شاهد: الجبال في كوريا الجنوبية.. رياضة وأدب وأساطير
الجبال في تراث كوريا الجنوبية ليست مجرد تضاريس، إنها كائنات حية تتفاعل مع بعضها وتتفاعل مع الإنسان، فالكوريون يعرفون جبالهم كما يعرفون أبناءهم ويتفننون في تسميتها.
مدة الفيديو 04 minutes 14 seconds04:14
ياسين الكزباري
19/5/2021
سكن الكوريون الجبال فسكنت الجبال عقولهم وتلبّست أرواحهم، وأصبحت قبلتهم ومهوى أفئدتهم لقضاء أوقات الفراغ والتخلص من ضغوط الحياة وهمومها.
وهكذا صار تسلق الجبال الرياضة الشعبية الأولى في البلاد، فصباح أيام السبت والأحد ترى الكوريين كبارا وصغارا وجهتهم قمم الجبال، فهذا صاعد جيريسان، وذاك هاللاسان، وثالث تيبيكسان.
اقرأ أيضا
list of 2 itemslist 1 of 2"أنا صرت مسلمة".. مدونة فيديو كورية تفاجئ متابعيها بنطق الشهادتين بعد إنكار للأديان
list 2 of 2نيجيرية أو كورية.. سيدة في طريقها لقيادة منظمة التجارة العالمية لأول مرة
end of list
وكون الجبال تمثل 70% من مساحة كوريا الجنوبية جعلها واحدة من أكثر دول العالم وعورة، والدولة الثالثة كثافة سكانية، وأفرز أهم الموضوعات حضورا في الخيال الشعبي والأدب الكوري بآلاف العناوين القديمة والحديثة في الشعر والرواية والمذكرات.
من فوق قمة بوكانسان يمكن رؤية الأفق على مسافة 100 كيلومتر (الجزيرة)أكثر من رياضة
وفي دراسة أجرتها مؤسسة غالوب سنة 2015 وجد أن 28% من البالغين الكوريين صعدوا الجبل مرة في الشهر، و77% منهم صعدوه مرة في السنة، وفي أكتوبر/تشرين الأول من تلك السنة صعد 720 ألف شخص جبل سوراكسان، 100 ألف منهم صعدوه خلال يومين فقط.
ودخل جبل بوكانسان موسوعة غينيس للأرقام القياسية، إذ تجاوز عدد زوّاره 5 ملايين سنويا، ثم ارتفع ليبلغ 10 ملايين.
وهذا الشغف بصعود الجبال ليس أمرا جديدا، إذ إن أقدم توثيق أدبي لتسلق جبل في كوريا يعود تاريخه لعام 30 قبل الميلاد، حين صعد أحد أمراء مملكة غوغوريو جبلَ بوكانسان، وسجل مشاهداته وتأملاته وإعجابه بالمنطقة التي أصبحت لاحقا سول عاصمة البلاد.
ومع مرور الزمن تطور نوع أدبي فريد في كوريا في عصر مملكة جوسون (من القرن الرابع إلى 19)، اسمه "يوسانغي"، وهو فن خاص بأدب تسلق الجبال.
ضريح صغير تظهر خلفه إحدى قمم بوكانسان الثلاث التي يتسلقها المحترفون (الجزيرة)ليست مجرد صخور
والجبال في التراث الكوري ليست مجرد تضاريس، إنها كائنات حية تتفاعل مع بعضها وتتفاعل مع الإنسان.
والكوريون يعرفون جبالهم كما يعرفون أبناءهم، فيتفننون في تسميتها، فهذا جبل الحكمة الرائعة (جيريسان)، وذاك جبل الأقمار التسعة (غوولسان)، وجبل الكنوز السبعة (تجيلبوسان)، وجبل الألماس (غومغانغسان)، والجبل الذهبي (غومسان)، وجبل البئر الذهبية (غومجونغسان)، والجبل السحري (مابوبيسان)، وجبل العطر السري (ميوهيانغسان)، وجبل نور القمر (وولميونغسان)، وجبل الشمس والقمر (إيلوولسان)، وجبل الماء المنهمر (سوراكسان).
أساطير قديمة
ولكل جبل أسطورة تحكى، وتعود جذورها إلى المعتقدات الشامانية القديمة، إذ سادت في العصور القديمة عبادة أرواح الجبال. فهذا الجبل جاء إلى مكانه مشيا، والآخر جرفه طوفان، وذاك جاء به العمالقة على أكتافهم، وتلك جبال أنشأها العمالقة بأقدامهم وهم يرقصون بين الأودية، أما الأخرى فليست إلا أسنان عمالقة ماتوا، بل بعضها طاردتها الأرواح.
اشترك في
النشرة البريدية الأسبوعية: سياسة
حصاد سياسي من الجزيرة نت لأهم ملفات المنطقة والعالم.
اشترك الآن
عند قيامكم بالتسجيل، فهذا يعني موافقتكم على سياسة الخصوصية للشبكة
محمي بخدمة reCAPTCHA
وللجبال في التراث الكوري أرواح فهي تحزن وتفرح وتغضب وتغار وتكافئ وتعاقب، كقصة الجبل الذي أراد أن يصبح عاصمة للمملكة، لولا أن جبلا آخر سبقه إلى مكانها، فلا يزالان متنافسين متشاكسين، أو قصة الجبل الذي أهدى الرجلَ الفقيرَ قدرا سحريا يحول حبات الرز القليلة إلى كميات كبيرة تشبع كل العائلة، فلما صارت العائلة غنية حضر الجشع والطمع، فتنازع الأبناء على القدر، فإذ بالجبل يعاقبهم، فيختفي القدر إلى الأبد.
ولزهرة أزاليا الجبل كذلك أسطورة، إذ عاشت امرأة عاقر اسمها يونجين عند سفح جبل جيريسان، فزارها يوما الدب وأخبرها عن نبع ماء سحري إن شربت منه أنجبت. ولما فعلت، سمع النمر تحاورهما، فأخبر روحَ جبل جيريسان الذي حكم على يونجين بأن تقضي ما تبقى من عمرها تزرع زهور الأزاليا بين أجرافه، فراحت تفعل ذلك حتى جرح إصبعها وسالت قطرة دم أكسبت زهرة الأزاليا لونها القرمزي الأخاذ، وبذلك أصبح جيريسان يلد الزهر من الصخور.
شفاطات هوائية عند سفح الجبل لتنظيف الملابس من الأتربة و الغبار (الجزيرة)تسلق في الجغرافيا وغوص في التاريخ
وعام 2008 أقرّت وزارة البيئة الكورية إنشاء مسار جبلي بطول 2500 كيلومتر، يربط المسارات الجبلية القديمة بالأنهار الخمسة الرئيسة، ويمر عبر شواطئ وغابات ومزارات دينية.
والمسار مبني على أساس اليوسانغي، وهي 600 مذكرة أدبية، دوّنها أدباء وأمراء ونبلاء لتأملاتهم وتجاربهم في صعود الجبال، وتغطي المذكرات 5 قرون هي عمر مملكة جوسون، وعلى طول هذا المسار الجبلي وضعت مئات اللوحات التي تسرد مقتطفات من تلك المذكرات، ومشاهد من أحداث تاريخية وقعت في تلك الأماكن.
ويمر المسار عبر جبال ذات أهمية تاريخية، مثل جبل الموت (سابيسان) وجبل الملاجئ العشرة (غاياسان)، وجبل الاحتفال (يولغيونغسان)، وجبل الملك جو (جوانغسان). وكذلك عبر جبال ذات أهمية دينية، مثل جبل الطاو (داوونغسان)، وجبل صخرة بوذا (بولامسان)، وجبل المانترا -المهدي المنتظر في الثقافة البوذية- (ميروكسان). وهكذا يكون تسلق الجبال رحلة في الذاكرة وتجربة روحية أيضا.
رحلة صعود جبل بوكانسان
يعني اسمه "الجبل (سان) الشمالي (بوكا)" أي الواقع شمال نهر الهان، ويتكون من مجموعة قمم جبلية متفاوتة الارتفاع، تشكل حلقة نصف دائرية تحيط بالعاصمة سول من الجهات الثلاث الشرقية والشمالية والغربية، في حين يحيط بها نهر الهان من الجهة الجنوبية.
وإذ كانت التهديدات الخارجية تأتي غالبا من الشمال، فقد سميت جبال بوكانسان بالجبال الحارسة، فمنها الحارس الشمالي (بوكاكسان)، والحارس الشرقي (ناكسان)، والحارس ذو التلال الأربع (سادونغسان)، والحارس الرئيسي، ذو القرون الثلاثة (سامغاكسان)، وهو الذي يسمى تجاوزا بوكانسان، وقد تحول إلى متنزه وطني مساحته 80 كيلومترا مربعا، ويبعد عن مركز العاصمة 14 كيلومترا فقط.
بدأتُ رحلة تسلق الجبل بركوب قطار الأنفاق المؤدي إلى المتنزه الجبلي، وقد استوحي تصميم القطار من المناظر الطبيعية للجبل.
واخترت أسهل المسارات وأقصرها، فسرت ساعة بمحاذاة غدير بيكونتشون الرقراق، مستمتعا بسيمفونية خلابة، ألحانُها خريرُ المياه وزقزقة العصافير وحفيفُ أشجار الكرز والسنديان.
ثم أخذت زاوية الانحدار في الارتفاع، إلى أن بلغت نهاية الشطر الأول عند معبد دوسونسا، فكانت فرصة لأستريح وأتزود بالماء. وما إن اقتربت من المعبد حتى رحبت بي سيدة مسنّة وقدمت لي قهوة دافئة، على عادة القيّمين على المعابد في الترحاب بالضيوف. ودوسونسا هو أكبر معبد في المتنزه، وقد أقيم قبل 1100 سنة لكنه ليس الوحيد، إذ يوجد في المتنزه أزيد من 100 معبد وضريح.
بعد رحلة التسلق الشاقة يتشارك الكوريون وجبات الطعام على قمة الجبل (الجزيرة)
ثم دخلت الشطر الثاني، فصارت زاوية الانحدار 45 درجة، وزادت الوعورة والمشقة، وصارت تحيط بالمسار أشجار الكافور والصنوبر والقيقب والكستناء والصفصاف والدردار وقد بدأت تنبت أوراقها بعد شتاء طويل، أما أزهار الأزاليا الوردية والسوسن البنفسجية فقد أخذت تسفر عن جمالها على استحياء.
وبعد مسير ساعة ونصف الساعة، بلغت نهاية الشطر الثاني، عند سور حصن بوكانسان، وهو حصن تاريخي أنشئ منذ 19 قرنا، لسدّ فجوة في حلقة الجبال المحيطة بالعاصمة، ثم تمت توسعته مرات عدة، مرة لصدّ الغزو المغولي في القرن 13، ومرة لصد الغزو الياباني في القرن 16، وأخرى لصد الغزو المنشوري في القرن 17. ويحتوي الحصن على 120 غرفة و14 بوابة و13 معبدا، و7 نقاط عسكرية.
ونال مني التعب وفكرت بالتراجع لكن العدول عن صعود الجبل يشبه عندنا التولي يوم الزحف، فهو عار كبير ودليل ضعف العزيمة وخور الهمة.
أما الشطر الأخير فيتشكل من صخور غرانيتية عملاقة، وزاوية انحدار شديد، ولا يمكن تسلق بعض أجزائه من دون حبال، لذلك وضعت إدارة المتنزه قضبانا وحبالا معدنية على جنبات المسار ليستعين بها المتسلقون. وحين تظهر القمة من بعيد، ويدرك المتسلقون قرب الوصول، فإن تعبهم يتلاشى ويتشوقون إلى لحظة الوقوف على القمة كالأبطال المنتصرين.
الولادة من جديد
ومن فوق قمة بوكانسان، وقفت أتأمل العالم في الأسفل، وأرى الأفق المتلألئ على بعد 100 كيلومتر، في حين وقف المتسلقون الكوريون يستمتعون بلحظات السلام بعيدا عن هموم الأرض، أو كما قال شاعر الجبال كيم كوانغ كيو، في قصيدته "قلب جبل كوناكسان":
"حين تنبت الكآبة في قلبي
أغادر منزلي الهادئ
وأذهب بعيدا إلى الجبال
وحين أرجع من كوناكسان
الجبل الذي أصبح تلّة بلا اسم
أجدني قد ولدت من جديد".
المصدر : الجزيرة