"خيال الموج".. قصص تمزج الحلم باليقظة مزعزعة طمأنينة القارئ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "خيال الموج".. قصص تمزج الحلم باليقظة مزعزعة طمأنينة القارئ

    "خيال الموج".. قصص تمزج الحلم باليقظة مزعزعة طمأنينة القارئ


    الكاتبة التونسية هيام الفرشيشي تبني عالما من الثنائيات.
    الجمعة 2024/07/26
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    قصص من أمام البحر (لوحة للفنان كلاي قاسم)

    القصة القصيرة مجال خصب لفتح آفاق الخيال وإيقاظ العقل والضمير، فمحدودية وأحادية أمكنتها وأزمنتها وشخصياتها، ولعبها في مساحة سردية ضيقة، تساهم بشكل كبير في جعلها تثير التساؤل والتأويل وتحفز الخيال، إذ لا تقدم الإجابات الجاهزة، وهكذا هي قصص مجموعة “خيال الموج” للكاتبة التونسية هيام الفرشيشي.

    قبل ولوج المتن الحكائي للمجموعة القصصية “خيال الموج” للكاتبة التونسية هيام الفرشيشي يستوقفنا العنوان باعتباره عتبة مهمة من عتبات النص، لاسيما وأنه مشحون بالدلالات والإيحاءات.

    ورد العنوان مركبا إضافيا “خيال الموج”، المضاف مصدر أصلي من خيل وخُيّل إلى، أما الجمع منه فهو الخيالات أو الأخيلة. وهو مصطلح لم يستقر على مدلول معين، ولعل أقرب تعريف له هو أنه نشاط عقلي مجرد، وهو قدرة معينة على اختلاق أفكار ومشاهد في العقل.

    أما المضاف إليه وهو الموج من ماج يموج موج أو موَجان، وماج البحر أي ارتفعت أمواجه وعلت، وفي القرآن نجد: “وجاءهم الموج من كل مكان”. “وهي تجري بهم بموج كالجبال”. كذلك يقال ماجت آراء الناس أي اختلفت واضطربت. تستعمل هذه الكلمة أيضا في مجال الطبيعة والفيزياء فيقال موجة كهرومغناطيسية وموجة لاسلكية. كما أنها تعبّر عن الغضب فتقول موجة استنكار وهي ضجة تعبر عنها الجماهير بشدة.

    فما العلاقة بين الخيال والموج، والحال أنهما كمرج البحر لا يلتقيان؟ خاصة وأن أحدهما مغرق في التجريد والآخر له وجود حسي؟
    عوالم من الثنائيات



    الكاتبة اختارت أن تدور أغلب الأقاصيص في أماكن قريبة من البحر، فالبحر


    لا يمكن أن نستكنه العلاقة الرابطة بين الخيال والموج باعتبارهما شيئين مختلفين وغير متجانسين، إلا بولوج المتن الحكائي للأقاصيص التسع (خيال الموج، طائر السماء، غافية على ركبة الزمن، رفائيل يسرد قصة قديمة، شياطين الغابة، أهازيج ناي جنائزي، للخفاش أثر، كوابيس مبقعة بماء المطر، صاحب العمامة).

    “خيال الموج” هي مجموعة قصصية صغيرة الحجم تمتد على أربع وتسعين صفحة. المتأمل لأقاصيصها التسع يلحظ اشتغال صاحبتها على مجموعة من الثنائيات، ولعل أبرز ثنائية فيها هي الحلم واليقظة. هذه الثنائية نجدها في أغلب الأقاصيص، وقد يتداخل فيها الحلم مع اليقظة إلى درجة عدم التمييز بينهما.

    في أقصوصة “خيال الموج” التي تفتتح بها المجموعة نقرأ “أطفأ الأنوار وأغمض عينيه ولم يكد يغفو قليلا حتى انبعثت منه روائح عطر نسائي أصلي: مزيج من الياسمين والليمون، وشعر بالرائحة تفوح وكأن صاحبته تقترب منه. لم يكن يحلم حقا، فالعطر حقيقي أيقظه من غفوته. أفاق بسرعة، لكن الرائحة تلاشت… هل كان يحلم؟”.

    وفي آخر الأقصوصة بعد أن أوهمنا السارد أنه في اليقظة عاد مجددا ليحطم كل انتظاراتنا ليخبرنا أنه مجرد حلم لا غير “لقد أفاق من شريط حلم متقطع كقصة خادعة”.

    وفي أقصوصة” كوابيس مبقعة بماء المطر” تقول الساردة “أعاد تقليب الأوراق التي كتبتها من وحي الحلم”.

    وفي موضع آخر من الأقصوصة تقول “وأحيانا تزورني في أحلامي ويقظتي ولا أعرف إن كانت حقيقة أم أطياف خيال”.

    وهكذا يتداخل الحلم واليقظة، فما يكاد يطمئن القارئ قليلا حتى يُزعزع اطمئنانه، وأحيانا يصبح الحلم ماثلا أمام الشخصية فكأنه اليقظة ذاتها “كان شريط الحلم ماثلا أمامي بطرقه وعناوينه”. وأحيانا أخرى تتحول الأحلام إلى كوابيس وهو ما نجده في أقصوصة “أهازيج ناي جنائزي” نقرأ منها “كانت صورة الراعي الذي يعزف على ناي متآكل تلاحق إغفاءتي التي تتربص بها الكوابيس. توسدت ذاكرتي لأغفو على كوابيس المدينة، وأعيد الإصغاء إلى خرافات جدتي عن كائنات هلامية، تتنكر في وجوه وديعة، ولكن سرعان ما استيقظتُ على بقايا حلم”.

    كما نجد في المجموعة ثنائية الماء والسراب. يحضر الماء بقوة في المجموعة، يتدفق هادرا مؤذنا بالخصب والينوعة والخير، إذ تنفتح المجموعة بأقصوصة “خيال الموج” التي تدور أحداثها إما على شاطئ البحر أو في منزل قريب منه “أزاح الستار ليتأمل السيول المنهمرة التي أغْضبت الموج وجعلته يعلو ويزبد، امتزج ماء السماء بماء البحر”.



    اختارت الكاتبة أن تدور أغلب الأقاصيص في أماكن قريبة من البحر، فالبحر يحضر أحيانا بسطوته وجبروته وأحيانا أخرى بهدوئه وجماله، ففي أقصوصة “طائر السماء”، انفتح النص بتحديد للإطار المكاني “في شرفة تطل على الشاطئ تترك روائح البحر طعم الملح، ويردد هدير الموج الصاخب صدى لحكايات منسية”.

    ويتحول الماء أحيانا إلى إيقاع للحياة “فيُسْكَب النغم في تراتيل المطر، وهو يهدهد الموج ليروي له حكايات قديمة على إيقاعات زخات ناعمة أومتدفقة صاخبة”، من أقصوصة “كوابيس مبقعة بماء المطر”. غير أن هذا الماء المبشر بالولادة والخصب والحياة، يقف عاجزا أحيانا عن إطفاء اللهيب المستعر الذي أضرمته شياطين الغابة في شعاب الجبال بل تزيد الريح في تأجيجها، فتصبح النار كأنها سقر لوّاحة للبشر لا تبقي ولا تذر.

    لكن الماء الذي وجد صعوبة في إطفاء الحريق قادر على إطفاء نار الذات المستعرة وتطهيرها من كل الشوائب. نقرأ “اتجهت إلى بيت الاستحمام لأتطهر من بقايا الحلم”.

    لكنه قد يجف ليصبح سرابا يحسبه الظمآن ماء، وتتحول المدن إلى مدن للأشباح “وتستيقظ على الصمت المطبق تتحرك فيها أجفان ساكنيها ولا تنام قريرة العين، تلوذ أشباح الهياكل الخاوية بشرفات الستائر. ويلقى أستاذ التاريخ الفرنسي مصرعه في ممر صخري في مدينة الهوارية. بل يصبح البحر سجنا يحاصر الناس ويحد من تحركاتهم كما هو الحال في أقصوصة “كوابيس مبقعة بماء المطر”.

    كذلك نجد في أقاصيص الفرشيشي ثنائية الظاهر والباطن، إذ تكثر شخصيات مزدوجة المواقف والأفكار والتصرفات، فهي تُظهر للعلن عكس ما تبطنه، وتستمر لعبة التخفي ووضع الأقنعة إلى أن تفضح لحظة المكاشفة الحقيقة، فتتجلى المفارقة بين الأقوال والأفعال، فبعد أن خدّرنا أستاذ التاريخ الفرنسي وأعطانا درسا في الوطنية عندما قال “قد أبحث عن المجهول في ذاكرتكم، كما يبحث بعضكم عن الذهب في الجدران المتصدعة في هذا الأثر”.

    لنستفيق في الأخير على حقيقته المرعبة ليتبين لنا أنه تاجر آثار يبحث عن الكنوز الدفينة لينهبها كما نهب أجداده الوطن نفسه.

    وتواصل الفرشيشي ممارسة المخاتلة والمراوغة في أقصوصة “صاحب العمامة” الذي أخفى جرائمه تحت مظهر الرجل التقي الورع.
    الأسلوب القصصي


    المجموعة وإن كان فيها احتفاء كبير بالخيال إلا أنها لا تخلو من اهتمام بقضايا مهمة كالإرهاب والشعوذة ونهب الآثار

    تستمر المراوغة، وتواصل الكاتبة التلذذ بإسقاط الأقنعة عن الوجوه فيسقط قناع الشيخ الوقور الذي يمارس طقوس الشعوذة فنستحضر صورة المشعوذ في بيئتنا الشعبية “تعتقد النسوة أن في ريقه بركة، والشيخ صاحب الأفعال الشبقية يمتص رحيق الصبايا”.

    وتكشف هذه الثنائيات عن المفارقات العجيبة والازدواجيات الغريبة، فكل أقصوصة من الأقاصيص التسع لا تخلو من مفاجآت، ويظهر ذلك جليا في لحظات المكاشفة في نهايات الأحداث التي برعت الكاتبة في صياغتها على نحو مخيب لانتظارات القارئ، فلحظات التنوير كانت في أغلب الأقاصيص مخاتلة ومباغتة، وهو ما يدل على تمكّن الكاتبة من تقنيات القص والذي يظهر جليا في اعتمادها على وحدة الأثر والانطباع، ووحدة الزمان والمكان ولحظة التنوير.

    وردت قصص “خيال الموج” في حكايات تتواشج فيها أنماط الكتابة كالسرد والوصف والحوار بأنواعه، فقد اعتمدت الكاتبة قالبا فنيا متميزا لتصب فيه مواضيع تتصل بالواقع أساسا.

    المجموعة وإن كان فيها احتفاء كبير بالخيال والتخييل إلا أنها لا تخلو من اهتمام بقضايا مهمة كالإرهاب في شعاب الجبال، نجد ذلك في أقصوصة “غافية على ركبة الزمن” أو أقصوصة “شياطين الغابة” أو حتى في أقصوصة “صاحب العمامة”، وقضايا أخرى كثيرة كممارسة الشعوذة والتجارة بالكنوز الأثرية، وكورونا، إلى غير ذلك من القضايا التي تشغل الإنسان المعاصر ليس في تونس فقط وإنما في العالم ككل.

    كما لا تخلو المجموعة القصصية من تجذر في الواقع وحب للوطن وقد علت أهازيج تتغنى بالوطن العزيز “شريط الأنباء متواصل، تتخلله أغانٍ وطنية: صامدون لا نخاف المحن، بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفدا”.

    وهكذا تتعدد الثنائيات وتتناغم الحكايات في مجموعة “خيال الموج”، فننتشي بشطحات الخيال ونستفيق على صدمات الواقع يعلو بنا موج الخيال، ويلقي بنا على سطح الماء، فنسبح بحذر لنصل إلى البر بكدمات كثيرة ومتعة كبيرة.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    زينب بوخريص
    كاتبة تونسية
يعمل...
X