"المرأة العاقر" للشعيبية طلال تتمرد على المسكوت عنه
فنانة عصامية مغربية تقيم على مفترق طرق النقد الاجتماعي والتفكير في واقع المرأة.
الأحد 2024/08/18
لوحة "المرأة العاقر"
تعرف الفنانة التشكيلية المغربية الشعيبية طلال بأنها من رموز الفن الفطري، وتنسب لوحاتها إلى هذه الحركة التي لا تنبع من داخل النظام الأكاديمي وإنما هي عفوية، تحركها مشاعر الفنان وخبراته، ولكن لوحاتها لم تكن مجرد انفعالات لونية فطرية، وإنما كان يحركها الوعي الدقيق، وهذا ما يبرز مثلا في لوحتها “المرأة العاقر”.
إنه الحلم، الذي قاد الشعيبية طلال (1929 – 2004) إلى الفن وعوالمه المستعصية. لم تحمل الفرشاة إلا تلبية للنداء، مثلما تحكي عن حلمها الأزرق حيث يرتدي رجل زيا أبيض أمرها بكسب “قوتها” من الفن. قد تكون هذه الفنانة هي الشخصية الأكثر رمزية للفن الخام في المغرب. ولدت في عائلة متواضعة بمدينة اشتوكة، وفقدت والدها في سن مبكرة وتزوجت في الثالثة عشرة من عمرها. وبعد أن أصبحت أرملة ولديها ابن تعوله (الفنان الراحل الحسين طلال)، تغلبت الشعيبية على العديد من العقبات لتصبح واحدة من أشهر الفنانين المغاربة.
بدأت الرسم دون أي تدريب أكاديمي، مستلهمة الرؤى التي قالت إنها تلقتها في الأحلام. غالبا ما تُعتبر أعمالها جزءا من الفن العصامي والفطري المغربي، وهي حركة تقدر العفوية والتلقائية والأصالة بما يتجاوز الأعراف الأكاديمية.
النقص والتمرد
كل لطخة وكل كتلة صباغية وكل لون تعكس وجودا ممزقا بين الكينونة والعدم وبين الرغبة في الخلق ومواجهة الاستحالة
في عالم تصوير الشعيبية طلال، التي شرعت أول مرة بإمساك فرشاتها وكأنها تسترشد بتذمر اللاوعي الجماعي، وتبني وعيها الخاص، لترسم روحها الطفولية التي تقيم عميقا في دواخلها المشبعة بالكفاح من أجل العيش والنجاح، تظهر لوحة “المرأة العاقر” (تاريخ غير محدد) كتأمل بصري في جوهر الأنوثة والفراغ والتحقق. هذا العمل، بعيدا عن كونه تمثيلا بسيطا، بل يصير مرآة مشوهة للحالة الإنسانية، إذ تعكس كل لطخة وكل كتلة صباغية وكل لون وجودا ممزقا بين الكينونة والعدم، بين الرغبة في الخلق ومواجهة الاستحالة.
يحيلنا عنوان هذا العمل على الفور إلى الموضوع الذي تناولته الشعيبية طلال. الذي يعدّ نابعا من تلك النظرة التي تتعلق غالبا بالكيفية التي يُرى بها العقم في العديد من الثقافات، بما في ذلك المغرب، على أنه مأساة شخصية واجتماعية للنساء، وتتفاقم بسبب التوقعات الثقافية والضغوط الأسرية. وهو ما يجعل المرأة، التي في الأعم ما يتم تعريفها من خلال دورها بوصفها أمّا في المجتمع المغربي التقليدي، أن ترى قيمتها تتعرض للتحدي إذا لم تتمكن من الإنجاب: إن لم يُملأ خواء بطنها.
ولم يكن ليغيب الأمر عن الشعيبية طلال، رغم كونها لم تتدرج في مسالك التعليم، إذ نقف عند عدة مواقف تدافع فيها بقوة عن المرأة وأحقيته في التعلم والتحرر، مثلما يسجل حوارها سنة 1985، الذي نشر قسما منه بيت الثقافة في غرينوبل تحت عنوان “الحضور الفني في المغرب”، واقتطفت منه فاطمة المرنيسي أجزاء في كتابها “شهرزاد ليست مغربية”.
لم تكن الشعيبية تصوّر صباغيا أو ترسم فحسب، بل كانت واعية بما تقوم به، مدركة لما تعمل عليه من “تصوير للحياة اليومية”، مثلما أوردها ابنها – على لسانه – في سيرتها الذاتية (2015، إعداد عبدالله الشيخ). وقد شكلت المرأة عنصرا هاما في جل أعمالها، إن لم تكن هي محورها الأساس. لهذا لم يكن من غير المتوقع أن تشتغل على موضوع المرأة العاقر، بوصفه صورة النقص وذريعة للتمرد.
العقم، هذا المفهوم المحمل بالمعنى، يتجاوز مجرد غياب الإنجاب. لقد أصبحت استعارة لعدم الاكتمال الوجودي، وشخصية تبحث عن معنى في عالم يُنظر فيه تقليديا إلى المرأة على أنها مصدر الحياة. في المجتمعات المغربية والعربية، الأمومة هي جزء من مصير المرأة ذاته، وهو مصير ترسمه التوقعات الثقافية والضرورات الاجتماعية. والشعيبية طلال، باختيارها تمثيل امرأة عقيم، تتحدى هذه التوقعات، وتقدم حوارا بين الطبيعة والثقافة، بين الفرد والمجتمع.
تم دمج العمل في لوحة من الألوان الأساسية – الأحمر والأزرق والأخضر – والتي لم يتم اختيارها عشوائيا، إذ تعدّ العناصر اللونية الأكثر استحواذا وحضورا في أعمال الشعيبية. تثير هذه الألوان، المشرقة والمتناقضة، الحياة والموت، العاطفة والحزن، الحيوية والسكون، وتضعنا أمام ثنائيات برادوكسية من شأنها تحريك عواطفنا وزحزحة مشاعرنا، مما يجعلنا نندمج والموضع وننخرط في عوالم اللوحة. يتحول هنا اللون الأحمر، لون الدم والحياة، إلى رمز للإمكانات غير المحققة، في حين أن اللون الأزرق، الذي غالبا ما يرتبط بالضخامة والغموض، يحيط بالشخصية الأنثوية بهالة من التأمل الكئيب.
إن التركيبة البسيطة – المعقدة – للعمل، حيث يتم تشويه النسب عمدا، توحي برؤية داخلية، نظرة لا تهتم بالتقاليد الجمالية ولكنها تغوص في أعماق اللاوعي، وتستجيب للنداء الداخلي الذي لا يراعي أي ضرورة تصويرية تراعي المحاكاة والأكاديمي، فالفنانة ترسم مثلما تتحدث، بعفوية وطلاقة.
هذا الاختيار الأسلوبي، النموذجي للفن الخام، يدعو المشاهد إلى الشعور، بدلا من الفهم، إلى إدراك جوهر العاطفة الخالصة، التي تتمرد على غربالات العقل أو الثقافة. إذ تم إنشاء العمل باستخدام الغواش، وهو وسيط يسمح بالتطبيق السريع للصباغة ويتيح للألوان الزاهية أن تشرق وتبرز على امتداد مساحة القماش، وغالبا ما يرتبط بالعفوية الخام. أما هيمنة الألوان الأساسية، إلى جانب تفضيل الفنانة الاشتغال بها، فتخلق تباينا قويا وطاقة واضحة تترجم العنفوان الداخلي، وتسمح للموضوع أن يبرز دون حاجة كثيرة إلى مساحيق تجميلية – صباغية قد تعرقل التأويل، أو تأخذه أبعد مما أريد للعمل البوح به.
لهذا يمكن أن ترمز خيارات الألوان الزاهية هذه إلى حيوية وشدة المشاعر التي تشعر بها المرأة، حتى في حالة عقمها. بينما قد يعكس غياب الألوان الناعمة أيضا قسوة وجودها أو الصراع الداخلي الذي قد تعيشه. وهي كلها طرق تعبيرية نابعة بالضرورة من حالة استجابة للاوعي.
ولا نقصد بأن الفنانة لم تكن واعية بما تروم القيام به والتعبير عنه، إنما حررت عنفوان عواطفها وتركت المساحة الأكبر للغة الباطنية والأفكار الداخلية، حتى تعبّر وتقول ما لا تستطيع الكلمات قوله والبوح به شفاهيا.
فلسفة الصمت
المرأة العاقر تصبح، كما تمثلها الشعيبية طلال، شخصية الفنانة نفسها: مبدعة تجد، رغم العوائق، طريقة لإعطاء الحياة
تنتمي أعمال الشعيبية طلال، مثلما هو متفق عليه، إلى حركة الفن الخام، وهي حركة تقدر التعبير العفوي، الخالي من التقاليد الأكاديمية الرصينة التي قد تقود التعبير إلى فخاخ المحاكاة ومتاهة الدلالات التائهة والمعاني الضالة. وعلى الرغم من أن أعمالها متجذرة في الثقافة المغربية، فإنها تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتكون جزءا من نهج عالمي بليغ الدلالة.
ومن خلال اختيار التصوير الصباغي دون أي تدريب فني رسمي، واشتغال تلقائي لا يُرّد إلى أيّ مسعى قبلي، بقدر ما هو تلبية لنداء الداخل والحلمي الميتافيزيقي الشبيه بزيارات رجال البركات للأولياء الصالحين، تقترب طلال من جوهر الإبداع، في بعده الروحاني، وهو الإبداع الذي يولد من الصمت، من الفراغ، من غياب القواعد المحددة مسبقا.
ثم تصبح المرأة العاقر، كما تمثلها طلال، شخصية الفنانة نفسها: مبدعة تجد، رغم العوائق، طريقة لإعطاء الحياة، ليس للأطفال (وهي الأم المكتفية بابن فنان واحد)، بل لأعمال تحمل آثار كيانها الداخلي، صراعاته وأحلامه. إنها امرأة، برفضها تعريف نفسها بعدم قدرتها على الإبداع (إنجاب الأفكار)، تختار الإبداع بطرق أخرى، وبالتالي تفتح إمكانيات جديدة لنفسها ولمن يأتي بعدها. وهي المرأة التي ضحت بكل شيء من أجل تربية ابنها ونجاحه، ومن ثم أخلصت لمواليدها الصباغية أيما إخلاص.
لهذا يقع عمل الشعيبية طلال أيضا على مفترق طرق النقد الاجتماعي والتفكير الفلسفي حول حالة المرأة. من خلال تمثيله لامرأة عقيمة، تندد طلال ضمنيا بالمعايير الأبوية التي تقلل من قدرة المرأة على الإنجاب. وبالتالي فإن هذا العمل بمثابة صوت للنساء المهمشات، اللاتي أصبحت وضعيتهن محط تساؤل لأنهن غير قادرات على تلبية التوقعات المجتمعية. تدعونا، بالتالي، إلى إعادة النظر في التفكير المجتمعي للمرأة، لتصور مستقبلا لا ترتبط فيه الأنوثة بالأمومة فحسب، بل بعدد كبير من الإمكانات الأخرى.
فنانة حررت عنفوان عواطفها
أنجبت الشعيبية ابنا وحيدا، وخلفت وراءها بنات أفكارها المتعددات: اللوحات، اللواتي يتحدثنا نيابة عنها، وبحال لسانها، عما كان يخالجها ويدعوها إلى التعبير والبوح الفني.. إذ لم تكن الصباغة إلا ذريعة وجودية وصيغة من صيغ القول والجهر بالمكنون.
لم تكن الفنانة عاقرا، لكن المجتمع البطريركي كان عقيم التفكير تجاه المرأة، في وضعية جلوس قرفصاء، وهو ما يمكن أن نجازف في استخلاصه من خلال هذه اللوحة. حيث تحضر الشخصية الأنثوية، منمقة بشكل عفوي، ويتم تمثيلها بأشكال دائرية وأنماط مبالغ فيها بألوان وكتل صباغية زاهية. العيون الكبيرة ويعتريها السواد ويكتسيها الحزن، تجذب الانتباه على الفور معبرة عن الألم الصامت أو الاستسلام المذعن لسلطة المجتمع. أما البطن، على الرغم من أنها فارغة، تبرز بقوة، كما لو كانت تؤكد على نوع من السخرية المأساوية لعقم المرأة – هذا المكان الذي، بطبيعته، يجب أن يحمل الحياة، أصبح هنا فراغا رمزيا. لا يملأه إلا خطوط من السواد.
غالبا ما ترتبط الدائرة، وهي فكرة متكررة في العمل بالأنوثة والخصوبة والخلود. لكن في سياق هذا العمل، تظهر الدائرة المركزية التي يمكن أن ترمز إلى الرحم، فارغة، في إحالة وتمثيل بصري لغياب الإنجاب. بينما تستحضر الزخارف المحيطة بالشخصية – المجوهرات أو الزهور أو الزخارف – السمات الثقافية المرتبطة بالمرأة، مما يعزز فكرة أنه على الرغم من أنها مزينة برموز الأنوثة، كأنها عروس تزّف لتوها لعريسها، إلا أنها محرومة من غاية مركزية هي مدار التفكير المجتمعي الشعبي.
صوت الحال
فن الشعيبية طلال امتداد لحياتها
إن فن الشعيبية طلال، الذي غالبا ما يُنظر إليه على أنه امتداد لحياتها، متجذر بعمق في حالة المرأة المغربية، وبالتالي المرأة العربية بشكل عام. من خلال أعمالها، يبدو أن الشعيبية تُعبّر عن النضالات الصامتة والحقائق غير المرئية لهؤلاء النساء اللاتي اضطررن، مثلها، إلى التنقل في المجتمعات الأبوية. موضوع العقم، على وجه الخصوص، يضرب على وتر حساس في الثقافات حيث ترتبط الأمومة ارتباطا وثيقا بالهوية الأنثوية. لهذا جعلت منها السوسيولوجية الراحلة فاطمة المرنيسي إحدى الأيقونات النسائية اللواتي تمتعن بـ”المواهب المتفجرة”.
لا تصور طلال المرأة العاقر كشخصية مأساوية مجردة من الكرامة، بل بوصفها كيانا معقدا، يحمل أعباءه ومعانيه الخاصة. ومن خلال رفض تمثيلها في ضوء الضحية (وهي التي رفضت بشدة أن توصف ضحية للأمية)، تعيد الشعيبية شكلا من القوة إلى هذه الشخصية المهمشة، من خلال الاحتفال بوجودها في فراغها.
يمكن النظر إلى هذه المعاملة على أنها نقد دقيق للتوقعات الاجتماعية والأحكام المفروضة على النساء اللاتي لا يستوفين المعايير المعمول بها.
تصور الفنانة المرأة العاقر عبر معان خاصة، وهي معان ملتبسة بالأبعاد النفسية التي جعلت الباحثة كيت ميليت تجابه فكرة فرويد عن المرأة القائلة بـ”الحسد القضيبي”، إذ عندها ليس العضو الذكري ما تحسده الأنثى، بل مقامها داخل المجتمع الذي تهيمن عليه الأنظمة الأبوية. لتعارض بذلك فكرة “الإخصاء الأنثوي” منذ الولادة، والذي يترتب عليه “الحسد”، فالوضع الاجتماعي هو الذي يوسم المرأة بصفات دون الذكر.
لهذا رفضت الشعيبية في لوحتها هذه تصوير المرأة “العاقر” في صورة الضحية. ومن خلال امتناعها هذا، تعيد الفنانة شكلا من القوة إلى هذه الشخصية المهمشة، من خلال الاحتفال بوجودها في فراغها. يمكن النظر إلى هذه المعاملة على أنها نقد دقيق للتوقعات الاجتماعية والأحكام المفروضة على النساء اللاتي لا يستوفين المعايير المعمول بها.
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
فنانة عصامية مغربية تقيم على مفترق طرق النقد الاجتماعي والتفكير في واقع المرأة.
الأحد 2024/08/18
لوحة "المرأة العاقر"
تعرف الفنانة التشكيلية المغربية الشعيبية طلال بأنها من رموز الفن الفطري، وتنسب لوحاتها إلى هذه الحركة التي لا تنبع من داخل النظام الأكاديمي وإنما هي عفوية، تحركها مشاعر الفنان وخبراته، ولكن لوحاتها لم تكن مجرد انفعالات لونية فطرية، وإنما كان يحركها الوعي الدقيق، وهذا ما يبرز مثلا في لوحتها “المرأة العاقر”.
إنه الحلم، الذي قاد الشعيبية طلال (1929 – 2004) إلى الفن وعوالمه المستعصية. لم تحمل الفرشاة إلا تلبية للنداء، مثلما تحكي عن حلمها الأزرق حيث يرتدي رجل زيا أبيض أمرها بكسب “قوتها” من الفن. قد تكون هذه الفنانة هي الشخصية الأكثر رمزية للفن الخام في المغرب. ولدت في عائلة متواضعة بمدينة اشتوكة، وفقدت والدها في سن مبكرة وتزوجت في الثالثة عشرة من عمرها. وبعد أن أصبحت أرملة ولديها ابن تعوله (الفنان الراحل الحسين طلال)، تغلبت الشعيبية على العديد من العقبات لتصبح واحدة من أشهر الفنانين المغاربة.
بدأت الرسم دون أي تدريب أكاديمي، مستلهمة الرؤى التي قالت إنها تلقتها في الأحلام. غالبا ما تُعتبر أعمالها جزءا من الفن العصامي والفطري المغربي، وهي حركة تقدر العفوية والتلقائية والأصالة بما يتجاوز الأعراف الأكاديمية.
النقص والتمرد
كل لطخة وكل كتلة صباغية وكل لون تعكس وجودا ممزقا بين الكينونة والعدم وبين الرغبة في الخلق ومواجهة الاستحالة
في عالم تصوير الشعيبية طلال، التي شرعت أول مرة بإمساك فرشاتها وكأنها تسترشد بتذمر اللاوعي الجماعي، وتبني وعيها الخاص، لترسم روحها الطفولية التي تقيم عميقا في دواخلها المشبعة بالكفاح من أجل العيش والنجاح، تظهر لوحة “المرأة العاقر” (تاريخ غير محدد) كتأمل بصري في جوهر الأنوثة والفراغ والتحقق. هذا العمل، بعيدا عن كونه تمثيلا بسيطا، بل يصير مرآة مشوهة للحالة الإنسانية، إذ تعكس كل لطخة وكل كتلة صباغية وكل لون وجودا ممزقا بين الكينونة والعدم، بين الرغبة في الخلق ومواجهة الاستحالة.
يحيلنا عنوان هذا العمل على الفور إلى الموضوع الذي تناولته الشعيبية طلال. الذي يعدّ نابعا من تلك النظرة التي تتعلق غالبا بالكيفية التي يُرى بها العقم في العديد من الثقافات، بما في ذلك المغرب، على أنه مأساة شخصية واجتماعية للنساء، وتتفاقم بسبب التوقعات الثقافية والضغوط الأسرية. وهو ما يجعل المرأة، التي في الأعم ما يتم تعريفها من خلال دورها بوصفها أمّا في المجتمع المغربي التقليدي، أن ترى قيمتها تتعرض للتحدي إذا لم تتمكن من الإنجاب: إن لم يُملأ خواء بطنها.
ولم يكن ليغيب الأمر عن الشعيبية طلال، رغم كونها لم تتدرج في مسالك التعليم، إذ نقف عند عدة مواقف تدافع فيها بقوة عن المرأة وأحقيته في التعلم والتحرر، مثلما يسجل حوارها سنة 1985، الذي نشر قسما منه بيت الثقافة في غرينوبل تحت عنوان “الحضور الفني في المغرب”، واقتطفت منه فاطمة المرنيسي أجزاء في كتابها “شهرزاد ليست مغربية”.
لم تكن الشعيبية تصوّر صباغيا أو ترسم فحسب، بل كانت واعية بما تقوم به، مدركة لما تعمل عليه من “تصوير للحياة اليومية”، مثلما أوردها ابنها – على لسانه – في سيرتها الذاتية (2015، إعداد عبدالله الشيخ). وقد شكلت المرأة عنصرا هاما في جل أعمالها، إن لم تكن هي محورها الأساس. لهذا لم يكن من غير المتوقع أن تشتغل على موضوع المرأة العاقر، بوصفه صورة النقص وذريعة للتمرد.
العقم، هذا المفهوم المحمل بالمعنى، يتجاوز مجرد غياب الإنجاب. لقد أصبحت استعارة لعدم الاكتمال الوجودي، وشخصية تبحث عن معنى في عالم يُنظر فيه تقليديا إلى المرأة على أنها مصدر الحياة. في المجتمعات المغربية والعربية، الأمومة هي جزء من مصير المرأة ذاته، وهو مصير ترسمه التوقعات الثقافية والضرورات الاجتماعية. والشعيبية طلال، باختيارها تمثيل امرأة عقيم، تتحدى هذه التوقعات، وتقدم حوارا بين الطبيعة والثقافة، بين الفرد والمجتمع.
تم دمج العمل في لوحة من الألوان الأساسية – الأحمر والأزرق والأخضر – والتي لم يتم اختيارها عشوائيا، إذ تعدّ العناصر اللونية الأكثر استحواذا وحضورا في أعمال الشعيبية. تثير هذه الألوان، المشرقة والمتناقضة، الحياة والموت، العاطفة والحزن، الحيوية والسكون، وتضعنا أمام ثنائيات برادوكسية من شأنها تحريك عواطفنا وزحزحة مشاعرنا، مما يجعلنا نندمج والموضع وننخرط في عوالم اللوحة. يتحول هنا اللون الأحمر، لون الدم والحياة، إلى رمز للإمكانات غير المحققة، في حين أن اللون الأزرق، الذي غالبا ما يرتبط بالضخامة والغموض، يحيط بالشخصية الأنثوية بهالة من التأمل الكئيب.
إن التركيبة البسيطة – المعقدة – للعمل، حيث يتم تشويه النسب عمدا، توحي برؤية داخلية، نظرة لا تهتم بالتقاليد الجمالية ولكنها تغوص في أعماق اللاوعي، وتستجيب للنداء الداخلي الذي لا يراعي أي ضرورة تصويرية تراعي المحاكاة والأكاديمي، فالفنانة ترسم مثلما تتحدث، بعفوية وطلاقة.
هذا الاختيار الأسلوبي، النموذجي للفن الخام، يدعو المشاهد إلى الشعور، بدلا من الفهم، إلى إدراك جوهر العاطفة الخالصة، التي تتمرد على غربالات العقل أو الثقافة. إذ تم إنشاء العمل باستخدام الغواش، وهو وسيط يسمح بالتطبيق السريع للصباغة ويتيح للألوان الزاهية أن تشرق وتبرز على امتداد مساحة القماش، وغالبا ما يرتبط بالعفوية الخام. أما هيمنة الألوان الأساسية، إلى جانب تفضيل الفنانة الاشتغال بها، فتخلق تباينا قويا وطاقة واضحة تترجم العنفوان الداخلي، وتسمح للموضوع أن يبرز دون حاجة كثيرة إلى مساحيق تجميلية – صباغية قد تعرقل التأويل، أو تأخذه أبعد مما أريد للعمل البوح به.
لهذا يمكن أن ترمز خيارات الألوان الزاهية هذه إلى حيوية وشدة المشاعر التي تشعر بها المرأة، حتى في حالة عقمها. بينما قد يعكس غياب الألوان الناعمة أيضا قسوة وجودها أو الصراع الداخلي الذي قد تعيشه. وهي كلها طرق تعبيرية نابعة بالضرورة من حالة استجابة للاوعي.
ولا نقصد بأن الفنانة لم تكن واعية بما تروم القيام به والتعبير عنه، إنما حررت عنفوان عواطفها وتركت المساحة الأكبر للغة الباطنية والأفكار الداخلية، حتى تعبّر وتقول ما لا تستطيع الكلمات قوله والبوح به شفاهيا.
فلسفة الصمت
المرأة العاقر تصبح، كما تمثلها الشعيبية طلال، شخصية الفنانة نفسها: مبدعة تجد، رغم العوائق، طريقة لإعطاء الحياة
تنتمي أعمال الشعيبية طلال، مثلما هو متفق عليه، إلى حركة الفن الخام، وهي حركة تقدر التعبير العفوي، الخالي من التقاليد الأكاديمية الرصينة التي قد تقود التعبير إلى فخاخ المحاكاة ومتاهة الدلالات التائهة والمعاني الضالة. وعلى الرغم من أن أعمالها متجذرة في الثقافة المغربية، فإنها تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتكون جزءا من نهج عالمي بليغ الدلالة.
ومن خلال اختيار التصوير الصباغي دون أي تدريب فني رسمي، واشتغال تلقائي لا يُرّد إلى أيّ مسعى قبلي، بقدر ما هو تلبية لنداء الداخل والحلمي الميتافيزيقي الشبيه بزيارات رجال البركات للأولياء الصالحين، تقترب طلال من جوهر الإبداع، في بعده الروحاني، وهو الإبداع الذي يولد من الصمت، من الفراغ، من غياب القواعد المحددة مسبقا.
ثم تصبح المرأة العاقر، كما تمثلها طلال، شخصية الفنانة نفسها: مبدعة تجد، رغم العوائق، طريقة لإعطاء الحياة، ليس للأطفال (وهي الأم المكتفية بابن فنان واحد)، بل لأعمال تحمل آثار كيانها الداخلي، صراعاته وأحلامه. إنها امرأة، برفضها تعريف نفسها بعدم قدرتها على الإبداع (إنجاب الأفكار)، تختار الإبداع بطرق أخرى، وبالتالي تفتح إمكانيات جديدة لنفسها ولمن يأتي بعدها. وهي المرأة التي ضحت بكل شيء من أجل تربية ابنها ونجاحه، ومن ثم أخلصت لمواليدها الصباغية أيما إخلاص.
لهذا يقع عمل الشعيبية طلال أيضا على مفترق طرق النقد الاجتماعي والتفكير الفلسفي حول حالة المرأة. من خلال تمثيله لامرأة عقيمة، تندد طلال ضمنيا بالمعايير الأبوية التي تقلل من قدرة المرأة على الإنجاب. وبالتالي فإن هذا العمل بمثابة صوت للنساء المهمشات، اللاتي أصبحت وضعيتهن محط تساؤل لأنهن غير قادرات على تلبية التوقعات المجتمعية. تدعونا، بالتالي، إلى إعادة النظر في التفكير المجتمعي للمرأة، لتصور مستقبلا لا ترتبط فيه الأنوثة بالأمومة فحسب، بل بعدد كبير من الإمكانات الأخرى.
فنانة حررت عنفوان عواطفها
أنجبت الشعيبية ابنا وحيدا، وخلفت وراءها بنات أفكارها المتعددات: اللوحات، اللواتي يتحدثنا نيابة عنها، وبحال لسانها، عما كان يخالجها ويدعوها إلى التعبير والبوح الفني.. إذ لم تكن الصباغة إلا ذريعة وجودية وصيغة من صيغ القول والجهر بالمكنون.
لم تكن الفنانة عاقرا، لكن المجتمع البطريركي كان عقيم التفكير تجاه المرأة، في وضعية جلوس قرفصاء، وهو ما يمكن أن نجازف في استخلاصه من خلال هذه اللوحة. حيث تحضر الشخصية الأنثوية، منمقة بشكل عفوي، ويتم تمثيلها بأشكال دائرية وأنماط مبالغ فيها بألوان وكتل صباغية زاهية. العيون الكبيرة ويعتريها السواد ويكتسيها الحزن، تجذب الانتباه على الفور معبرة عن الألم الصامت أو الاستسلام المذعن لسلطة المجتمع. أما البطن، على الرغم من أنها فارغة، تبرز بقوة، كما لو كانت تؤكد على نوع من السخرية المأساوية لعقم المرأة – هذا المكان الذي، بطبيعته، يجب أن يحمل الحياة، أصبح هنا فراغا رمزيا. لا يملأه إلا خطوط من السواد.
غالبا ما ترتبط الدائرة، وهي فكرة متكررة في العمل بالأنوثة والخصوبة والخلود. لكن في سياق هذا العمل، تظهر الدائرة المركزية التي يمكن أن ترمز إلى الرحم، فارغة، في إحالة وتمثيل بصري لغياب الإنجاب. بينما تستحضر الزخارف المحيطة بالشخصية – المجوهرات أو الزهور أو الزخارف – السمات الثقافية المرتبطة بالمرأة، مما يعزز فكرة أنه على الرغم من أنها مزينة برموز الأنوثة، كأنها عروس تزّف لتوها لعريسها، إلا أنها محرومة من غاية مركزية هي مدار التفكير المجتمعي الشعبي.
صوت الحال
فن الشعيبية طلال امتداد لحياتها
إن فن الشعيبية طلال، الذي غالبا ما يُنظر إليه على أنه امتداد لحياتها، متجذر بعمق في حالة المرأة المغربية، وبالتالي المرأة العربية بشكل عام. من خلال أعمالها، يبدو أن الشعيبية تُعبّر عن النضالات الصامتة والحقائق غير المرئية لهؤلاء النساء اللاتي اضطررن، مثلها، إلى التنقل في المجتمعات الأبوية. موضوع العقم، على وجه الخصوص، يضرب على وتر حساس في الثقافات حيث ترتبط الأمومة ارتباطا وثيقا بالهوية الأنثوية. لهذا جعلت منها السوسيولوجية الراحلة فاطمة المرنيسي إحدى الأيقونات النسائية اللواتي تمتعن بـ”المواهب المتفجرة”.
لا تصور طلال المرأة العاقر كشخصية مأساوية مجردة من الكرامة، بل بوصفها كيانا معقدا، يحمل أعباءه ومعانيه الخاصة. ومن خلال رفض تمثيلها في ضوء الضحية (وهي التي رفضت بشدة أن توصف ضحية للأمية)، تعيد الشعيبية شكلا من القوة إلى هذه الشخصية المهمشة، من خلال الاحتفال بوجودها في فراغها.
الفنانة لا تصور المرأة العاقر شخصية مأساوية مجردة من الكرامة بل بوصفها كيانا معقدا يحمل أعباءه ومعانيه الخاصة
يمكن النظر إلى هذه المعاملة على أنها نقد دقيق للتوقعات الاجتماعية والأحكام المفروضة على النساء اللاتي لا يستوفين المعايير المعمول بها.
تصور الفنانة المرأة العاقر عبر معان خاصة، وهي معان ملتبسة بالأبعاد النفسية التي جعلت الباحثة كيت ميليت تجابه فكرة فرويد عن المرأة القائلة بـ”الحسد القضيبي”، إذ عندها ليس العضو الذكري ما تحسده الأنثى، بل مقامها داخل المجتمع الذي تهيمن عليه الأنظمة الأبوية. لتعارض بذلك فكرة “الإخصاء الأنثوي” منذ الولادة، والذي يترتب عليه “الحسد”، فالوضع الاجتماعي هو الذي يوسم المرأة بصفات دون الذكر.
لهذا رفضت الشعيبية في لوحتها هذه تصوير المرأة “العاقر” في صورة الضحية. ومن خلال امتناعها هذا، تعيد الفنانة شكلا من القوة إلى هذه الشخصية المهمشة، من خلال الاحتفال بوجودها في فراغها. يمكن النظر إلى هذه المعاملة على أنها نقد دقيق للتوقعات الاجتماعية والأحكام المفروضة على النساء اللاتي لا يستوفين المعايير المعمول بها.
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي