Saad Alkassem
تتوقف حلقة اليوم من (متحف الوطن الافتراضي) عند الفنان محمد غالب سالم (1910- 1983) الذي نعرفه من لوحة واحدة. والذي تلتقي الكتابات عند اعتباره أحد رواد الفن التشكيلي في حلب، ويرد اسمه عند الحديث عن فنانين حلبيين كبار أمثال: فتحي محمد قباوة، فاتح المدرس، طالب يازجي، وحيد إستنبولي، وحزقيال طوروس. على أنه أستاذ لهم. وكان بينه وبين فتحي محمد رسائل تمثل آراء كل منهما في الفن التشكيلي. وجاء في سيرة فاتح المدرس أنه في مدرسـة التجهيز الأولى (ثانوية المأمون) في حلب، تعرَّف على أساتذة الفنون: منيب النقشبندي وغالب سالم ووهبي الحريري، وأخذ عنهم المبادئ المدرسية لفن الرسم والثقافة الفنية. غير أن تلك الكتابات - مع ندرتها – تكاد تقصر سيرة غالب سالم كفنان تشكيلي على ما سبق، وبالمقابل يغيب اسمه عن كثير من المؤلفات المرجعية عن الفن التشكيلي السوري، بما في ذلك قاموس (الفن للجميع) لسعد الله مقصود. وتستثنى من ذلك نصوص الفنانين - الناقدين: محمود مكي، وطاهر البني. التي تمثل المرجع الأساس عن مجمل سيرته الحياتية والفنية.
قد يكون مرد ما سبق ندرة أعمال غالب سالم التي قيل إنها لم تتعد الثلاثين لوحة، نعرف منها بشكل موثوق لوحة زيتية صغيرة ( 30x25سم) بلا عنوان ولا تاريخ، تصور مشهداً طبيعياً، وقد أصابت ألوانها بعض التشققات، على الأرجح بسبب سوء الحفظ، إذ لا يمكن أن يكون سبب ذلك خطأ في تحضير اللوحة من قبل الفنان الدارس في روما. وسوى هذه اللوحة من الصعب أن نعثر على صور منشورة للوحاته فيما عدا لوحتين غير مؤرختين أيضاً، إحداهما تصور دربا صاعداً في حلب القديمة بأسلوب واقعي مدرسي، والثانية ترمز للشهادة، وتصور ثلاثة رجال قتلى مقيدين إلى أعمدة وكأنهم أعدموا عليها، وكلا اللوحتين (كما تبدوان من صورتيهما) تطغى عليهما الألوان ذات اللون الترابي الحار، وتتحدث بعض النصوص عن عدد من لوحاته، مثل لوحة (قوس النصر) المنفذة بالطباعة بواسطة اللينوليوم، وعن لوحة للزعيم إبراهيم هنانو صورها إثر رحيله وقدمها تحية له في حفل تأبينه، ولوحات غيرها تصور الطبيعة والحياة اليومية، والأوابد الأثرية في حلب، وفي مقدمتها قلعتها التاريخية. ومع أن بعض النصوص تتحدث عن مشاركته في المعـارض الرسمية التي أقامتها وزارة المعـارف ومديرية الآثار والمتاحف بدمشق منذ مطلع الخمسينيات مع عدد من الفنانين الذين شكلوا الطليعة الفنية في مدينة حلب. إلا أننا لا نجد في سجل المعرض السنوي ما يشير إلى مشاركة الفنان فيه على امتداد سنوات الخمسينات، وعلى الأرجح فإن المتحف الوطني لا يضم أي لوحة له (إلا إذا أفادت السيدة هيام دركل، الأمينة التاريخية لقسم الفن الحديث، بغير ذلك).
تُرد ندرة أعمال غالب سالم إلى انشغاله، في بداية حياته، بالنضال الوطني ضد ضد الاحتلال الفرنسي، وكان يحظى بتقدير الزعيم إبراهيم هنانو، وقد حاول الفرنسيون اعتقاله عدة مرات ولكنه كان يتوارى عن الأنظار وفي النهاية طرده المستعمرون الفرنسيون من جميع وظائفه. كما ساهم في ندرة لوحاته انشغاله بتأليف الكتب الفنية، ثم وجوده في مناصب رسمية متعددة، وخاصة عمله الهام كخبير بصمات لدى المحاكم، وكموجه اختصاصي في مديرية التربية خلال زمن الوحدة وما بعدها. وفي الفترة الأخيرة من حياته انشغاله عن الإنتاج الفني بالتأليف والكتابة، بالإضافة إلى ظروفه الحياتية والمعيشية الصعبة ومتطلباتها المادية في ذلك الوقت، وخاصة بعد أن أصبح رب أسرة.
في مطلع القرن العشرين تأسـس المكتب السلطاني (ثانوية المأمون) بحلب وعُيّن الفنان منيب النقشبندي أول مدرس للفنون فيه، وكان غالب سالم من طلابه فتوسط النقشبندي، الذي أعجب بموهبة طالبه، عند الزعيم هنانو لإيفاد سالم للدراسة في روما. فبعث هنانو بأحد أعوانه إلى قنصل ايطالياً لتأمين منحة دراسية وسرعان ما تابع سالم دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وعاد منها عام 1936 كأول فنان حلبي نال شهادة عليا بالفنون الجميلة. وكحال جيل الرواد التزم غالب سالم بالأسلوب الواقعي التسجيلي، فيما عدا لوحته (الشهيد). وتقدم لوحة المشهد الطبيعي التي أشرنا إليها فكرة عن أسلوبه المتميز باستخدام عجينة لونية كثيفة عبر ضربات ريشة سريعة. غير أن الجانب الأهم في ريادة غالب سالم يتمثل في دوره المؤثر في التعليم الفني، وفي الثقافة الفنية النظرية. فقد درّس في أكثر مدارس حلب، وأخرها مدرسة عبد الحميد الزهراوي. وكان - كما ورد سابقاً - موجهاً اختصاصياً لمادة الفنون خلال سنوات طويلة. وساهم في وضع المناهج الفنية للمدارس، ولكلية الهندسة في جامعة حلب فور تأسيسها عام 1946، وهنا لابد من الإشارة إلى أنه ورد في بعض المواقع الإعلامية أنه وضع منهاج كلية الفنون الجميلة، وهذه المعلومة هي واحدة من المعلومات الخاطئة التي تحفل بها تلك المواقع، فكلية الفنون الجميلة بدمشق أسست بعد خمسة عشر سنة من وضع المنهاج، ولم تكن له أي علاقة بها. وكلية الفنون في جامعة حلب أسست عام 2006 أي بعد رحيله بأكثر من عشرين سنة.
في عام 1945 أصدر كتابه المدرسي الأول (الموجز في تاريخ الفنون) الذي يُعرِّف برحلة الفن التشكيلي عبر التاريخ، واتجاهاته، ومدارسه. وقدمه بالحديث عن أهمية الفن وأثره في الحياة. وأتبعه عام 1961 بكتابه الثاني (رسالة في التصوير الزيتي) وهو الأول من نوعه في تاريخ الفن التشكيلي السوري. وقد تناول فيه بأسلوب علمي متطور، غير معهود في تلك الفترة الزمنية، الجانب التقني في عمل اللوحة، وجاء فيه: «يحتاج الفنان إلى معرفة طبيعة الألوان وطرق تركيبها الكيماوي لتبقى صامدة لعاديات الزمن» وهذا الرأي يدعم القول بأن التشققات التي أصابت ألوان لوحته عن المشهد الطبيعي، كانت على الأرجح بسبب سوء الحفظ.
إثر عودته من روما حرص غالب سالم على نقل معارفه إلى القارئ العربي، مستثمراً ثقافته الإيطالية، ولغته العربية السليمة السلسة. فبدأ بنشر مقالات معربة ومترجمة في المجلتين المصريتين المرموقتين (الكاتب المصري) التي كان يرأس تحريرها طه حسين، و (الرسالة) وكان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات، ونقرأ في عددها الصادر في 8 أب/ أغسطس 1938 مقالة نادرة عن فنان عصر النهضة فرنشيسكو فرنشا قام غالب سالم بترجمتها عن الإيطالية، وأعاد صياغتها بلغة جميلة رقيقة.
يقول محمود مكي في مقالة نشرها في العدد 94 من مجلة (الحياة التشكيلية) عام 2012 « يمكن اعتباره غالب سالم أول من كتب النقد الفني العلمي بمفهومه الحديث. لأنه كتب بأسلوب علمي وصيغ فنية جديدة ومعاصرة، مثل كلمات: (الأنسجة – ضربات الريشة – نظريات المنظور – اليد الحرة – الألوان الشفافة).. وله بحث في مفردات اللغة العربية ولاسيما المفردات الفنية والألوان وما يدور حولها، أسماه (زاد الكتاب). كما كتب في الأمثال الشعبية الحلبية وله فيها مخطوط، وقد استعان به المؤرخ يوسف قوشاقجي والعلامة الأديب خير الدين الأسدي. إن كتاباته تعتبر في حينها (بداية منتصف القرن العشرين) رائدة في تاريخ النقد التشكيلي السوري المعاصر بالمعنى التاريخي والتطبيقي للفن»
حول رأي غالب سالم في النقد الفني ووظيفته قال في مقابله أجراها معه مكي ونشرت في مجلة (هنا دمشق) في الشهر السادس من عام 1983: «أعتبره مرآة تعكس العمل الفني بإيجابياته وسلبياته لهذا ينبغي أن يتحلى الناقد بأخلاق الأب وصفات الصديق، يجب أن يكون موجها لا مخربا».
https://alwatan.sy/archives/304005
Jalal Shekho، Abdalrazzaq Moaz
فدوى صالح
- الله يعطيك العافية يا استاذ