الإضاءة في «المقدّمات» وهوية الشعر في «جواهر الجواهري»
1 - يوليو - 2024
عبد الحسين شعبان
عبدالحفيظ بن جلولي
الكتابة عن الشعر، فيض حلم يطوف بالخيال حتى ليشعره الكاتب جليسا أمينا يرفد ذهنه بالفكرة تلو الأخرى، وبالبداهة المستحيلة التي يستقبل بها الشاعر قصيدته، وبالروح الأسطورية التي يتدفق بها في الحياة. يعود الكاتب أدراجه إلى نفسه متأمّلا اللحظة الوجودية التي وفّرت له الاندراج في حالة شعرية كرّست زمنها المحدود لابتهاجات قادمة من اللامحدود، تلك هي تجربة الكاتب عبد الحسين شعبان في تقديم القصيدة في تجربتها الشعرية «الجواهرية» للشاعر محمد مهدي الجواهري الممزوجة بالأمل والألم والفرح والوطن والإنسان، معلنة ميلاد «جواهر الجواهري» مسدَّدة بعتبات مقدماتية شاركت فيها عقول شاعرية لامست تجربة الجواهري عن قرب وأدركت الفرادة الإبداعية فيها.
محايثة التجربة والإضاءة العملية
شعرْتُ رغبة عبد الحسين شعبان وهو يقدّم جواهرية الجواهري في جعل القارئ محايثا للتجربة، متقاسما معه اللحظة ذاتها التي جمعته إلى الشاعر عام 1985، لإجراء حوارات كان قد أتمّ منها عشر ساعات، أفادت كما يذكر المفكر حسن العلوي، عندما كان يحضّر «لإصدار كتاب عن الجواهري» الموسوم «الجواهري ديوان العصر» «وأشار إليها فيه أكثر من مرّة». خلال تلك الجلسات «استعاد الجواهري فكرة إصدار مختارات عن شعره، والجميل أنّ عين الجواهري كانت على الشباب العربي الذي لا يستطيع اقتناء مجاميعه الشعرية. اعتملت الرغبة في نفس الكاتب عبد الحسين شعبان وشعر بمسؤولية أدبية وأخلاقية في إنجاز المشروع، وصدر الكتاب أول مرّة عام 1986 عن دار طلاس في سوريا بعنوان «الجواهري في العيون من أشعاره».
ثلاثة أفكار مهمة أحاطت المشروع وجعلت منه فكرة قابلة للتحقيق، أولا: شعور الشاعر بأهمية التداول الشعري، وهو ما يحيل إلى أنّنا لا نتعلم الشعر، نحن نشعر الشعر بتعبير بورخس. ثانيا: إنصات الكاتب للصدى العميق لرغبة الشاعر، وهو ما يؤكد فكرة جمال الروح عند شمس التبريزي: «جالس جميل الروح تصيبك عدوى جماله» وثالثا: أهمية حضور الشعر في الواقع، لأنّ القصيدة تكشف لحظة جمالية خاطفة تتعرّى في الروابط بين الشاعر والأشياء، وبذلك جاز له ما لا يجوز لغيره، إمعانا في مدّ الحياة بالمبهر ومستحيل الحدوث سوى في الشعر. إنّ العنوان الجديد «جواهر الجواهري» الصادر عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع في الكويت عام 2024 كان موفقا في ترجمة ما أشرت إليه، حيث كان عبد الحسين شعبان حريصا على أن تكون المختارات من أشعار الجواهري، كما لو كان القارئ مشاركا في اختيارها، وهو اختبار لمدى حنكة الكاتب في إضاءة ما لا يعرفه القرّاء والمهتمين بالشعر والمحبين للجواهري، لا أعني الحياة الشخصية وإن كانت ذات أهمية، لأنها البصمة الوجودية التي تؤثر وتتأثر بالعالم، لكن ما قصدته هو عناصر الرّؤيا كما أدركها من عاصروا الشاعر والتقوه ووقفوا على طرائق تفكيره.
الجواهري في أحاسيس المقدمات
قسّم عبد الحسين شعبان الكتاب إلى قسمين، القسم الأول حوالي ست وعشرين صفحة، طرح فيه مقدمات واستهلالا وكلمة للشاعرة سعاد الصباح ونصا نثريا للجواهري يبرز قدرته الحداثية على الصياغة النثرية الفنية، بامتلاكات معرفية تراثية، فلغته «عباسية بامتياز» كما يقول شعبان، «وهو الذي تمسّك بخيط الحداثة على طريقته، ليقوي بها الموروث العريق، وليكوّن شعرية خاصة أعطت لتجربته معجما خاصا» كما تقول سعاد الصباح. أما القسم الثاني حوالي أربعمئة وستين صفحة، وزّعها على عشريات (ما كتبه الشاعر خلال عشر سنوات) فامتدّت من العشرينيات إلى الثمانينيات، وأضيفت في الطبعة الجديدة القصائد التي كتبها بعد صدور «العيون» كما تمّ تحديث سيرة الجواهري إلى تاريخ وفاته في 27 تموز/ يوليو 1997. صدر لعبد الحسين شعبان كتاب عن الشاعر بعنوان «الجواهري جدل الشعر والحياة» وذلك لوقوفه على أهمية الجواهري في مسار التاريخ الشعري العراقي والعالمي، فهو يعلق على موقف طلب فيه الجواهري رفع قصيدة من المختارات، أثناء طبعة دار طلاس، وكان الكتاب قد تمّ إخراجه بصيغته النهائية، ونزل الكاتب عند طلب الشاعر معلّلا ذلك، «وبالطبع فهذا مزاج الجواهري وعلينا جميعا مراعاته والنزول عند رغباته، فنحن لم نكن أمام شاعر وحسب، بل حالة من الشّعر» وهذا ما يستدعي الوقوف عند العلاقة بين صاحب الاختيارات والشاعر. أثناء القراءة كنت أشعر بأن الكاتب يضع القارئ في أجواء تلك العلاقة من الحضور في واقع الشاعر، فعندما يجعلنا ندرك طبيعة مزاج الجواهري، كأنّما يفترض رغبةً المتلقي في حضرة الشاعر، ليس لمجرّد الحضور، لكن، لأنّ شعرية الجواهري تمتد في الوعي الإنساني كتجربة ضمن سياقات تاريخية معيّنة، منجزة وفق حداثة اللحظة المعيشة .يأتي شكر الجواهري لجهد عبد الحسين شعبان متناغما مع عمق العلاقة التي ربطتهما، ودلّل على ذلك ببيت شعرٍ للحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
والرؤية العميقة في البيت هي ربط الخير بالمطلق، بالله تعالى، فالخير يذكر بطبيعته الخيرية لا بحجمه، والجواهري أراد إيصال معنى «المطلق» في علاقته بعبد الحسين شعبان، وهذا من فلسفية وإنسانية رؤيته الشعرية.
اطّلع الجواهري على هذا العمل الشعري المتعلق به، ووصفه بأنّه «الواحة الأكثر اخضرارا والأغزر ينابيع» واهتمام الجواهري بالعمل المنسوب إليه انتاجيةً والمنظّم منهجيا برؤية غيره، يعبّر عن الحرص الاشتغالي في ترتيب وتبويب الصدور الشعري، الذي هو جزء منه انتقل إلى العالم ليؤدي دوره الحيوي والجمالي في ترميم الخيال.
إنّ شاعرا بهذا المستوى، لا بد أن يترك أثرا في مسار الشعرية العربية، وسعاد الصباح باعتبارها شاعرة، تدرك تلك المنطقة النورانية في تاريخية الكلم الشعري المنجَز في «عصر الشعر الذي تجاوز السردية العربية المكبلة، وتمرّد على السردية الغربية المهيمنة، ذاهبا إلى منطقة جديدة.. منطقة جوهرية أو جواهرية.. حيث تصير الكلمة أوسع وأعمق». تضع سعاد الصباح الجواهري في مستوى «العصر الشّعري» أي اكتمال التجربة شعرية ومعنى وكلمة، وهو ما يحيل إلى التجديد في القصيدة من الداخل، أي من كيان الشعرية العربية ذات الفرادة والخصوصية، حيث «تمّ اعتبار الشعر العربي على الدوام، مستودع هذه الثقافة وتاريخها» كما يرى جمال الدين بن الشيخ في «الشعرية العربية». أيضا الالتماعة البرّاقة في معنى «العصر الشعري» نقد التجرية الشّعرية العربية ذاتها، لأنّ عدم الانفكاك من الذائقة الشّعرية العربية المتوافقة والعمود والمتعالقة مع حداثة التجربة الشّعرية العالمية، لا يستقر إلا إذا أعمل الشاعر نقديته في كمال التجربة الشعرية التراثية التي تشكل بتعبير محمد العباس «عقدة» أو «إعاقة جمالية».
إنّ البيئة والشخصية النّاتجة عنها تكثفان رغبة الشاعر في الانفراد بصياغة شعرية على «ميزان الذهب» بتعبير أحمد الهاشمي، وقد توفّرت للجواهري كل مقوّمات نضوج التجربة، إذ تخاطبه الدكتورة نجاح العطار: وعلى أنك تنفّست الشعر مع الرّضاع، في نَجَفِك الذي كله شعر، فقد أبيت أن تُحمل على الطاعة وفي طبعك تمرّد، ورفضت الاستسلام وفي دمك ثورة، وعشت أنوفا إلا مع الصّحب، وعليهم، واحتفظت منذ طفولتك بالكبرياء وبالدلال، حتى «لتحسب الأنجم بعض لعبك» وهذا بعض روح الشعر». إنّ انبثاق الطفولة في فضاء شعري يجعل الشخصية كينونة تفكر داخل الشعر وبالشعر، فيصبح النّجف المكوّن الرّئيس في تبلور الحالة الشعرية عبر الزمن، لأنّ للمكان سطوة على الإنسان، لا يغادر كيانه لتكرّسه في وعيه، وبالتالي، تصبح القصيدة معادلا موضوعيا للمكان الذي يصير أساس الفكرة الشعرية، وفي هذا الإطار تتشكل خصوصية الشعر، ومن عناصرها اكتسب الجواهري مميّزات الخصوصية الوجودية والشعرية النجفية، التمرد، الثورة، الأنفة، الكبرياء والدلال، وهو ما جعل التجربة الشعرية تتواشج مع «اللعبية» المشاكسة، التي تفكك وقد لا تجد طريقا إلى التركيب، وذلك هو أفق الشّعر الإغرائي والجمالي والأسطوري
الجواهري بقلمه والنثر المخاتل:
في مقدمة طبعة دار طلاس «الجواهري في العيون من مختاراته» التي ضمّنها عبد الحسين شعبان الطبعة الجديدة «جواهر الجواهري» يرِد اعتراف في غاية الشفافية عن فكرة المختارات: «مضت فترة طويلة، منذ أن برزت فكرة إصدار مثل هذه المجموعة. وقد تجاوزتُ حد التحدث عنها في ما بينها وبين نفسي، إلى حدود التحدث عنها من قبل العديد من معارفي وأصدقائي». إنّ حديث النفس عند الشاعر ليس كما هو عند غيره، لأنّه يمثل التفكير بصوت مرتفع داخل الأعماق التي تتصارع فيها النّوازع والعواطف مندفعة إلى عالم الواقع في صورة إبداع، قصيدة لم يخطّط لها الشاعر إلا بالقدر الذي يدرك فيه مخاض غير مفسّر من أشياء النفس. حديث النفس هو مناط عمل الشاعر، وبالتالي تصبح فكرة المختارات ذات طبيعة شعرية.
إنّ سبب التفكير في المختارات كما يذكر الجواهري هو عدم قدرة ذوي الكفاف على الوصول إلى مجاميعه، «والمغبون الأول في ذلك هو الشباب العربي الجامعي بخاصة، وكل متذوّقي الأدب والشعر منهم بعامّة». لعل ما يهيمن على تفكير المتأمل في هذا التحسر الأدبي هو فكرة الجمال، وضرورة رؤية الحياة في أفق المعنى. إنّ عيش الحياة بطبيعته إنساني، ولهذا على الحياة أن تكون مشمولة بإنسانية الإنسان، الجمالية بالدرجة الأولى، والشعر أفق الذات حين تعيش ذاتها متأمّلة علاقة ما يحيطها والعالم بأعماقها ووجدانياتها. إنّ فردية الشاعر تزول عند عتبات تشارك الشعر مع الآخر ليصبح كالخبز والماء والهواء. يستنفر الشاعر كل قواه الوجدانية ليتقاسم لحظة القصيدة مع النّاس، أولئك الذين لا يبحثون سوى عن بهجة أخيرة في الحياة، الشاعر يتقاسم معهم لحظات البؤس الوجودي، وفي الوقت ذاته يترغّب مقاسمتهم لحظة ميلاد القصيدة. هذا هو الجواهري الإنسان في عمقه الكوني.
ينتج الجواهري من جواهره شذرات نثرية رقيقة وشفّافة، تتمثل البعد التراثي الذي يدركه القارئ بين تضاعيف الأسلوب النثري الحداثي، ونص «على قارعة الطريق» يستطلع في الجواهري طبيعته التشاركية وعمقه النّفسي الذي يعتمل فيه النثر موزّع بين مستويات حوارية وصراعية.
«على قارعة الطريق» رحلة مع الآخر الذي ينبش في تربة المعنى ليخرج «الجواهري» المفعم بسؤال الذات والوجود والجمال. تتأجّج الهواجس في مسار السفر الوجودي المكتظ بالشعر كمحاولة للإجابة عن سؤال الهوية والأفق المقولي: «قال لي: أأنت مسافر مثلي؟ فقلت له: لا! بل أنا شريد». إنّه التيه الوجودي عبر التاريخ الممتد في جذور الكينونة العراقية القادمة من أعالي بابل، وإلى صحون القصور العباسية، إنّه الشعر الماثل بين الإنساني الذي لا يحده المحدود والآخر الذي تستهدفه القصيدة كفاعل يستشرف بشاراتها.
الجواهري.. الميثاق الأدبي وهوية القصيدة:
في القسم الثاني من «الجواهر» يجد القارئ فسحة للتنزّه في رياض الجواهري وفي وعيه المختارات، أي ما اختير من أهم ما قاله الشاعر، طبعا سوف يختلف بعض الشّيء معها، لأنّ الشعر قبل كل شيء ذوق، ولأنّ المتلقي أيضا سوف يختار من المختارات الواردة عبر ما يفوق الأربعمئة صفحة.
تناثرْتُ عابرا لجسد المختارات كملاحق لغيمة متلهفا لسقياها، ثم رأيتني أقفز على أبيات لأعانق أخرى في قصيدة تالية، وفي كل ذلك أجد وجه الجواهري ورنين صوته العراقي المفخّم، المغلّظ والمتثاقل في تسريب الكلمات معنى معنى. في كلية المختارات، وجدتني أقف على ما يشبه «الميثاق الأدبي» بين الشاعر والقارئ:
أحبّتي الذين وعوا قولي رصينا، لا اغترارا ولا اختيالا
لكم عندي حقوق لا توفى ولو صغت النّجوم لها مثالا
ولي حق عليكم أوجبته قواف رجّعت حقبا طوالا
تقع هذه الأبيات كمركز ثقل للمختارات، إذ تجعل حضور القارئ معتبرا، وهذا يحيل إلى التشاركية التي سبقت الإشارة إليها في وضع صاحب المختارات القارئ كحضور في لحظات الاختيار بين الجواهري وعبد الحسين شعبان.
تحضر المدن، بغداد، بيروت، القاهرة، براغ، ويحضر الحزن والفرح، ويبقى جرس الفرات ودجلة والنّخيل والعراق ينوس مبهجا التلقي بتراتيل القوافي الدالة على حركة المكان في وجدان الشاعر:
سلام على أرض الرّصافة إنّها مراح ذوي الشكوى وسلوى ذوي الوجد
لها الله ما أبهى ودجلة حولها تلف كما التف السوار على الزند
تنفتح الشعرية عند الجواهري على تلك المواجهة الهادئة حينا والعاصفة أحيانا مع الأشياء، حتى إنّه يجعل من القصيدة كينونة وحدها تدوّي في فضاءات المحافل بمعزل عن الشاعر الذي يرقب في الوقت ذاته عودة القصيدة إليه، فالقصيدة عند الجواهري نضال محايث لوجود الشاعر في العالم، ولعل رمزية تمزيق الأوراق التي تحوي القصيدة «الوترية» (1949) في نهاية الإلقاء يحيل إلى حركة القصيدة ذاتها على مسرح الوجود ككينونة فاعلة منفصلة، ولهذا كان شعر الجواهري تواصلا مع العمود، لا ثباتا عند رصيفه، لكنه تثبيت لتاريخية مستمرة قادرة على أن تحفظ الكيان العربي من الانمحاء. تلك هي هوية القصيدة عند الجواهري.
كاتب جزائري