غسان النعنع يهتم بروحانية الأشياء و يعتمد على خياله (غايته الإنسان كقيمة عليا) |
بقلم غازي عانا.
إن علاقة التشكيلي غسان النعنع بلوحته أكثر ما تظهر في اللون وطريقة معالجاته وصياغاته الخاصة به
التي تستقر باتفاق وتناغم مدهش على سطح اللوحة المتصالح مع جميع عناصرها ومقومات نهوضها، وهذا برأيي ما ميـّز تلك التجربة الهامة في التصوير عن غيرها من التجارب الحاضرة والموازية لها هي أيضاً من حيث الأهمية والحضور في المشهد التشكيلي السوري، كما أن علاقة التشكيلي باللون كمصوّر مرتبطة هي أيضاً بالموسيقى، فلا بدّ للمتابع ليوميات التشكيلي في المرسم أن يكتشف تلك العلاقة الجدلية بين ما يصوره وبين ما يسمعه من الموسيقى التي تواكب تطبّقات ألوانه التي تستقر تباعاً على سطح اللوحة بإيقاعاتها وتداخل تلك التونات مع بعضها بفواصل تتقاطع مع النوتة وأشكال الإشارات وأزمنتها في الموسيقى، وهي هنا متباينة نسبياً بحيث نلاحظ توضـّعها بالنهاية على شكل مستويات تجعل المشهد يبدو سديمياً وينزاح باتجاهٍ أقرب إلى الانطباعية وأحياناً إلى الرومانسية دون التخلّي عن الواقعية كإسناد.
تعكس لوحة غسان النعنع - المصور المتمكّن من أدواته والمواد التي خبرها جيداً منذ كان طالباً في كلية الفنون الجميلة بدمشق قبل حوالي الثلاثة عقود من اليوم - تعكس تلك الخبرة والمهارة التي ظهرت في مشروع تخرجه «العمال المنتظرون على الأرصفة» في قسم التصوير 1978، حتى حفظ بعض لوحات التخرج العديد من الأصدقاء والزملاء التي بقيت في ذاكرتهم، مثلما بقي محتفظاً لنفسه ببعضها إلى اليوم في المرسم، وهذا برأيي ما أعطى التشكيلي زخماً قوياً جعل اسمه متداولاً في المشهد التشكيلي السوري ومنذ تلك الفترة التي كانت غنية وحيوية في دمشق، كما تميّزت أيضاً مجموعة فناني حمص المجتهدة والمعروفة بنشاطها إلى اليوم.
من اليمين الفنان غسان النعنع والفنان ادوارد شهدا
تعتمد تجربة التشكيلي النعنع كصياغة على الفراغ كأساس في بنائية المشهد مختزلاً مفرداته ومهتماً بالتكوين والاشتغال أكثر على المؤثـّرات وكل ما من شأنه أن يغني من خلاله سطح اللوحة الذي يعوّض من خلاله عن حركة المفردات والعناصر في النوع الآخر من الموضوعات وخاصة الملحمية التي تزدحم بالأشخاص والأشكال والطبيعة الصامتة أو لوحات الطبيعة الخلوية التي يصيغها مباشرة عن الواقع في الملتقيات الفنية داخل أو خارج سورية.
إن ما يجمع لوحات غسان النعنع على اختلاف موضوعاتها وصياغاتها تلك المجموعة من الألوان التي يستخدمها غالباً مناغماً فيما بينها بأسلوب بات يميّز طريقة اشتغاله وتفكيره وفهمه للوحته بعناصرها المختلفة بدءاً من الخطوط الأولى التي يحدّدها بالريشة والألوان بتباين تأثيراتها على السطح، إلى أن يفرش المساحة بمنظومة ألوان مختلفة يؤسّس من خلالها أرضية يثبـّت على أجزاء منها بعض المفردات التي تختفي وتعود لتظهر من جديد ربما بشكل مختلف وأكثر وضوحاً أو ثباتاً، وهكذا تدريجياً إلى أن تبدأ بالظهور بعض المعالم أو الإشارات إلى الموضوع الذي يشاركنا التشكيلي تلك الرغبة بالتعرّف عليه، رغم ضبابية المشهد ورمزيته الذي قد يصل أحياناً إلى مشارف التجريد، وخاصة في الخلفية الحاضنة لجميع التفاصيل والكائنات في المقدمة والمكتسِبة شرعيتها وقيمتها التشكيلية والجمالية من ذلك الحامل، الذي هو نفسه الفضاء الافتراضي والتجريدي لذلك الواقع المحقـّق على سطح اللوحة بأقصى حُلْميته.
غالباً ما يستدرج التشكيلي غسان النعنع الزمان الذي يفترضه إلى سطح اللوحة بشخصياته ومستلزماتهم بعد أن يهيئ لهم المكان المناسب الذي لا بدّ أن يضمّهم بحميمية، مع رائحة البخوّر والتوابل الذي تعبق به تلك الجلسات والتي أحياناً تكتفي بشخصين اثنين وبعض الموسيقى، حتى تقتصر في بعض الكوادر على الاكتفاء بشخصية واحدة، وهنا نلاحظ اجتهاد التشكيلي على خياله ومهاراته في الصياغة التقنية لونياً لإيهامنا بحيوية وتناغم عناصر اللوحة المختلفة في فضائها الذي يُغنيه بالمؤثرات البصرية والجمالية معوّضاً بذلك عن أهمية الحضور المكثّف للمفردات والأشكال التي غالباً ما تساعد التشكيلي في بناء تكوين لوحته وعمارتها ككتلة وفراغ مناسبين.
غالباً ما يهتم غسّان النعنع بتجسيد الحالات الإنسانية المرتبطة بموضوعات الحياة المتعلّقة بروح الأشياء أكثر من العادي والزائل منها، فهو ينقل الإحساس بالحالة ولحظة التعبير التي تعكس تلك المشاعر المختلفة والخاصة بكل من تلك الشخصيات في الجلسة المستديرة، أو التي تضم عازفين مع آلاتهم في فضاء يرتدّ فيه صدى الصوت قوياً، ربما من الشعور بصمت الأشياء التي تسمّرت في مكانها، نتعرّف من خلال بعض الضوء عن حركة هناك بصعوبة فلا نميّز بين الكائنات وظلّها من تداخل العناصر أو تماهيهم في ضبابية مشهدية تقّصدها التشكيلي أن تعكس بعض الحالة النفسية والفلسفية التي تغلّف شخوصه في تلك اللحظات من الرسم.
وغسان النعنع من التشكيليين القلائل الذين أخلصوا للوحتهم ولم ينقادوا لإغراءات السوق وشروطه، فبقيت لوحته وما تضمّ من عناصر قوة وأصالة لا تعكس سوى فضاء روحه وبعض حلمه، وفي هذا المعرض الأحدث له بغاليري تجليات 2011 قدم خلاصة تجربته من خلال مجموعة من اللوحات التي تجلّى فيها أكثر من أسلوب وتقنية كان اشتغل عليها خلال الثلاث سنوات الماضية وقد اشتملت تلك الأعمال على موضوعات تتضمن في جزء منها الطبيعة الصامتة، ومناظر من الطبيعية في ملتقى الملاّجة بطرطوس والتي تميّزت بطريقة الأداء وتأثير الأدوات والتكثيف الشديد لمشاهداته من خلال ضربات قوية متتالية وواثقة من فرشاة تركت وراءها بقعاً صغيرة من الألوان المتباينة بتأثيرها، مكتفية بالنهاية بما تبقى من الواقع، أو ما اختار التشكيلي منه باختزال مشهد بديع من تلك الطبيعة الغنية بجمالياتها وما تحمل من أحاسيس ومشاعر في تلك اللحظات من الفعل الإبداعي والإنشائي لعمل اللوحة.
غسان النعنع الذي أراد من معرضه هذا أن يكون وثيقة بصرية لنتاج ثلاثة أعوام من العمل والتجريب في المواد والأدوات، هو نجح بلا أدنى شكّ في تقديم ذلك من خلال مربعات آسرة من الدهشة المتضمنة كل متعة التشكيلي وحلمه وحبه وغضبه في تلك اللحظات من الفعل والانفعال التي فاضت بها معظم كوادره بشهادة الموسيقا التي كدنا نسمع رجع ترداد صداها من بين طبقات اللون وتوناته التي توافق في إيقاعاتها ذلك الزمن في النغمة، وبالتالي تناغمها مع بعضها ومع ما تبقى من الشكل وإيحاءات الخط أو الوهم الذي يحدّد نهاية الطيف اللوني وبداية آخر، وهكذا حتى نهايات اللون عند حواف اللوحة لحظة توقيع التشكيلي الذي يعلن نهاية متعته وبداية استمتاعنا.
رغم اختلاف الموضوع والتقنية أحياناً التي تراعي شروط العمل ومنظومة الألوان التي يقرّر التشكيلي العمل بها وهي غالباً الزيتية الممددة لرغبته ربما بإطالة الزمن في الصياغة على قماش اللوحة مباشرة لكثير من احتمالات المفاجأة والصدفة التي يُحتفظ بالناضج منها وإهمال معظمها من خلال عملية المزج والدّعك يلغي بعضها بإضافة أخرى وهكذا ليستقرعلى الدرجة اللونية التي يراها مناسبة لإظهار أو تحديد بعض الشكل الذي نبدأ بالتعرف عليه تدريجياً نحن والتشكيلي على السطح المرن الذي يُرجع تددات ضربات الفرشاة على القماش المشدود من أربع جهاته، وهذه مرحلة اولى لا بدّ أن تجفّ، حتى يعود التشكيلي من جديد وبما يحمل من مشاعر وأحاسيس مختلفة وما استجدّ عليه خلال هذه الفترة فيسكبه على السطح مباشرة، مضيفاً على ما استقر في اللوحة من تلك المرحلة كلّ ما تحمل تلك اللحظات الجديدة من مقومات وإشارات ومعاني يمكن من خلالها أن توثّق لحالة معينة بذاتها بما تحمل من واقعية أو ما تعكس من حلم.
إن أهمية لوحة غسان النعنع تكمن في إيهام المشاهد بسرّية إيحاها، ومن الغموض الذي يغلّف عناصر قوتها، فلا يعلن التشكيلي عن دهشته مباشرة إلاّ من خلال اللون وخصوصية الصياغة التي لا تُظهر اهتماماً بالأشخاص وما يدور في فلك جلساتهم من مواضيع قد تشغل المتلقي أحياناً، لا تلبث تلك الانشغلات أن تزول بمجرّد التمعّن بفضاءات المشهد، ما تركته تلك الأدوات الماهرة على السطح من أثر وتأثير بصري وجمالي غني بتناغماته اللونية، التي نشعر أحياناً بتصادم بعضها أو بتفاهم مجموعة تالية لتلك، تخفّف من وطئة ذلك الاختلاف من برودتها ربما في معظم الأحيان، رغم تجاورها لمنظومة حارة مسيطرة وقريبة، تُظهر من غير عناء ذلك التباين وحدة الاختلاف على حضورها الأميز في مقدمة المشهد، وهذا ما يؤكد انشغال التشكيلي أو إشغال المتلقي بتلك التنغيمات أو الغناء الذي تؤديه الألوان في مختلف مناطق اللوحة المحتفية بالنهاية باللون أولاً، أي بروحانية الأشياء، والغاية هنا الإنسان كقيمة عليا فوق كل قيمة في الحياة.
بالأسود والأبيض يكثّف غسان النعنع كل معرفته باللون واجتهاده على استحضار الضوء في الزمان والمكان المناسبين في اللوحة ليمنح عناصره نفس الميزات من الحضور في المشاهد الملونة، وهذا ما يكلّف التشكيلي عملاً مضاعفاً من الاشتغال على حساسية كل من هذين النقيضين الذين يُظهران في تلك المشاهد أقصى حالات التفاهم الممكنة على الاحتفاء بنفس الأشخاص المجتمعين في تلك الجلسات التي تبدو هانئة ورومانسية من أجوائها المفعمة بالحركة والانفعال والحب والموسيقى التي غالباً ما تضفي على تلك المشاهد معظم إيحاءاتها بالزمن الجميل والمكان الذي يهيئه التشكيلي بكثير من العناية حتى يتناغم مع مجمل ما يمكن أن ينهض باللوحة إلى مستوى من القيمة الفنية توازي تلك القيم الجمالية والروحية التي تعكسها تلك الفضاءات من غير ألوان وبعض الشكل وكثير من الحلم .
وفي النهاية لا بدّ حتى نكون منصفين أن نعترف لهذا الفنان بجدية وقيمة ما قدّمه من لوحات على اختلاف صياغاتها في هذا المعرض تجليات – 2011، وما أضاف من حيوية وأهمية للمعارض في صالات العاصمة دمشق لهذه الفترة من العام، وهذا برأيي دليل عافية يؤكد مع غيره من التشكيليين الجادين أن الحركة التشكيلي السورية ما زالت بخير ..
غسان النعنع .. تشكيلي لم تأخذ تجربته حقـّها بالاهتمام، ليبقى اسمه ما زال ضبابياً في لائحة الشهرة من التشكيليين، وهذا المعرض - لمن لم يعرفه جيداً، أو تناساه في زحمة المعارض العقود – كان بمثابة الإضاءة أو إعادة الاعتبار لفنان من الجيل الثالث ومن الصفّ الأول، وأول ما تعرّف عليه الجمهور من خلال مجموعة فناني حمص المجتهدة، وهو المتخرّج من فترة السبعينات الأكثر تالّقاً، التي انتعشت وما زالت تحفظ الجميل لفناني العقد الذي سبقها لذلك استحقت أن تكون امتداداً لها، الستينات العقد الذهبي للحركة التشكيلية السورية...
بقلم غازي عانا.
إن علاقة التشكيلي غسان النعنع بلوحته أكثر ما تظهر في اللون وطريقة معالجاته وصياغاته الخاصة به
التي تستقر باتفاق وتناغم مدهش على سطح اللوحة المتصالح مع جميع عناصرها ومقومات نهوضها، وهذا برأيي ما ميـّز تلك التجربة الهامة في التصوير عن غيرها من التجارب الحاضرة والموازية لها هي أيضاً من حيث الأهمية والحضور في المشهد التشكيلي السوري، كما أن علاقة التشكيلي باللون كمصوّر مرتبطة هي أيضاً بالموسيقى، فلا بدّ للمتابع ليوميات التشكيلي في المرسم أن يكتشف تلك العلاقة الجدلية بين ما يصوره وبين ما يسمعه من الموسيقى التي تواكب تطبّقات ألوانه التي تستقر تباعاً على سطح اللوحة بإيقاعاتها وتداخل تلك التونات مع بعضها بفواصل تتقاطع مع النوتة وأشكال الإشارات وأزمنتها في الموسيقى، وهي هنا متباينة نسبياً بحيث نلاحظ توضـّعها بالنهاية على شكل مستويات تجعل المشهد يبدو سديمياً وينزاح باتجاهٍ أقرب إلى الانطباعية وأحياناً إلى الرومانسية دون التخلّي عن الواقعية كإسناد.
تعكس لوحة غسان النعنع - المصور المتمكّن من أدواته والمواد التي خبرها جيداً منذ كان طالباً في كلية الفنون الجميلة بدمشق قبل حوالي الثلاثة عقود من اليوم - تعكس تلك الخبرة والمهارة التي ظهرت في مشروع تخرجه «العمال المنتظرون على الأرصفة» في قسم التصوير 1978، حتى حفظ بعض لوحات التخرج العديد من الأصدقاء والزملاء التي بقيت في ذاكرتهم، مثلما بقي محتفظاً لنفسه ببعضها إلى اليوم في المرسم، وهذا برأيي ما أعطى التشكيلي زخماً قوياً جعل اسمه متداولاً في المشهد التشكيلي السوري ومنذ تلك الفترة التي كانت غنية وحيوية في دمشق، كما تميّزت أيضاً مجموعة فناني حمص المجتهدة والمعروفة بنشاطها إلى اليوم.
من اليمين الفنان غسان النعنع والفنان ادوارد شهدا
تعتمد تجربة التشكيلي النعنع كصياغة على الفراغ كأساس في بنائية المشهد مختزلاً مفرداته ومهتماً بالتكوين والاشتغال أكثر على المؤثـّرات وكل ما من شأنه أن يغني من خلاله سطح اللوحة الذي يعوّض من خلاله عن حركة المفردات والعناصر في النوع الآخر من الموضوعات وخاصة الملحمية التي تزدحم بالأشخاص والأشكال والطبيعة الصامتة أو لوحات الطبيعة الخلوية التي يصيغها مباشرة عن الواقع في الملتقيات الفنية داخل أو خارج سورية.
إن ما يجمع لوحات غسان النعنع على اختلاف موضوعاتها وصياغاتها تلك المجموعة من الألوان التي يستخدمها غالباً مناغماً فيما بينها بأسلوب بات يميّز طريقة اشتغاله وتفكيره وفهمه للوحته بعناصرها المختلفة بدءاً من الخطوط الأولى التي يحدّدها بالريشة والألوان بتباين تأثيراتها على السطح، إلى أن يفرش المساحة بمنظومة ألوان مختلفة يؤسّس من خلالها أرضية يثبـّت على أجزاء منها بعض المفردات التي تختفي وتعود لتظهر من جديد ربما بشكل مختلف وأكثر وضوحاً أو ثباتاً، وهكذا تدريجياً إلى أن تبدأ بالظهور بعض المعالم أو الإشارات إلى الموضوع الذي يشاركنا التشكيلي تلك الرغبة بالتعرّف عليه، رغم ضبابية المشهد ورمزيته الذي قد يصل أحياناً إلى مشارف التجريد، وخاصة في الخلفية الحاضنة لجميع التفاصيل والكائنات في المقدمة والمكتسِبة شرعيتها وقيمتها التشكيلية والجمالية من ذلك الحامل، الذي هو نفسه الفضاء الافتراضي والتجريدي لذلك الواقع المحقـّق على سطح اللوحة بأقصى حُلْميته.
غالباً ما يستدرج التشكيلي غسان النعنع الزمان الذي يفترضه إلى سطح اللوحة بشخصياته ومستلزماتهم بعد أن يهيئ لهم المكان المناسب الذي لا بدّ أن يضمّهم بحميمية، مع رائحة البخوّر والتوابل الذي تعبق به تلك الجلسات والتي أحياناً تكتفي بشخصين اثنين وبعض الموسيقى، حتى تقتصر في بعض الكوادر على الاكتفاء بشخصية واحدة، وهنا نلاحظ اجتهاد التشكيلي على خياله ومهاراته في الصياغة التقنية لونياً لإيهامنا بحيوية وتناغم عناصر اللوحة المختلفة في فضائها الذي يُغنيه بالمؤثرات البصرية والجمالية معوّضاً بذلك عن أهمية الحضور المكثّف للمفردات والأشكال التي غالباً ما تساعد التشكيلي في بناء تكوين لوحته وعمارتها ككتلة وفراغ مناسبين.
غالباً ما يهتم غسّان النعنع بتجسيد الحالات الإنسانية المرتبطة بموضوعات الحياة المتعلّقة بروح الأشياء أكثر من العادي والزائل منها، فهو ينقل الإحساس بالحالة ولحظة التعبير التي تعكس تلك المشاعر المختلفة والخاصة بكل من تلك الشخصيات في الجلسة المستديرة، أو التي تضم عازفين مع آلاتهم في فضاء يرتدّ فيه صدى الصوت قوياً، ربما من الشعور بصمت الأشياء التي تسمّرت في مكانها، نتعرّف من خلال بعض الضوء عن حركة هناك بصعوبة فلا نميّز بين الكائنات وظلّها من تداخل العناصر أو تماهيهم في ضبابية مشهدية تقّصدها التشكيلي أن تعكس بعض الحالة النفسية والفلسفية التي تغلّف شخوصه في تلك اللحظات من الرسم.
وغسان النعنع من التشكيليين القلائل الذين أخلصوا للوحتهم ولم ينقادوا لإغراءات السوق وشروطه، فبقيت لوحته وما تضمّ من عناصر قوة وأصالة لا تعكس سوى فضاء روحه وبعض حلمه، وفي هذا المعرض الأحدث له بغاليري تجليات 2011 قدم خلاصة تجربته من خلال مجموعة من اللوحات التي تجلّى فيها أكثر من أسلوب وتقنية كان اشتغل عليها خلال الثلاث سنوات الماضية وقد اشتملت تلك الأعمال على موضوعات تتضمن في جزء منها الطبيعة الصامتة، ومناظر من الطبيعية في ملتقى الملاّجة بطرطوس والتي تميّزت بطريقة الأداء وتأثير الأدوات والتكثيف الشديد لمشاهداته من خلال ضربات قوية متتالية وواثقة من فرشاة تركت وراءها بقعاً صغيرة من الألوان المتباينة بتأثيرها، مكتفية بالنهاية بما تبقى من الواقع، أو ما اختار التشكيلي منه باختزال مشهد بديع من تلك الطبيعة الغنية بجمالياتها وما تحمل من أحاسيس ومشاعر في تلك اللحظات من الفعل الإبداعي والإنشائي لعمل اللوحة.
غسان النعنع الذي أراد من معرضه هذا أن يكون وثيقة بصرية لنتاج ثلاثة أعوام من العمل والتجريب في المواد والأدوات، هو نجح بلا أدنى شكّ في تقديم ذلك من خلال مربعات آسرة من الدهشة المتضمنة كل متعة التشكيلي وحلمه وحبه وغضبه في تلك اللحظات من الفعل والانفعال التي فاضت بها معظم كوادره بشهادة الموسيقا التي كدنا نسمع رجع ترداد صداها من بين طبقات اللون وتوناته التي توافق في إيقاعاتها ذلك الزمن في النغمة، وبالتالي تناغمها مع بعضها ومع ما تبقى من الشكل وإيحاءات الخط أو الوهم الذي يحدّد نهاية الطيف اللوني وبداية آخر، وهكذا حتى نهايات اللون عند حواف اللوحة لحظة توقيع التشكيلي الذي يعلن نهاية متعته وبداية استمتاعنا.
رغم اختلاف الموضوع والتقنية أحياناً التي تراعي شروط العمل ومنظومة الألوان التي يقرّر التشكيلي العمل بها وهي غالباً الزيتية الممددة لرغبته ربما بإطالة الزمن في الصياغة على قماش اللوحة مباشرة لكثير من احتمالات المفاجأة والصدفة التي يُحتفظ بالناضج منها وإهمال معظمها من خلال عملية المزج والدّعك يلغي بعضها بإضافة أخرى وهكذا ليستقرعلى الدرجة اللونية التي يراها مناسبة لإظهار أو تحديد بعض الشكل الذي نبدأ بالتعرف عليه تدريجياً نحن والتشكيلي على السطح المرن الذي يُرجع تددات ضربات الفرشاة على القماش المشدود من أربع جهاته، وهذه مرحلة اولى لا بدّ أن تجفّ، حتى يعود التشكيلي من جديد وبما يحمل من مشاعر وأحاسيس مختلفة وما استجدّ عليه خلال هذه الفترة فيسكبه على السطح مباشرة، مضيفاً على ما استقر في اللوحة من تلك المرحلة كلّ ما تحمل تلك اللحظات الجديدة من مقومات وإشارات ومعاني يمكن من خلالها أن توثّق لحالة معينة بذاتها بما تحمل من واقعية أو ما تعكس من حلم.
إن أهمية لوحة غسان النعنع تكمن في إيهام المشاهد بسرّية إيحاها، ومن الغموض الذي يغلّف عناصر قوتها، فلا يعلن التشكيلي عن دهشته مباشرة إلاّ من خلال اللون وخصوصية الصياغة التي لا تُظهر اهتماماً بالأشخاص وما يدور في فلك جلساتهم من مواضيع قد تشغل المتلقي أحياناً، لا تلبث تلك الانشغلات أن تزول بمجرّد التمعّن بفضاءات المشهد، ما تركته تلك الأدوات الماهرة على السطح من أثر وتأثير بصري وجمالي غني بتناغماته اللونية، التي نشعر أحياناً بتصادم بعضها أو بتفاهم مجموعة تالية لتلك، تخفّف من وطئة ذلك الاختلاف من برودتها ربما في معظم الأحيان، رغم تجاورها لمنظومة حارة مسيطرة وقريبة، تُظهر من غير عناء ذلك التباين وحدة الاختلاف على حضورها الأميز في مقدمة المشهد، وهذا ما يؤكد انشغال التشكيلي أو إشغال المتلقي بتلك التنغيمات أو الغناء الذي تؤديه الألوان في مختلف مناطق اللوحة المحتفية بالنهاية باللون أولاً، أي بروحانية الأشياء، والغاية هنا الإنسان كقيمة عليا فوق كل قيمة في الحياة.
بالأسود والأبيض يكثّف غسان النعنع كل معرفته باللون واجتهاده على استحضار الضوء في الزمان والمكان المناسبين في اللوحة ليمنح عناصره نفس الميزات من الحضور في المشاهد الملونة، وهذا ما يكلّف التشكيلي عملاً مضاعفاً من الاشتغال على حساسية كل من هذين النقيضين الذين يُظهران في تلك المشاهد أقصى حالات التفاهم الممكنة على الاحتفاء بنفس الأشخاص المجتمعين في تلك الجلسات التي تبدو هانئة ورومانسية من أجوائها المفعمة بالحركة والانفعال والحب والموسيقى التي غالباً ما تضفي على تلك المشاهد معظم إيحاءاتها بالزمن الجميل والمكان الذي يهيئه التشكيلي بكثير من العناية حتى يتناغم مع مجمل ما يمكن أن ينهض باللوحة إلى مستوى من القيمة الفنية توازي تلك القيم الجمالية والروحية التي تعكسها تلك الفضاءات من غير ألوان وبعض الشكل وكثير من الحلم .
وفي النهاية لا بدّ حتى نكون منصفين أن نعترف لهذا الفنان بجدية وقيمة ما قدّمه من لوحات على اختلاف صياغاتها في هذا المعرض تجليات – 2011، وما أضاف من حيوية وأهمية للمعارض في صالات العاصمة دمشق لهذه الفترة من العام، وهذا برأيي دليل عافية يؤكد مع غيره من التشكيليين الجادين أن الحركة التشكيلي السورية ما زالت بخير ..
غسان النعنع .. تشكيلي لم تأخذ تجربته حقـّها بالاهتمام، ليبقى اسمه ما زال ضبابياً في لائحة الشهرة من التشكيليين، وهذا المعرض - لمن لم يعرفه جيداً، أو تناساه في زحمة المعارض العقود – كان بمثابة الإضاءة أو إعادة الاعتبار لفنان من الجيل الثالث ومن الصفّ الأول، وأول ما تعرّف عليه الجمهور من خلال مجموعة فناني حمص المجتهدة، وهو المتخرّج من فترة السبعينات الأكثر تالّقاً، التي انتعشت وما زالت تحفظ الجميل لفناني العقد الذي سبقها لذلك استحقت أن تكون امتداداً لها، الستينات العقد الذهبي للحركة التشكيلية السورية...