موسوعة للشعر الخيميائي تثبت علاقة الأدب العربي بالعلوم التجريبية
الغرض الأدبي يسمح بمساءلة واقع الشعرية إذا ما تعلق بنشاط الكيميائي الأديب كما أنها تسمح بتحديد العلاقة بين الأدب العربي والعلوم القائمة على التجربة.
السبت 2024/08/24
الخيمياء أثرت آداب الأمم
عمان- يسعى الباحث والأكاديمي الجزائري الهواري غزالي في كتابه “موسوعة الشعر الخيميائي” إلى نفض الغبار عن جزء مهم من التراث العربي الذي طاله النسيان وهو الخيمياء. وهو جزء ستكتمل به المكتبة العربية، نظرا إلى النقص الذي تعانيه في ما يتعلق بهذا العلم المهمل وفق تعبير المؤلف.
يضم الجزء الأول من الموسوعة التي تقع في أكثر من 800 صفحة وتشمل تحقيق أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة بيت شعري، ديوان “شذور الذهب” لابن أرفع رأس الجياني الأندلسي (المتوفى سنة 593هـ)، وفي جزئها الثاني ديوان “قراضة العسجد” لمحيي الدين بن عربي (المتوفى سنة 638هـ)، وفي جزئها الثالث ديوان “سلاسل النضار” لصلاح الدين الكوراني (المتوفى سنة 1049هـ).
ويعد ابن أرفع رأس الجياني المسمى “الرئيس” من أهم الشعراء الخيميائيين، وهو الشاعر الذي قيل فيه “ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب ‘شذور الذهب‘ لكفاهم دليلا على البلاغة (…) فلم ينظم أحد في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معان، وفصاحة ألفاظ، وعذوبة تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يعلمك صنعة الذهب علّمك صنعة الأدب”.
وقام غزالي، إضافة إلى تحقيق “قراضة العسجد” في الجزء الثاني من موسوعته، بضم قصيدة ابن عربي المسماة “كشف الأستار لخواص الأسرار”، ورسالة أخرى بعنوان “شرح قصيدة ‘كشف الأستار لخواص الأسرار‘” لعبدالرحمن السويدي، ورسالة “كتاب ما أتى به الوارد”. وتعد هذه الرسالة من بين أهم الفصول والرسائل التي ألفها – لغرض تبيان طريقة السلوك – بناء على معرفته العميقة بالكيمياء القديمة، وذلك إلى جانب كتابه المشهور “الفتوحات المكية”.
وتناول المحقق بالبحث موضوعين أساسيين؛ أولهما التحقق من نسبة ديوان “قراضة العسجد” لمحيي الدين بن عربي، وذلك نظرا إلى افتقاده المعلومات التي من شأنها إثبات نسبة الديوان إلى صاحبه، وثانيهما؛ البحث في معرض ذلك في موضوع الكيمياء الروحية التي أثارها ابن عربي في كتابه “الفتوحات المكية” في فصل بعنوان “كيمياء السعادة”، وفي رسالته “كتاب ما أتى به الوارد”. والهدف من هذا البحث هو إيجاد نقاط تقاطع بين ديوان “قراضة العسجد” ومؤلفات ابن عربي النثرية خصوصا.
أما “سلاسل النضار” المنظوم بداية القرن السابع عشر للميلاد بحلب، فيعد صاحبه من أكثر شعراء حلب نظما وأوسعهم نظرا في العلوم. وهو قاض من الكتاب المترسلين الذين عاشوا بالفترة العثمانية. ويعد هذا الديوان في مرحلته المتأخرة زمنيا مقارنة بالدواوين الأولى دعما لفرضية وجود غرض “الصنعويات” الذي جعل منه غزالي تساؤلا مستمرا في أبحاثه وعمل من خلاله على إيجاد مكانة له بين الأغراض الشعرية الأخرى.
وتعمل هذه الموسوعة، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، على تأسيس غرض شعري جديد، يضاف إلى قائمة الأغراض الشعرية التي عرفها العرب، كالغزليات، والطرديات، والمرثيات وغيرها. وهو غرض اصطلح عليه غزالي بـ”الصنعويات” نسبة إلى مصطلح الصنعة، الذي يعود إليه الخيميائيون للإشارة إلى مهنة الخيميائي الذي يسعى إلى صناعة الذهب.
وجاء في الكتاب أن هذا الغرض الأدبي يسمح بمساءلة واقع الشعرية إذا ما تعلق بنشاط الكيميائي الأديب. كما أنها تسمح أيضا بتحديد العلاقة بين الأدب العربي والعلوم القائمة على التجربة، في إشارة إلى “الشعر والكيمياء” من ناحية، وتحديد الأشكال الشعرية التي أنتجتها الفكرة الكيميائية مقارنة بالأنواع الكلاسيكية (قصيد، أرجوزة، تخميس…) من ناحية أخرى.
ومن الغريب، بحسب غزالي، أن يعدّ النقاد شعر الخيمياء جزءا من الشعر التعليمي، بحيث يعبّر الشاعر عن تجاربه الكيميائية بنظمه للشعر لغاية تعليمية.
ويضيف “بالمقارنة مع الشعر التعليمي في النحو مثلا، فإن الشعر الكيميائي يبدو غامضا، ولغير المطلعين يبدو مستغلقا تماما. لذا، تعتبر دراسته من عدة جوانب، صعبة المنال. فرغبة الكيميائيين في عدم إفشاء أسرارهم، وخاصة في ما يتعلق بطبيعة حجر الفلاسفة وسره، دفعتهم إلى إنتاج مؤلفات غامضة ومغلقة بشكل محكم، وقد أسهم هذا في غياب دراسة نقدية حقيقية لهذا الإرث الثقافي العربي العظيم”.
يذكر أن الخيمياء ألهمت جمهورا من الأدباء والمفكرين، مثل ذي النون المصري (توفي عام 248ه،)، وابن أميل التميمي (توفي عام 348هـ)، الطغرائي (توفي عام 513هـ) أو حتى ابن رشد الشهير (توفي عام 594هـ)، لاسيما بعد الانتقال من مرحلة التجريب البسيط خلال المرحلة الأولى من الترجمات عن اليونانية إلى التنظير ثم التعبير عن ذلك أدبيا.
ويوضح غزالي أن ابن خلدون يعرّف الخيمياء بأنها علم ينظر في المادة التي يتم بها تكوين الذهب والفضة بالصناعة. وتسمّى هذه الصناعة بعلم الكيمياء أو الخيمياء أو علم الصنعة. وتعتمد الكيمياء على خليط من الممارسات القديمة (ذات الجذور البابلية، الفرعونية والإغريقية) وعلى معارف كثيرة من بينها الفيزياء، والفلك، وعلم الرموز، وعلم المعادن والأحجار، والطب.
وينسب إلى خالد بن يزيد بن معاوية (توفي عام 85 هـ) أول تأليف في هذ النوع من الشعر التعليمي المعروف بديوانه “فردوس الحكمة” والذي يحتوي على أكثر من 2900 بيت. ويعبر هذا الديوان عن انتقال العلوم اليونانية لأول مرة إلى الثقافة العربية عن طريق الشعر وليس عن طريق النثر. وتتابع المسلمون على هذا؛ كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي، حيث اجتمع التجريب العلمي بالتحليل الفلسفي مبتعدين عما ورثوه من تصور ميتافيزيقي هو أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع.