«ألواح أورفيوس»: تجربة الشاعر نوري الجراح في عيني ناقدة مصرية
12 - مايو - 2024م
مفيد نجم
أهمية الأنطولوجيا الشعرية «ألواح أورفيوس» التي قدمت لها واختارت قصائدها الناقدة المصرية ناهد راحيل (دار الشروق 2024) تتجلى في كونها، على الأرجح، أول أنطولوجيا شعرية تنجزها امرأة لشاعر عربي معاصر، وبالتالي فهي فرصة نادرة لمعرفة كيف تبدو قصائد هذه التجربة التي تمتد من ديوانه الأول «الصبي» وحتى ديوان «ما بعد القصيدة في عيني امرأة» خاصة أن التقديم يأتي بمثابة عتبة نقدية للدخول إلى عالم هذه التجربة مبنى ومعنى. إن اختيار الناقدة لرمز أسطوري ليكون عنوانا لهذه الأنطولوجيا ينطوي على مقاصد دلالية تهدف إلى توحيد الرمز، مع أن الذات داخل القصيدة، والإشارة إلى التداخل الحاصل بين تجربتي أورفيوس والشاعر، إلى جانب العلاقة الوثيقة التي تربط الشاعر مع الرموز الأسطورية، باعتبارها وسيلة تعبير بلاغية حاول الشاعر من خلالها الاستفادة من المخزون الرمزي والدرامي لها، لتقديم رؤية مركبة للواقع والتدليل على وحدة التجربة الإنسانية.
شعرية قصيدة النثر
تفتتح الناقدة دراستها بالحديث عن مفهوم الشعرية، من حيث المعنى ومجال اشتغاله دلاليا، وذلك كمقدمة لدراسة شعرية قصيدة النثر في ضوء علاقتها مع مرجعياتها، وسعيها لإعادة إنتاجها في سياق التحولات الجديدة للمشهد الشعري، وما تميز به من نزوع واضح إلى التجريب. وعلى الرغم من هذه السمة العامة لقصيدة النثر، إلا أن تجربة القصيدة الحرة، كما يسميها الجراح، عملت على تكوين هويتها الخاصة التي تفترق من خلالها عن أشكال الكتابة الشعرية الشائعة لقصيدة النثر، وعن التعريفات التي قدمت لها حتى الآن، ما جعل الناقد خلدون الشمعة يطالب، من خلال دراسته لقصيدة نوري الجراح، بتجنب التعريفات الجاهزة لهذا النوع من الشعر، لأنه يصادر إمكانات تطوره. وتخلص الناقدة إلى الاتفاق مع الشمعة على أن شعرية القصيدة عند الجراح هي أولا شعرية وجود، أو تأسيس بالشعر لهذا الوجود عبر مداراتها المختلفة، التي جاءت بمثابة تنويعات لهذا الوجود (سواء عن طريق عرض التجربة الشخصية والتخييل بالذات، أو استلهام الشخصيات التراثية والتقنع بها، أو توظيف المعطيات الدرامية التي من شأنها أن تعلي حساسية القارئ تجاه تجربة الشاعر الذاتية، أو استثمار مفهوم الرحلة الملحمي) كما تجلى في ديوان «يوم قابيل والأيام السبعة» وفي أعماله التالية ذات الطابع الملحمي التي واكبت سنوات الثورة السورية، ثم امتدت إلى التخييل التاريخي، في محاول إعادة تأويله، واستحضار المغيّب والمسكوت عنه في سياق بحث الذات عن هذا الوجود الغائر في عميق التاريخ والجغرافيا وتجلياتهما الأسطورية، وهو ما لم تشر إليه الناقدة.
وعلى الرغم من حضور المكان في شعرية نوري الجراح كفضاء تتعين به ومعه الذات، فإن هذه الشعرية عملت على تقويض سلطة المكان، من خلال الانفتاح على أمكنة كثيرة كحضارة وتاريخ، لكن راحيل لم تتطرق إلى دوافع هذا البعد وخلفياته، على اعتبار أن تعيين الذات بماهيتها الخاصة والجمعية يتجاوز في تاريخه ومعناه الحضاري تلك الحدود، بغية استعادة هذا الحضور تاريخيا وثقافيا، وتقويض مفهوم سلطة المركز الغربي حضاريا، من خلال استعادة إسهامات الشرق (العربي اليوم) في تلك الحضارة، سواء من خلال التفاعل المديد بين حضارات ضفاف المتوسط تاريخيا، أو من خلال الدور المباشر لرجالات الشرق، أباطرة وحقوقيين وعلماء وشعراء وفلاسفة، في تأكيد فاعلية هذا الدور داخل السياق التاريخي والثقافي لهذه الحضارة الواقعة في قلب المتوسط.
المكان والمنفى:
تذهب راحيل انطلاقا من مقولات إدوار سعيد عن المنفى إلى بيان أثر المنفى على تعريف هويته، كما تجلى ذلك في إعلان صاحب المختارات بأنه شاعر متوسطي، وفي سعيه في النص وعلى هامشه تأسيس خطاب شعري يتجاوز الاصطلاحات الغربية والعربية، ويسود فيه الشعور بالقلق والغربة، والرغبة في الخروج على التقاليد، انطلاقا من حيز جغرافي محدد ونظرة كونية. إن مواجهة التأويل الخاطئ لمسألة الهوية، أو المصطلح المتوسطي، كما رآه الشاعر، يعيدنا إلى ما سبق الحديث عنه حول علاقة الجغرافيا والثقافة تاريخيا، حيث شكل المتوسط أقدم جغرافيا حضارية في العالم، ودأبت الحضارات على ضفتيه على تبادل التأثر والتأثير، إضافة إلى أن المراكز الحضارية في الشرق ظلت تلعب دورها في إغناء الحضارة بالكشوفات، لذلك يحاول الشاعر وصل ما انقطع في العلاقة لكي يستعيد حضوره الحضاري من أجل تصحيح خطأ المقولات الغربية حول مركزية الحضارة الغربية. أما بالنسبة لخياراته الشعرية، فلا أظن أنها تنحصر بذلك لأنها تعكس في مضمونها المتحرر من المقولات المسبقة رؤية الشاعر إلى الشعر، بوصفه مغامرة مفتوحة وتأصيلا جماليا لحضور الذات في العالم. إن هذه السردية المضادة التي يقدمها الشاعر تهدف إلى (مواجهة الخطاب الرسمي « الغربي» الذي عادة ما يمتلك طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد أنواع الخطابات الأخرى الممكنة) كما تعبر الناقدة عن ذلك في ما بعد.
شعرية التقنع والتخييل بالذات:
على خلاف ما ينفيه الشاعر من وجود تطابق بين الشاعر وضمير المتكلم في خطابه الشعري من جهة، ومما يسمح به مصطلح التخييل الشعري بالذات من اعتقاد بوجود مطابقة بينهما، ترى الناقدة أن هناك علاقة واضحة تظهر في تناوله لشخصيته الحقيقية، بوصفها موضوعا للقصيدة، سواء عبر التصريح النصي أو الإيهام به، الأمر الذي يجعلها تؤكد حاجة القارئ، لفهم نصوص الشاعر، إلى معرفة حياته والعوامل التي أسهمت في تكوين شخصيته. بعد أن أوجد الشاعر لنصه استراتيجية تقوم بتهجين الشعر بالسرد وبناء علاقة تأثير متبادل بين الذاكرة والتخييل، ما جعل أشعاره تشبهه وجعل نفسه هي القصيدة.
نوري الجراح
تضعنا هذه القراءة أمام أكثر من إشكالية خاصة حول مفهوم السرد في القصيدة من جهة، وعلاقة قصيدة النثر بالسرد كتقنية مستمدة إلى جانب تقنيات أخرى من الفنون الأخرى. أما بالنسبة لحضور الذاكرة وعلاقتها بالتخييل، فلا فن يخلو من هذه العلاقة، من دون أن يعني ذلك استغراق التخييل الشعري عنده في سيرة الذات ومعطياتها الحسية. إن الوعي الشعري في تجربة الشاعر، جماعي، وبقدر ما ينفتح على صوت الذات في هذه التجربة، فإنه يتشكل من خلاصات تجارب وروافد معرفية وشعرية متعددة، وهو ما يظهر في استخدامه المكثف لتقنيات وأشكال مختلفة من الكتابة الشعرية. لذلك فإن لجوءه إلى الترميز أو التقنع أو قصيدة الأصوات، ليس سوى وسيلة فنية لاستبعاد أحادية صوت الذات وإضفاء الموضوعية على خطابه الشعري.
تعود الكاتبة في قراءتها لتجربة الشاعر إلى بداياتها الأولى مع ديوان «الصبي» باعتبار نقطة البداية التي أسست لهذه الشعرية، لاسيما على مستوى حضور الذات، أو البعد السيري السردي في حياته، لكي تشير إلى مسألة مهمة تتمثل في الاستخدام المتبادل بين ضميري الغائب والمتكلم، أو ما تسميه بالميثاق الاستيهامي، الذي يعد الأقرب إلى قوانين الخطاب الشعري، حيث تظهر المراوحة بين الذاتي والتخييل في هذه التجربة. وتجمل الناقدة العلاقة بين أنا الذات والمرجعيات الواقعية، حيث يجري التعبير عنها في خطاب بلاغي مقيد بقوانين الخطاب الشعري وفضائه، إلى جانب الانفتاح على تقنيات يستدعيها التجريب في نمط القصيدة التي يتداخل السرد فيها مع الشعر. إن هذه الثنائية التي تتحدث عنها راحيل، تكاد تتجاهل أن السرد في الخطاب الشعري يفقد خصوصيته النثرية عندما ينتقل إلى مستوى آخر، تفرضه خصوصية بناء القصيدة، ولغتها القائمة على الانزياح. إن قوننة الشعر كما تتحدث عنها الناقدة تتعارض مع التجريب من جهة، ومع نزوع الشاعر الدائم للتمرد على هذه القوانين عبر مسيرته الشعرية بحثا عن خصوصية.
شعرية النزوع الدرامي:
تتجلى شعرية النزوع الدرامي في قصيدة الشاعر، من خلال العلاقة التي تنشأ عن استخدامه المكثف للحيل الفنية في شعره، كالتقنع والترميز. وتضيف الناقدة أن الشاعر حاول الاستفادة من العناصر الدرامية في البناء المعماري المتكامل للقصيدة، كما أفاد من مظاهر بناء المسرحية في صياغة المشاهد واستخدام الافتتاحيات الدرامية، إذ كان الصراع أول تلك العناصر الدرامية في تجسيده للواقع المأساوي السوري، حيث يظهر التوتر الدرامي المتصاعد بصورة ملحمية، حتى بدت كأنها استحضار للذاكرة الجمعية التي يحاول الآخر طمس أثرها وتغييب فاعليتها. لقد تحول الصراع في شعر الحداثة إلى سمة ظاهرة استدعتها طبيعة بنية القصيدة المعاصرة، القائمة على جدل العلاقة مع الواقع وهو ما تحاول الناقدة أن تبرهن عليه من خلال قصيدة «الأيام السبعة» التي تعتبرها قصيدة تعدد أصوات ذات بنية حوارية، فرضتها هذه التقنية المستخدمة وأكسبتها بعدها الدرامي. كذلك تتخذ من قصيدة «ابتسامة النائم» في ديوان «طريق دمشق» مثالا آخر على تعدد الأصوات والبنية الدرامية للقصيدة. كما تتحدث عن استخدام الشاعر لتقنية المرآة التي تسمح بانقسام الذات على ذاتها، كما في قصائد مجموعته «القصيدة والقصيدة في المرآة».
وتذهب الناقدة في حيز آخر إلى أن النزوع الدرامي في بنية قصيدة الجراح يتبدى عبر شعرية النص الرحلي، لأن هذا النص هو نص مفتوح على دينامية الرحلة، وعلى خطابها القائم على العلاقة بين أنا المتكلم والمخاطب، وعلى أشكال التعبير الأخرى، وهو ما يتناسب مع الطابع الملحمي لبنية القصيدة عند الشاعر. إن النصوص الملحمية الرحلية تتميز بقدرتها على تمثل عصرها، حيث لجأ الشاعر إلى استخدام «الملحمة الوهمية» أو «البطولة الزائفة» كما تسميها بهدف نقض الأسلوب البطولي الذي تتسم به الملاحم الكلاسيكية عادة. وتقدم راحيل أمثلة على ذلك من خلال افتتاحية قصيدة «كلمات هوميروس الأخيرة» التي يلجأ فيها الشاعر إلى نفي حدوث حرب طروادة، والاعتذار من أبطالها الذين خلدتهم الملحمة. إن الهدف من خلال معارضة الشاعر لهذه الملاحم ونفي وجودها واقعيا، هو تقديم سردية مضادة تكون بمثابة نقض للسردية القديمة. وتقدم راحيل مثالا آخر على المعارضة التاريخية النصية في قصيدة «وصول البرابرة» لكي يضيف معادلا موضوعيا للصراع السوري من خلال تعالق هذه القصيدة مع قصيدة كفافيس «في انتظار البرابرة».
شعرية العتبات
تشير الناقدة إلى الأهمية الخاصة التي تحظى بها العتبات في تجربة الشاعر، وفي المقدمة منها العنوان الذي يعد علامة جوهرية مصاحبة للقصيدة. تقسم العنونة في تجربة الشاعر إلى قسمين، تتصل في القسم الأول منها اتصالا مباشرا في معظمها بواقع الشاعر وبداية تكوينه، بينما تتميز في الأعمال الأخرى بغلبة العناوين الدالة على موضوع الكتاب. لكنها تعود إلى تقسيم هذه العناوين إلى عناوين إخبارية، على أنها تنتقل في دراستها بين هذه العناوين من دون أن تتبع المسار التاريخي لها من جهة، ومن دون أن تفصل في علاقة الإحالة المتبادلة بينها وبين مضمون العمل، لأن عنوان «يأس نوح» لا يختلف في بنيته ومرجعيته الدينية عن عنوان «مراثي هابيل» وكلا العملين يتناول المأساة السورية. كذلك تتحدث عن توظيف العنوان الفرعي على مستوى العنوان الرئيس والعناوين الداخلية، من دون أن تتحدث عن وظيفة هذه العنونة. ومن العتبات الأخرى التي تتناولها بالدرس عتبة الإهداء بوصفها رسائل ضمنية ذات دلالة، من دون أن تحدد مضمون هذه الدلالة بل تكتفي بالإشارة إلى أن الإهداء يرتبط بعلاقات عدة مع المجموعات الشعرية أو نصوصها، وقد جاءت مباشرة أو غير مباشرة. وتشير أخيراً إلى عتبة إضافية يستخدمها الشاعر هي عتبة التصدير التي تتميز بأنها نص – ذاتي مسند إلى مؤلف النص. إن التصدير يشكل مدخلا موضوعيا للعمل، يكشف عن مرجعيات الشاعر الثقافية، إضافة إلى كونه حافزا خارجيا لإثارة القارئ يستدعي عنده ذاكرته الثقافية، وما يحيط بها من مشاعر وتخييل. كذلك تتحدث عن استخدام الشاعر للهوامش والتذييل، بوصفها علامة بصرية إلى جانب كونها إشارات توضيحية تفسيرية. وفي النهاية تحاول الناقدة تقديم خلاصة حول علاقة الشاعر باللغة وروافده الثقافية الثرية، وعلاقته بالتراث الصوفي والحضارات الشرقية القديمة إلى جانب التراث الديني.
كاتب سوري