كتب بودريار .. عن الواقع الفائق ومجتمع الاستهلاك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتب بودريار .. عن الواقع الفائق ومجتمع الاستهلاك


    (٤-١٠) الواقع الفائق ومجتمع الاستهلاك
    كان موضوع الاستهلاك من الموضوعات التي لاقت اهتمامًا كبيرًا لدى بودريار منذ مؤلَّفاته المبكرة. وقد خصَّص بودريار مؤلَّفه الأول نظام الأشياء Le Système des objets (١٩٦٨م) لمناقشته، ثم ظلَّ حاضرًا في مؤلَّفاته اللاحقة: مجتمع الاستهلاك La Société de Consommation (١٩٧٠م)، نحو نقد الاقتصاد السياسي للرمز Pour une Critique de l’économie Politique du Signe (١٩٧٢م)، مرآة الإنتاج Le Miroir de la Production (١٩٧٣م)، التبادل الرمزي والموت L’Échange symbolique et la mort (١٩٧٦م)، في الإغواء De la seduction (١٩٧٩م)، وأخيرًا في كتابه التبادل المستحيل L’Échange impossible (١٩٩٩م). على أن ما يُهمنا في سياقنا هذا علاقة مفهوم الاستهلاك بمفهومَي الصورة والواقع الفائق، وهو ما سينصب عليه تحليلنا.
    يبدأ بودريار كتابه «نظام الأشياء»٢٦٨ بتقديمِ وصفٍ لمنزل برجوازي نموذجي، بأثاثه، ولا سيما المرايا والخشب والإنارة، و… إلخ. ليصل في النهاية إلى أن المجتمع سيطرت عليه أسطورة الاستهلاك المفرط إلى حد اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه. وفي القسم الثاني من الكتاب يحلِّل بودريار «النظام الاجتماعي-الأيديولوجي للاستهلاك وموضوعاته»، وهو يرى أن «مواضيع الاستهلاك صارت اليوم أكثر تعقيدًا من سلوك الناس المتعلِّق بها.»٢٦٩ فقيمة الأشياء لم تَعُد تتوقَّف فقط على منفعتها، بل دخلت متغيرات أخرى إلى معادلة استهلاك الأشياء، وأصبحت هي المتحكِّم الفعلي في فعل الشراء؛ فالسيارة التي يرغب الجميع في اقتنائها هي السيارة الأفخم والأجمل والأقوى، ولم يَعُد الأمر متوقفًا فقط على الوظيفة التقليدية للسيارة المتمثلة في كونها وسيلة انتقال «لقد تغيَّرت طبيعة الأشياء، بحيث صار اقتناؤها منزوعًا من غائيته الأصلية ليدخل في مدارٍ آخَر مختلف، وقد انعكس ذلك على مضمون السِّلعة ذاتها وعلى سلوك المستهلِك.»٢٧٠
    لطالما استُخدمت الصور للترويج للمنتجات الاستهلاكية بوصفها أداة جذب تنقل المنتج من مدار الواقع إلى مدار الإغواء. وقد أكد رولان بارت في سياق تحليله لنسق الأزياء على هذا المعنى «فكيما يتم تعطيل القدرة الحسابية للمشتري يجب أن يُقام حجابٌ حول السلعة — حجاب من الصور. ويجب أن تُخلق محاكاة زائفة للموضوع الحقيقي، مستبدلة زمنًا سريعًا من الموضات المتغيرة بالزمن البطيء (الذي تُستهلك فيه الملابس).»٢٧١
    إنَّ فعل الشراء يرتبط ارتباطًا شرطيًّا بصورة المنتَج، وطريقة عرضه والطريقة التي تتم الدعاية له بها. فالصورة تختصر المسافة الوقتية بين فعلَي الإنتاج والاستهلاك، وفي الغالب يتوقَّف نجاح فعل الشراء على قدرة الصورة وبراعتها في جذب المُستهلِك للمنتَج. لقد أصبحت الصورة هي الوسيط بين السِّلعة والمُستهلِك، كما أصبحت القدرة على تقديم السلعة في صورةٍ من بين مقومات الاقتصاد الاستهلاكي. فالسلعة القوية التي تُنتجها شركة كبيرة هي القادرة على الإعلان عن نفسها، القادرة على أن تظهر في صورة.

    ويُحلِّل بودريار دور الصورة في مجتمع الاستهلاك بتناوله لفاترينة المحل. ففاترينة العرض تكشف عن وظيفةٍ أكثر عمقًا من مجرَّد كونها وسيلةً لعرض السلع، فهي في ظاهرها تعبير عن الشفافية التي يدَّعيها المجتمع الرأسمالي عن نفسه، فما هو موجود معروض. لقد أصبح ظهور الشيء أمام المُشاهِد دليلًا على وجوده، فأن ترى هو أن تؤمن seeing is believing. هذا بالإضافة إلى أن الفاترينة تُعبِّر عن وضعٍ سوسيولوجي من نوع خاص؛ إذ تحتلُّ مكانًا وسطًا، فلا هي في داخل المحل ولا هي خارجه، لا هي مُنتمية إلى المجال الخاص للمحل ولا إلى المجال العام للمحيط الخارجي، إنها ذلك الوسط الذي يَلتقي فيه العام والخاص. ويُعيد بودريار تفعيل مقولة ماكلوهان MacLohan الشهيرة من أن الوسيط أصبح هو الرسالة، فيَذهب إلى أن الفاترينة ليستْ مجرَّد وسيط بين السلعة والمستهلَك، بل هي بمَثابة قطب مغناطيسي يعمل على تجميع الرغبات المُتناثِرة واستقطابها وصبِّها في منطقٍ مجتمعه الاستهلاك، بالإضافة إلى أنها تخلق الرغبات منذ البداية حتى قبل أن تَستقطِبها.٢٧٢ وهذا ما دفع البعض كفريدرك جيمسون F. Jamson للحديث عما أُطلق عليه «سحر المول» Charm of Mall، ويُعرِّفه بأنه حالة الجذب — الشبيهة بالجذب الصوفي — التي تصيب الإنسان ما إن تطأ قدمه أرض المول أو المركز التجاري، فيتخلَّى عن ذاتيته الخاصة، ليُصبح ذاتًا موزَّعة على فاترينات العرض المحيطة به، ذاتًا مُستلبة ومُستقطبة من قِبَل المنتجات المعروضة.٢٧٣
    كما يُحلِّل بودريار ما أُطلق عليه ميتافيزيقا المظهر الخارجي للأزياء والموضة، على أساس أنه شكلٌ من أشكال الإغواء المعتمدة على فن الإعلان، بما هو نموذج لَحْظي وعابر ليس له عمق، بل هو يعتمد في المقام الأول على تفوُّق الأشكال السطحية المهيمنة على كافة أشكال الدلالة، وبالتالي يصبح بمثابة «الشكل المعاصر الذي يمتصُّ أو يستدمج بداخله كل أشكال التعبير». بمعنى أن اللافتة الإعلانية التي تتموضع في مرمى بصر المشتري، وإن كانت لا تمتلك صفة الفن الخالد، أو القابل للخلود، إلا أنها تُحقِّق رسالتها الفنية كمعادل لليومي والهامشي والعرضي، كما يتبين حتى في الإعلانات التي تحمل مواد إلكترونية وتلفازية تومض باستمرار كدلالة على حدوث الحياة وراهنية اللحظة أو فوريتها.٢٧٤
    ومن الطبيعي والحال هكذا أن تُصبح الرغبة هي المتحكِّمة في فعل الشراء، رغبة الامتلاك والتميز التي تتجسَّد في فعل الشراء، وأن يتحوَّل العقل إلى أداةٍ للتبرير والتماس الحجج لتحقيق الرغبة، فيبدأ العقل في تقديم المُسوِّغات التي تُبرِّر فعل الشراء (وفي الغالب لا يكون المشتري في حاجة فعلية للمنتج)، ما يضفي على الرغبة سمتًا عقلانيًّا بارزًا، لكنه في الواقع غير حقيقي، فالرغبة هي الأساس في فعل الشراء لا العقل.


    كان نقد بودريار وتحليله لمجتمع الاستهلاك في جانب كبير منه امتدادًا وتوظيفًا لبعض المفاهيم الماركسية. وقد كان مفهوم الفيتيشية (أو الصنمية) السلعية Commodity Fetishism من بين تلك المفاهيم التي استثمرها بودريار في تحليله. تتَّضح الطبيعة الصنمية للصورة لدى بودريار من تحليله للأصول الاشتقاقية لكلمة صنم fetish؛ فالأصل اللاتيني لها facio يعني شيئًا مصنوعًا أو مُصطَنعًا fabricated، وتعني محاكاة ما هو طبيعي بما هو صناعي، كما تعني مشتقاتها في الإسبانية والبرتغالية التزيينَ والتجميلَ. وانتقل المصطلح إلى الدراسات الأنثربولوجية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستُخدم لوصف عبادة القبائل البدائية للأصنام والأشياء التي يتَّخذونها كرموز لقوى الطبيعة، وأصبح المُصطلَح يعني في هذه الدراسات اتخاذ الفرع كبديل عن الأصل.٢٧٥ أما ماركس Marx فقد استخدم الفيتيشية السِّلعية في مؤلَّفه رأس المال Capital ليشير به إلى «الأشياء التي تمتلك حياة خاصة بها وتتحكَّم في حيوات صانعيها.»٢٧٦ بحيث تتحوَّل بمرور الوقت إلى «أوثان» يعبدها الإنسان، ويغدو بمرور الوقت غير مُدرِك أنه هو الذي أنتجها. وبالتالي تَكتسِب السلعة قيمةً أكبر من قيمة مَن قام بإنتاجها، إنها قيمة افتراضية غير واقعية، وبتعبير بودريار قيمة فائقة.
    ويذهب بودريار إلى أن صنمية الصورة طغت على صنمية السلع، ذلك لأن الصور أصبحت هي وسيلتنا في معرفة السلع ذاتها «إذ لم يَعُد هناك اتصال مباشر بيننا وبين العالم أو بيننا وبين أنفسنا؛ وكون كل أنواع الاتصال تحدث عن طريق الصور يعني أن الوسيط طغى على أطراف الاتصال، وطغيان الوسيط أو الدال على المدلول هو الصنمية بعينها.»٢٧٧
    وفي كتابه الإغواء٢٧٨ يَناقش بودريار مجتمع الاستهلاك من خلال ثلاثة محدَّدات رئيسة؛ أولًا: ما أفرزه هذا الأخير من أنشطة استهلاكية متزايدة تسهم أيضًا في زيادة أوقات الفراغ وفي التلاعب الأيديولوجي بوعي الناس عبْر إغوائهم، وذلك على حساب تطوير العلاقات الاجتماعية. ثانيًا: تكريس المجتمع الاستهلاكي للتمايزات الاجتماعية، بحيث يصبح نمط الاستهلاك أو أساليب الحياة المرتبطة به معيارًا لتصنيف الناس. ثالثًا: المُتَع الانفعالية الناجمة عن الاستهلاك.
    ربما استطاع عالِم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو أن يؤكد على هذا المعنى في كتابه «الرمز والسلطة» من خلال ما أُطلق عليه الرأسمال الرمزي symbolic capital، وربما يحتاج هذا إلى بعض التوضيح خاصة أنه على علاقةٍ وثيقةٍ بفكرة بودريار السابقة عن القوة المضاعفة. يُفرِّق بورديو في تقسيمه للطبقات بين نوعين من الخصائص: فمن جهةٍ هناك الخصائص المادية، وهي، ابتداء من الجسم، قابلة للإحصاء الكمي والحصر والقياس، شأن أي موضوع من موضوعات الطبيعة. ثم هناك من جهةٍ أخرى، الخصائص الرمزية التي تنتج عن علاقتهم مع ذوات قادرة على إدراكهم وتقدير قيمتهم تتطلب هي كذلك أن يُنظر إليها من خلال منطقها الخاص. ولتوضيح هذا الفرق بين مستويي التصنيف يستدعي بورديو نصًّا للمؤرِّخ الفرنسي جورج دوبي Georges Duby (١٩١٩–١٩٩٦م) يقول فيه: «أنْ تكون نبيلًا معناه أن تُفرِط في الإنفاق، وأن تكون مُرغَمًا على التظاهر، وأن يكون محكومًا عليك بالرفه والبذخ، بل إني أذهب إلى التأكيد بأن هذا الميل إلى البذخ احتدَّ عند بداية القرن الثالث عشر، وجاء كردٍّ على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد. فالتميز عند الفلاحين كان يقتضي التفوُّق عليهم طبقيًّا، وذلك بالتظاهر بالتفوُّق عليهم في الكرم والسخاء. هذا ما يُبرزه أدب العصر. فما الذي يميِّز الفارس الأصيل عن حديث العهد بالنعمة؟ ذلك أن الثاني بخيل، أما الأول فهو نبيل لأنه يصرف كل ما لديه حتى لو كان مثقلًا بالديون.»٢٧٩ إذًا ليس المعيار هنا وفقًا لبورديو ما يَملكه الفرد، بل ما يُنفقه على مظهره، وهو يكتسب مكانته وحظوته في المجتمع بالقدْر الذي يبدو عليه هذا المظهر.
    وإذا عُدنا إلى بودريار وإعادة توظيفه لمفهوم العلامة عند دي سوسير، لوجدنا أنه في كتابه «التبادل المستحيل»٢٨٠ يُقدِّم تنويعًا ماركسيًّا على هذا المفهوم، فيَذهب إلى أن العلامة الاستهلاكية تحرَّرت من مدلولها وتحوَّلت إلى علامة دالة على المكانة الاجتماعية للفرد في المجتمع. من هنا فإن مفهوم الاستهلاك نفسه قد تغيَّر من استهلاك المنتَج المادي إلى استهلاك العلامة التي تُشير إلى المنتَج. وبمعنًى آخر يرى بودريار أن المجتمع الاستهلاكي يهتمُّ بالوظيفة التضمينية للأشياء أو السلع أكثر من وظائفها الدلالية المباشرة؛ فالمنتَج الاستهلاكي (جهاز التبريد أو الهاتف النقال أو السيارة أو الساعة) يَكتسب قيمته الآن من الشعار أو الرمز الذي يَحمله، بصرف النظر عن جودته أو القيمة الحقيقية له. وامتلاك هذا الشعار أو الرمز أصبح هدفًا في حد ذاته بالنسبة لمجتمع الاستهلاك؛ فهو دالٌّ على المكانة الاجتماعية والطبقية للمستهلك.٢٨١
    figure
    لقد كانت الرموز الدالة على الثروة، والمكانة، والشهرة والسلطة، وكذلك الطبقة، على الدوام، مهمةً في المجتمع البرجوازي، إلا أنها لم تكن يومًا باتِّساع وأهمية ما هي عليه اليوم. ومع توفُّر إمكانية إنتاج الصور كما السلع بحسب ما نريد تقريبًا، غدا أكثر يُسرًا للتراكم الرأسمالي أن يتطور جزئيًّا، على الأقل، على قاعدة إنتاج الصور وتسويقها. وعليه فعالَم الصور هذا يُمكن تفسيره، جزئيًّا، باعتباره صراعًا من طرف الجماعات المقهورة من كل نوعٍ لتأسيس هويات خاصة بها، ثم الاندفاع الرأسمالي بعد ذلك للإفادة من ذلك عبْر تسويقه تجاريًّا. كان المطلوب أن يكون الأمر كما لو أننا نعيش في عالَمٍ من الصور المُبتكَرة المُتغيِّرة باستمرار. وكان طبيعيًّا أن يكون الوقع السيكولوجي لذلك طاغيًا، وأن يُوضَع موضع التنفيذ في قوة مضاعفة.
    ===========================

    تم النشر قبل 13th April 2020 بواسطة الحداثة وما بعد بعد الحداثة Modernité Et Le Post-Postmodernisme
    التصنيفات: الحداثة وما بعد الحداثة بودريار جيل دولوز رولان بارت فلسفة ما بعد الحداثة ميشيل فوكو
يعمل...
X