المجاز ويشخّص أدق ما رآه من أسباب لأزمة الشعر الفلسطيني في مرحلة الكفاح كما يسميها، وفي سياق الاحتلال و(الغربة والعزلة في أرض الوطن).
إذن لا ينكر درويش خصوصية وضع الشاعر الفلسطيني في أسلاك الاحتلال الشائكة. ويبدأ بيانه بتسمية موتيفات مختارة منها ذات بُعد درامي حزين:
(حنين الغريب وراء الأسلاك الشائكة.. إلى حبة تراب من أرضه المسلوبة..
الشهداء الذين يسقطون على الطرقات البعيدة كالذباب..
الأبرياء الذين يقتلون.. ولا ذنب لهم إلا أنهم بقية شعب مشرّد..
الأطفال الذين ينظرون إلى الغد بلا عيون.. ويبكون بلا آباء وأمهات…
والشيوخ الذين زرعوا.. ولم يأكل أحفادهم.. والأرض التي يحرّم عبيرها على فلاحها..
والقيد الذي يشد على زنودنا.. وأفواهنا..
والموت المعلق على سطور ورقة صفراء..
والكوفية البيضاء.. أروع ما خلّفه لنا التاريخ في متاحفه.. الكوفية التي تُهان…).
ذلك المدخل ليس سوى تمهيد لما سيتوصل إليه، لاستيعاب هذه الحالة ااتي يحياها الفلسطيني على أرضه بكيفية شعرية متقدمة. ولإنجاز هذا الموقف النقدي المبكر والصريح يسمي عدة علل يرى أنها أصابت الرؤية الشعرية لزملائه، متحدثاً بضمير المتكلم أحياناً، ملفتاً إلى غياب الثقافة المطلوبة للشاعر، ما انعكس ضعفاً في لغة الشعراء وتراثهم وصلتهم بالثقافة العالمية.
ولكنّ الموازنة التي اقترحها وشنّ هجومه على زملائه بسبب غيابها، هي الموازنة بين الفن والقضية.
فالواقعية والثورية منها خاصة أشاعت نمطاً من الشعر المجرد من كل قيمة فنية، يعاني من التقريرية والمباشرة واللهجة الخطابية وضعف اللغة، لحساب المضمون الوطني والثوري الذي صار شفيعاً لكل نص شعري مهما غابت عنه اشتراطات الفن الشعري. ولا يفوته ملاحظة جناية التلقي الجماهيري لهذا النوع من الشعر فيقول عن هذا الشعر المباشر والمفتقر للشكل الفني المناسب، إنه (يلاقي استحساناً سطحياً من الجمهور).
وهذه انتباهة مهمة من درويش الذي سنرى في مراحل عمره الشعري اللاحق أنه غير زاهد بالجمهور والتوصيل الخطابي، لكنه لا يوافق على مداعبة مشاعر الجمهور بنص مفتقر للشروط الفنية والجمالية.
ولربما كان وصفُنا لمقالتيه بالجرأة منطلقاً من كونه كتبهما في خضم التصاعد الوطني ونمو المقاومة في الداخل بطرق شعبية مختلفة، من بينها الشعر المتداول في الصحافة وبين الجماهير.
ويحسم درويش العلاقة الجمالية بين الشكل والمضمون بمنظار متقدم فيقول (إن القصيدة تنجح وتؤدي رسالتها الإنسانية والفنية إذا اغتنى مضمونها.. هذا لا يكفي الرسالة في المضمون.. والفن يكمل الشكل).
إنه يحذّر من الهبوط الفني الذي يخل بالقضية العادلة للشعب الفلسطيني وما يخص حريته. لكنه يحفظ للأدب الواقعي مكانته الإنسانية، مذكِّراً من جديد بأهمية الرقيّ الفني، واستخدام الرموز، وقراة الموروث بعمق.
ويؤكد على التجديد و(ضرورة البحث عن قوالب جديدة، لتلتف حول المفهوم الجديد للشعر الواقعي الذي يفتح آفاقًا جديدة رحبة أمام الإنسان..).
تلك جوانب ما أشغل درويش في مقاله في الثامن آب، والجزء اثاني منه أيضاً.
3
توافقات آب تحضر في صرخة درويش المدوية بعد أعوام من مقالتيه. إنه يقود مشروعاً جمالياً سينعكس في شعره بالذات. وكأنه يضع بياناته لنفسه كمراجعة لخطّه الشعري وضرورة تطويره. تنقل مجلة «الآداب» في عددها الثامن الصادر في آب 1969 مقالته (أنقذونا من هذا الحب القاسي) التي ظهرت أولاً في «الجديد» الحيفاوية قبل شهر من إعادة نشرها مع تعليق قصير من مجلة «الآداب»، واحتفى بها نقاد الأدب العرب كثيراً. وكانت بداية تعارفهم النصي مع الشعر الفلسطيني الحديث بشكل مباشر.
لقد قدمت المجلة محمود الشاعر بصفته (شاعر المقاومة). وكان ذلك مناسباً تماما ً للجو الذي أشاعته نكسة حزيران (يونيو) 1967، والخذلان الذي أصاب الذات العربية بالانكسار، فجاء الوصف نوعاً من نداء للمقاومة والانتقال إلى الحال الإيجابية المطلوبة لشعبٍ فقَد المتبقي من أراضيه. ونالت النكسة أنظمة وشعوباً في البلاد العربية. ما ساعد على تلمس روح المقاومة عبر الشعر الذي نهض به شعراء فلسطين من المجددين. وأصابت المجلة في إشارتها التي مهدت للمقالة بالقول (إن المقالة تشير إلى الحس المرهف الذي يتمتع به الشعراء)، ومؤكدة البعد العربي الأشمل في مشروع التحديث الذي حمله درويش وزملاؤه.
لقد تحوّل عنوان المقالة شعاراً يلخص صراع التجديد والتقليد، وضرورة التكافؤ بن الفني والوطني في الكتابة الشعرية، فكأن الحب القاسي هو خلاصة رأي الشاعر بالجمهور الذي كان درويش قد انتقد وكشف موقع التلقي الحماسي السطحي لديه. ولربما تؤوَّل الصرخة بأن درويش أراد انتشال الشعراء أنفسهم من حبهم القاسي لوطنه، نظرا لضغف عرضه فنياً.
كان درويش يقدم خطاباً هادئاً عقلانياً مقنعاً ومستنداً إلى شواهد من الثقافة العربية وحركات التجديد المبكرة فيها. مغادراً لهجة الغضب التي ميزت بيانه الشعري الأول مطلع الستينيات.
إن ثمة واقعاً يصفه درويش بالخشونة، ما دعا لتعضيد الصراع ضده، فجاء دعم كبير للحركة الأدبية في الأرض المحتلة. وهذا وضعَ مسؤولية كما يقول، على عاتق المنضوين في تلك الحركة. لأن التشريف الذي نالوه بوصفهم شعراء مقاومة يتطلب نهوضاً بالمهمة لمستوى فني لائق، تتناسب والتجديد في الشعر العربي عموما. وأن ذلك يجب أن يزود الحركة الأدبية والشعراء خاصة (بقوة جديدة من دواعي السعي نحو الإبداع).
وأحسبه يشير إلى كتابَيْ الشهيد غسان كنفاني الرائدين عام 1966 بعنوان «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948.1966 «، و«الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال -1948-1968».
ومن هنا يذهب إلى مساءَلَة الشعر المقاوم وموقفه في الإبداع والتحديث. ويرى أن الحب الفائض عن حدوده قام بتصوير شعراء الأرض المحتلة أو شعراء المقاومة وكأنهم (انبثقوا فجأة كصاعقة في المشهد الشعري العربي). وهذه مغالطة برأي درويش المتفاعل مع الشعرية العربية بعمق وقراءة وتأثر، لأن التجربة العربية مؤثرة في شعرهم، وقد نما التجديد لديهم بقناعة ومسؤولية وتقدير لشعراء التجديد في العراق ومصر ولبنان وسوريا كما يحدد. من هنا يرى أن هذا الحب كان مشجعا للتجارب المتواضعة أيضاً بالانتماء لشعر قضية عادلة يلزمها ما يرفع شأنها فنياً.
توافقات آب ورأي درويش في شعراء فلسطين الداخل والحب القاسي لتجاربهم انتهت برحيل مؤس ومؤثر، مهَّد له درويش في شعره، واستبَقه وحاوره وتغلغل في ثنايا دلالاته، كواقعة قدرية صعبة الإدراك عسيرة التقبل