من هو الصامت.
كان الحجّاج يسيرون على آثار من سبقوهم، قاصدين مقام «الصامت»، الوليّ الذي لم يتكلم أربعين سنة.
ثم ظهر أربعة شبّان ينفضون السياط في الهواء، وأربعة آخرون يحملون رايات سود، وكان الوليّ يتهادى بينها، عليه بردة سوداء وعمامة سوداء، متقلّداً سيفاً.
عند صعوده المنبر ضرب بنعل سيفه في أول ارتقائه ضربة سمعها الحاضرون، كأنها إيذان بالإنصات، ثم في توسّطه أخرى، وفي انتهاء صعوده ثالثة.
ظلّ صامتاً مدة ساعة، عاد بعدها إلى مقامه تتقدمّه الرايات والسياط.
كانت ضربات سيفه أقرب إلى النبوءة منها إلى فعل العادة، فقد أنصت إليه الأسارى من الروم، وعددهم لا يحصى، تحوّلوا جميعاً في حياته إلى الإسلام.
قرأتُ شيئا من هذه القصّة في كتاب قديم، وقمتُ بتأليف قسمها الأكبر، وسواء كانت حقيقيّة أم من نسج الخيال، فهي تُثير لدى القارئ إحساسا بأنه يُجرّب أن يصيخ بسمعه، ربما لأول مرّة، إلى الصمت.
في الفلسفة اليونانيّة القديمة:
يعبّر أرسطو وأفلاطون عن الخلود بأنه «الذي يوصف من دون كلام» أي بواسطة الصمت، وتوصّل الفيلسوفان كذلك إلى أن بالإمكان فهم الحقائق العظيمة بسهولة، حيثما تنتهي الكلمات.
كلّ إنسان له صمته الخاص، إلا الوليّ المذكور في القصّة، فهو يمتلك مجموع الصمت الذي كان يخرس الجالسين في حضرته، من تابعين ومريدين وخدم وأسرى وغيرهم.
وما كان (يتكلّم) به طوال ساعة وهو واقف على المنبر، هو الصمت الدقيق وكامل الإتقان، الصمت الشامل والمُصمّ والمُعمي والمُشلّ للأطراف، كأن الكون أُفرِغَ على حين غرّة من كلّ ما فيه، وصار عدما.
بهذه الطريقة استطاع الوليّ إدخال الإيمان في صدور الأسارى، وامتلأت به قلوبهم.
الأصوات التي صنعها الإنسان الفاني بالمئات، جلباتٌ غير مفهومة قريبة وبعيدة، ملتفّة ومتعاكسة، ويحلّ بعضها مكان بعض.
لكن الطبيعة، لأن فيها قبسا وافرا من نور الله، تتحدث إلينا في هيئة صمت لا يشبه الصمت، وإنما صوت ساكن ومميّز وبدائي، وكلما أصغينا أكثر سمعنا المزيد.
يقول أينشتاين: «الطبيعة ليست من خلق الله. الطبيعة هي الله».
في بعض الديانات القديمة يظهر الإله بصورة رعد أو عاصفة أو بركان، وفي الإنجيل يتجلى الربّ إلى إيليا بهذا التقدير: في البداية تحدث الزوبعة، ثم الزلزال، وبعد ذلك تأتي النار، والإله لم يكن في أيّ منها.
ثم يجيء لاحقا في صوت بسيط هو عبارة عن «صمت جافّ وهش».
من غلّة الفلسفة الهنديّة القديمة نجد اعتقادا مشابها، حيث يسأل التلميذ معلّمه أن يشرح له (براهمان) الذي هو روح العالم.
ظلّ المعلّم ساكتا، فكرّر التلميذ السؤال مرارا، وأخيرا نطق المعلّم قائلا: «إنني أجيبك الآن، لكنك لا تصغي».
الصوفيّون لديهم رؤيا مماثلة، أحد مواقف محمد بن عبد الجبار النفري: «أوقفني في الصمت وقال لي: إن لي عبادا صامتين، رأوا جلالي، فلا يستطيعون أن يكلّموه، ورأوا بهائي، فلا يستطيعون أن يُسبّحوه، فلا يزالون صامتين حتى آتيهم، فأخرجهم من مقام صمتهم إليّ. فمن صمتَ عنّي، فهو عبدي الصامت».
لو عدنا إلى القصّة للاحظنا أن الوليّ خرج من باب يسكن وراءه الصمت، كما أن المؤلّف أعطى للفراغ الصوتيّ (أي الصمت) سببا.
السياط التي ضربها الشباب الأربعة في الهواء، وتموّجات حرير الرايات في الريح وهي تتراكب، وتتدافع، ويتداخل بعضها في بعض، بالإضافة إلى القرع القويّ للمنبر بنعل السيف.
في العقيدة البوذيّة هناك مئة نوع من الصمت، يستطيع رهبان خاصّون التفريق بينها، أي أن ثمة عنصر من الصوت، في كلّ واحد من هذه المئة، يبلغه الراهب عن طريق قلبه، ويتبع الأمر إلى طبيعة بوذا القائل بأن لكلّ ظاهرة وشيء وكائن في الوجود قوّة إلهيّة تحرسه وتقوده، ثم تُفنيه.
في رحلته إلى التبت التقى الأب إيفاريست هوك، وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر، بمجموعة من الرهبان وانتبه إلى طريقتهم في السير.
كانوا يسجدون أمام أيّ شيء يعترض سبيلهم، لأن كلّ شيء بالنسبة إليهم «بورهان».
ويستوي عندهم الشجر والنهر والسماء والتراب.
حتى الحجارة وعظام الموتى التي يكدّسونها في الجبال، لذلك فهم يسجدون في كلّ خطوة صائحين: «بورهان. بورهان».
معنى هذا أن لكلّ شيء في الوجود صوت (صمت) تسمعه القلوب لا المسامع، وكان الرهبان يسجدون في الحقيقة إلى أثره في وجدانهم.
يحضر هنا رأي الشاعر، وهو بورخيس: «ليس هناك ما هو غير مقدّس على الأرض».
المئة هو الرقم الأعلى في الحساب الصيني القديم، حيث كان يقع موطن بوذا، وتقابله أسماء الله الحسنى لدى المسلمين، وهي مئة أيضا:
تسعة وتسعون زائدا اسما غير ملفوظ يوحي أكثر مما يدلّ، وكلّ اسم منها هو عنوان صمت، عندما تختفي الأسماء (أو تحلّ) جميعا يكون العدم، وهو الصمت الشامل والمُصمّ والمُعمي.
يُقال إن آخر حاسّة يفقدها الميّت هي السمع، والصوت الأخير الذي يستشعره هو الصمت الثلجيّ العام، وسط بياض مطّرد يطرف ويتمطّى، ويتحوّل إلى درجات ودرجات من البياض، يقابلها الصمت بمقاماته المئة.
عندما يكون أمر الموت واقعا، يتوقف القلب تماما عن العمل، أي عن السماع، وكذلك العين عن النظر، أي عن الرؤيا.
مرّة أخرى مع النفري: «وقال لي: اصمت لي ما استطعت، تكن أول من يُدعى إليّ إذا جئت».
العبد الصامت هو المؤمن الخاشع، الذي ليس هناك ذرّة شكّ في عقيدته ومذهبه، وهي أعلى درجات التصديق.
إن ما لا نستطيع أن نتحدّث عنه، نتغاضى عنه (أو نعبّر عنه) في صمت. نخلص من هذا إلى أن أغلب الديانات والفلسفات، اتفقت في وصف لقاء العبد مع الإله في ساعته الأخيرة، حيث يحلّ السكوت العام الذي هو مجموع مئة صمت، وتبلغنا كذلك أسماء الله الحُسنى مكتوبة بالأبيض وخيالاته المئة، منطوقة في لفظة واحدة (أو أنها تختفي)، وهذه دلالة قاطعة على انتهاء الحياة الفانية، إلى أن يحين يوم الحساب، تعود عندها فنون الصمت المئة إلى العمل، كي تشهد على ما قام به العبد في رحلته منذ البداية إلى النهاية، وكلّ اسم من أسماء الله أيضا يصير شاهدا نقيّا ومحايدا، أي أن الشهادة تتمّ بلغة هذه الأيام بالصوت والصورة، وهو تفسير الآية 24 من سورة النور: «يومَ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون».
ليس كل ما تستوعبه الرؤية يستطيع قوله اللسان، كما أن النطق عندها لا يختصّ بهذا العضو المخبوء وغير الظاهر، الخاتل في تجويف الفم، لأن ما يصدر عنه من كلام فيه مقدار من الشكّ والقلق في مصداقيّته، يزولان في ساعة الحساب، عندما تشهد الأيدي والأرجل وكلّ حيوان وحشرة وجماد، ويختلف مصدر الكلام هنا، لأن مصدره ليس اللسان وحده، بل فنون الصمت المئة، تساعدها أسماء الله الحسنى بالشهادة عن طريق الصورة النقيّة المحايدة، وربما بلغت هذه الفنون مجتمعة مع الأسماء أسماع وأنظار الوليّ، لأنه لم يتكلّم سوى مع الطبيعة أربعين سنة، ونقلها بدوره إلى سامعيه، فدخل الإيمان قلوبهم.
ليس الصوت وحده يختلف في هذا المقام، جميع الميول المغروسة فينا تتغيّر بالكامل، كالتأجيل وعدم الصبر وطريقة حكمنا على الأمور، والانغماس في الأنانيّة، وتتبدّل كذلك عاداتنا في الأكل والشرب والباه والنوم والسير، وطبائع الأخلاق كلّها.
ينقلب باختصار وجودنا كلّه إلى وجود آخر، شيئا فشيئا وبطريقة لا شعوريّة، مثلما حدث لأسارى الروم، وهم ينصتون إلى الوليّ، وكان يقوم بتمرين حيّ للقاء العبد مع ربّه.
مرّة أخيرة مع النفري: «وقال لي: عبدي الصامت أتلقاه قبل موقفه، وأشيّعه إلى داره».
كان الحجّاج يسيرون على آثار من سبقوهم، قاصدين مقام «الصامت»، الوليّ الذي لم يتكلم أربعين سنة.
ثم ظهر أربعة شبّان ينفضون السياط في الهواء، وأربعة آخرون يحملون رايات سود، وكان الوليّ يتهادى بينها، عليه بردة سوداء وعمامة سوداء، متقلّداً سيفاً.
عند صعوده المنبر ضرب بنعل سيفه في أول ارتقائه ضربة سمعها الحاضرون، كأنها إيذان بالإنصات، ثم في توسّطه أخرى، وفي انتهاء صعوده ثالثة.
ظلّ صامتاً مدة ساعة، عاد بعدها إلى مقامه تتقدمّه الرايات والسياط.
كانت ضربات سيفه أقرب إلى النبوءة منها إلى فعل العادة، فقد أنصت إليه الأسارى من الروم، وعددهم لا يحصى، تحوّلوا جميعاً في حياته إلى الإسلام.
قرأتُ شيئا من هذه القصّة في كتاب قديم، وقمتُ بتأليف قسمها الأكبر، وسواء كانت حقيقيّة أم من نسج الخيال، فهي تُثير لدى القارئ إحساسا بأنه يُجرّب أن يصيخ بسمعه، ربما لأول مرّة، إلى الصمت.
في الفلسفة اليونانيّة القديمة:
يعبّر أرسطو وأفلاطون عن الخلود بأنه «الذي يوصف من دون كلام» أي بواسطة الصمت، وتوصّل الفيلسوفان كذلك إلى أن بالإمكان فهم الحقائق العظيمة بسهولة، حيثما تنتهي الكلمات.
كلّ إنسان له صمته الخاص، إلا الوليّ المذكور في القصّة، فهو يمتلك مجموع الصمت الذي كان يخرس الجالسين في حضرته، من تابعين ومريدين وخدم وأسرى وغيرهم.
وما كان (يتكلّم) به طوال ساعة وهو واقف على المنبر، هو الصمت الدقيق وكامل الإتقان، الصمت الشامل والمُصمّ والمُعمي والمُشلّ للأطراف، كأن الكون أُفرِغَ على حين غرّة من كلّ ما فيه، وصار عدما.
بهذه الطريقة استطاع الوليّ إدخال الإيمان في صدور الأسارى، وامتلأت به قلوبهم.
الأصوات التي صنعها الإنسان الفاني بالمئات، جلباتٌ غير مفهومة قريبة وبعيدة، ملتفّة ومتعاكسة، ويحلّ بعضها مكان بعض.
لكن الطبيعة، لأن فيها قبسا وافرا من نور الله، تتحدث إلينا في هيئة صمت لا يشبه الصمت، وإنما صوت ساكن ومميّز وبدائي، وكلما أصغينا أكثر سمعنا المزيد.
يقول أينشتاين: «الطبيعة ليست من خلق الله. الطبيعة هي الله».
في بعض الديانات القديمة يظهر الإله بصورة رعد أو عاصفة أو بركان، وفي الإنجيل يتجلى الربّ إلى إيليا بهذا التقدير: في البداية تحدث الزوبعة، ثم الزلزال، وبعد ذلك تأتي النار، والإله لم يكن في أيّ منها.
ثم يجيء لاحقا في صوت بسيط هو عبارة عن «صمت جافّ وهش».
من غلّة الفلسفة الهنديّة القديمة نجد اعتقادا مشابها، حيث يسأل التلميذ معلّمه أن يشرح له (براهمان) الذي هو روح العالم.
ظلّ المعلّم ساكتا، فكرّر التلميذ السؤال مرارا، وأخيرا نطق المعلّم قائلا: «إنني أجيبك الآن، لكنك لا تصغي».
الصوفيّون لديهم رؤيا مماثلة، أحد مواقف محمد بن عبد الجبار النفري: «أوقفني في الصمت وقال لي: إن لي عبادا صامتين، رأوا جلالي، فلا يستطيعون أن يكلّموه، ورأوا بهائي، فلا يستطيعون أن يُسبّحوه، فلا يزالون صامتين حتى آتيهم، فأخرجهم من مقام صمتهم إليّ. فمن صمتَ عنّي، فهو عبدي الصامت».
لو عدنا إلى القصّة للاحظنا أن الوليّ خرج من باب يسكن وراءه الصمت، كما أن المؤلّف أعطى للفراغ الصوتيّ (أي الصمت) سببا.
السياط التي ضربها الشباب الأربعة في الهواء، وتموّجات حرير الرايات في الريح وهي تتراكب، وتتدافع، ويتداخل بعضها في بعض، بالإضافة إلى القرع القويّ للمنبر بنعل السيف.
في العقيدة البوذيّة هناك مئة نوع من الصمت، يستطيع رهبان خاصّون التفريق بينها، أي أن ثمة عنصر من الصوت، في كلّ واحد من هذه المئة، يبلغه الراهب عن طريق قلبه، ويتبع الأمر إلى طبيعة بوذا القائل بأن لكلّ ظاهرة وشيء وكائن في الوجود قوّة إلهيّة تحرسه وتقوده، ثم تُفنيه.
في رحلته إلى التبت التقى الأب إيفاريست هوك، وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر، بمجموعة من الرهبان وانتبه إلى طريقتهم في السير.
كانوا يسجدون أمام أيّ شيء يعترض سبيلهم، لأن كلّ شيء بالنسبة إليهم «بورهان».
ويستوي عندهم الشجر والنهر والسماء والتراب.
حتى الحجارة وعظام الموتى التي يكدّسونها في الجبال، لذلك فهم يسجدون في كلّ خطوة صائحين: «بورهان. بورهان».
معنى هذا أن لكلّ شيء في الوجود صوت (صمت) تسمعه القلوب لا المسامع، وكان الرهبان يسجدون في الحقيقة إلى أثره في وجدانهم.
يحضر هنا رأي الشاعر، وهو بورخيس: «ليس هناك ما هو غير مقدّس على الأرض».
المئة هو الرقم الأعلى في الحساب الصيني القديم، حيث كان يقع موطن بوذا، وتقابله أسماء الله الحسنى لدى المسلمين، وهي مئة أيضا:
تسعة وتسعون زائدا اسما غير ملفوظ يوحي أكثر مما يدلّ، وكلّ اسم منها هو عنوان صمت، عندما تختفي الأسماء (أو تحلّ) جميعا يكون العدم، وهو الصمت الشامل والمُصمّ والمُعمي.
يُقال إن آخر حاسّة يفقدها الميّت هي السمع، والصوت الأخير الذي يستشعره هو الصمت الثلجيّ العام، وسط بياض مطّرد يطرف ويتمطّى، ويتحوّل إلى درجات ودرجات من البياض، يقابلها الصمت بمقاماته المئة.
عندما يكون أمر الموت واقعا، يتوقف القلب تماما عن العمل، أي عن السماع، وكذلك العين عن النظر، أي عن الرؤيا.
مرّة أخرى مع النفري: «وقال لي: اصمت لي ما استطعت، تكن أول من يُدعى إليّ إذا جئت».
العبد الصامت هو المؤمن الخاشع، الذي ليس هناك ذرّة شكّ في عقيدته ومذهبه، وهي أعلى درجات التصديق.
إن ما لا نستطيع أن نتحدّث عنه، نتغاضى عنه (أو نعبّر عنه) في صمت. نخلص من هذا إلى أن أغلب الديانات والفلسفات، اتفقت في وصف لقاء العبد مع الإله في ساعته الأخيرة، حيث يحلّ السكوت العام الذي هو مجموع مئة صمت، وتبلغنا كذلك أسماء الله الحُسنى مكتوبة بالأبيض وخيالاته المئة، منطوقة في لفظة واحدة (أو أنها تختفي)، وهذه دلالة قاطعة على انتهاء الحياة الفانية، إلى أن يحين يوم الحساب، تعود عندها فنون الصمت المئة إلى العمل، كي تشهد على ما قام به العبد في رحلته منذ البداية إلى النهاية، وكلّ اسم من أسماء الله أيضا يصير شاهدا نقيّا ومحايدا، أي أن الشهادة تتمّ بلغة هذه الأيام بالصوت والصورة، وهو تفسير الآية 24 من سورة النور: «يومَ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون».
ليس كل ما تستوعبه الرؤية يستطيع قوله اللسان، كما أن النطق عندها لا يختصّ بهذا العضو المخبوء وغير الظاهر، الخاتل في تجويف الفم، لأن ما يصدر عنه من كلام فيه مقدار من الشكّ والقلق في مصداقيّته، يزولان في ساعة الحساب، عندما تشهد الأيدي والأرجل وكلّ حيوان وحشرة وجماد، ويختلف مصدر الكلام هنا، لأن مصدره ليس اللسان وحده، بل فنون الصمت المئة، تساعدها أسماء الله الحسنى بالشهادة عن طريق الصورة النقيّة المحايدة، وربما بلغت هذه الفنون مجتمعة مع الأسماء أسماع وأنظار الوليّ، لأنه لم يتكلّم سوى مع الطبيعة أربعين سنة، ونقلها بدوره إلى سامعيه، فدخل الإيمان قلوبهم.
ليس الصوت وحده يختلف في هذا المقام، جميع الميول المغروسة فينا تتغيّر بالكامل، كالتأجيل وعدم الصبر وطريقة حكمنا على الأمور، والانغماس في الأنانيّة، وتتبدّل كذلك عاداتنا في الأكل والشرب والباه والنوم والسير، وطبائع الأخلاق كلّها.
ينقلب باختصار وجودنا كلّه إلى وجود آخر، شيئا فشيئا وبطريقة لا شعوريّة، مثلما حدث لأسارى الروم، وهم ينصتون إلى الوليّ، وكان يقوم بتمرين حيّ للقاء العبد مع ربّه.
مرّة أخيرة مع النفري: «وقال لي: عبدي الصامت أتلقاه قبل موقفه، وأشيّعه إلى داره».