فنان فلسطيني يعيد بناء وطنه الرمزي على أنغام فيروز
إبراهيم أبوالرب يغازل الجحيم الكثيف في واقع الملاحم.
الأحد 2024/06/30
الإنجاز الفني حالة تجل صعبة
ماذا عسى الفنان الفلسطيني أن يقدمه في مواجهة حالة الإبادة التي تسلط على شعبه المهجّر من أرضه؟ سؤال طرحه الكثير من الفنانين الفلسطينيين ليقود بعضهم إلى عوالم فنية مختلفة تماما وخارجة عن المألوف، ممثلين بذلك مساحات لأصوات شعبهم ولسرديتهم التي أخذت تتوسع رغم الحصار. ومن هؤلاء الفنان إبراهيم أبوالرب الذي بدأ رسالته الفنية من فيروز.
“أنا لا أنقل الموضوع في المنجز الفني للمتلقي، بل أنقل له إحساسا يحوّله بدوره إلى جزء من عملي الفني، كما هي فيروز، تغمر الوجدان بتصعيد التوتر وتحرك الذاكرة في تمجيد اللحن على إيقاع اللون وهذا ليس بالأمر السهل، لأنه يتطلب السيطرة بقوة متكاملة والتفاعل أثناء الإنجاز دون المزج بين الأيقونة والفن ودون أن يؤثر أحدهما على الآخر”.
هكذا يقول إبراهيم أبوالرب، وهو فنان تشكيلي فلسطيني ولد بمدينة القدس سنة 1949، خرج منها إثر نكسة 1967 متوجها إلى الأردن ثم إلى مصر، وفيها تحصل من جامعة حلوان بالقاهرة على بكالوريوس الفنون الجميلة و ديبلوم الدراسات التربوية سنة 1976، والماجيستير في الفنون الجميلة سنة 1982 عن دراسة “فن التصوير المعاصر في الأردن”، و الدكتوراه سنة 1987 عن “الفن الإسلامي وأثره على التجريد العربي المعاصر”.
أقام الفنان عدة معارض فنية منفردة ومشتركة وجماعية وعامة، وتحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من الأردن سنة 1995، قام بالعديد من البحوث في مجال الفنون الجميلة والتربية الفنية والمحاضرات والندوات، وله بحث عن الفن الأردني المعاصر – أليكسو – تونس سنة 1998 وقد اقتنى منه متحف فرحات للأعمال الإنسانية 13 جدارية.
الحركة والرمزية
الفنان ينجذب إلى المساحات الممتدة ليمارس داخلها طقوسا فنية ينفعل من خلالها بمراقصات روحانية وأفكار متناغمة
تدفع أعمال إبراهيم أبوالرب من يشاهدها للمرة الأولى للغوص داخلها وعدم الاكتفاء بمجرد المشاهدة، بل التمعن والاندماج مع تلك الملحمة الفنية والفكرية والحسية وذلك الزخم الهائل من التراكم العاطفي والانفعالي مع الفكرة، تشعرك وكأنك في مهب عاصفة تنطلق من حدث أو واقع أو ذكرى، فالتساؤلات التي تنتاب المتلقي مجازا في اللون والحركة السريعة تعيد البحث بين الثنايا عن التفاصيل الانفعالية بين الفن واللغة حيث تلتقي لترمم الأجساد الصاعدة بين الضوء والظل، وكأنه يضمد جراح العقل في التماهي مع نقطة الصمت الأولى، فيتحسس تلك الإرادة المتحدية وذلك الإصرار القوي والتعبير الذي يتملّك مشاعره وذهنه منذ الألم الأول، الرحيل عن الوطن، الذي خلق تلك البحثية الوجدانية التي حوّلت لديه اللوحة الجدارية إلى أغنية يتزاوج فيها الوجع بالعناد حتى يصبح فكرة محلقة بسرعة.
تجربة الألم تلك جعلت من أبوالرب فنانا مميزا عالميا بتلك الحركة في تكوين لوحاته، وهو هاجس الدوران والتدوير بين الكل والبين وبين والهناك في تجليات حسية ذهنية وتعبيرية رمزية لها مقاماتها الصوفية وموازينها التكوينية الثقيلة والخفيفة تطوع الخطوط لتقول شكلني بعقلك اللاعاقل، أو هب لي جنون مراحل الصمت الصاخب، فكأنه يغازل الجحيم الكثيف في واقع الملاحم بأشواق الوطن التي تتجلى في تلك الموسيقى التي يعزفها في أوتار مشاعره وحنينه وتفاصيله صوت فيروز.
“علمتني قضية شعبي معنى الصبر والتضحية وحتمية الوصول، علمتني مآسي الخروج من الوطن كيف أتشبث به رغما عن الواقع والأحداث”، هكذا يقول الفنان، فقد تمكن من اختراق الفضاءات الواسعة للوحة بتفجير أفكاره داخلها بشكل دقيق حسي خارق الانفعالات بين صخب وضجة وبين هدوء سابق لتلك الانفعالية، وهذا الأسلوب منحه ميزة وتفردا، خاصة وأنه ينجذب إلى المساحات الممتدة ليمارس داخلها طقوسا فنية ينفعل من خلالها بمراقصات روحانية الإيقاع وأفكار متناغمة في صخبها وهدوئها المنسجم مع أحاسيسه التي يبعثها ألوانا تتجادل مع الخطوط والشخوص والرموز.
يعيش أبوالرب فنه باعتباره قضية وطن وشعب وإنسان، فيستلهم من وحي كل هذا جرأته الفنية، ويبني ملاحم تستهويه ليغامر داخل المساحات ويبني رؤاه ويتوغل في فضاءاتها الشاسعة، يقتحمه التشكيل جداريات ملحمية سريالية التعبير رمزية المعاني الإنسانية، وهي حالة لا تكتمل إلا بفيروزه كما يراها بأحاسيسه الذهنية، تواقيع ملونة وميلوديا خطوط وأشكال تنبعث من الصوت واللحن في التصعيد الحسي لها، فهو يتجلى معها ويتماهى في درجاتها مع الإيقاع ويسافر داخلها أعمق، حتى أنه يجرّدها من حضورها ويخلق لها وجودا آخر وتلك هي الميزة التي تفرّد بها، فكلما تصاعدت حالاته الفنية اشتعلت تفاصيلها بصوت فيروز وهي تردد انبعاثها من تلك المنطقة بكل تفاصيلها.
لكل منا فيروزه
ملحمة فنية وفكرية وحسية
“‘ع خيوط الشتي وفي أيام تشرين وزهر نيسان وشجن أيلول‘، مواسم الرحلة من قسوتها وتشريدها وفقدانها والقبض عليها رمزا وحسا هي الرحلة التي أسكنت فيروز القلب والوجدان، سكنت بيوتنا وأوطاننا لنضحك ونبكي لا حزنا ولا فرحا.. عاشقون ملأى بكل ما نحمل ونحلم عبر رحلة عمر جمالية الحضور فيها وفينا منذ جيلنا إلى أجيال قادمة وليس عبثا أن أسمي ابنتي فيروز”.
لم تكن المحبة صدفة بل نورا انتشر مع اللوحة في معنى صادق حتى آخر الغفوات، فلو سألت أبوالرب عن أي الأغاني التي صنعت فيها اللوحة الجدارية أو كيف تجلت فيها العناصر؟ سيجيبك إنها فيروز تملأ المكان والذاكرة والصمت والصخب لأن لكل منا فيروزه فلا أغنية تحدد تفصي البدء ولكنها الحالة الوجدانية والاحتراق بالحنين.
إدمان صارخ يسكن اللون يراها في تجليات التراكيب الحسية للمفهوم التشكيلي، حالة توتر وحنين يحتل المحتوى والوقع والموازين فكل موسيقى تصاحبه وكل فيروز تدفعه حسب فترات التوقيع اللوني والخطي والانكسار والانحناء وقطع ثنايا الذاكرة التي تعتق حضورها “سنة عن سني” بل لحظة بلحظة ولونا بلون، اندماج متنافر ومتجانس ومتباعد ومتقارب، حتى تبقى كل القصص الساذجة والبسيطة حكايات وطن، فلا فرق بين لبنان أو الأردن وسوريا أو فلسطين ففيروز جعلت الوطن كله الذي يشبه كل الأرض و”الأرض لنا” في اللون والعشق في الذاكرة والحنين في الفراق والانتظار.
يقول الفنان “ما كنا في أوطاننا جبل وغيم أزرق برد ودفا وسيارة تحاول السير حتى ‘آخر أيام الصيفية‘، شمسية وأبواب، زعل وعتب، وضحكات ولدنة وخوف وبكاء، شجار وأطيار، ورد وطرقات ومدى واسع وأفق وأحلام أوطان يعتم ليلها أكثر ليجعل قناديلنا الصغيرة تضيء، صوتها الضاحك في جديته وابتسامتها الحزينة في وقارها تسكن هلوساتنا بوشوشات الحنين في ما يطالعنا من بكاء في الثقوب عن رحيل شادي وعن جدائل يارا وأسفار القمر التي تملأ الذاكرة في الأحداث التي تحتل مراتب الوجع في ما يجادل نكهة القهوة حتى لو لم نشربها أولم نحب يوما إدمان شربها لكننا نتذوق مزاجها”.
لدى تجريب أبوالرب التشكيلي استقلالية في توجيه اللوحة لأن فيروز الحالة لا تغير مساراتها الانبعاثية ولا تكونها بل تتماهى وتتشابه بعيدا عن كل شيء عاطفي اللوحة هي التي توجه فيروز عنده وهي التي تحدد عمرها في الصمت فكل صمت الجداريات واللوحات أغنيات تطرب حالات التذكر والمواقف البصرية والإنسانية.
لكل منا فيروزه يحبها على طريقة تعامله مع حواسه ومحبته لوطنه وبكائه على حالاته وحرائقه ومذابح الوحدة وفراغ المجازر ووحدة السؤال، وتلك القوة التي حققتها فيروز في أعمال أبوالرب لا كفنانة ولا كمغنية ولا كعنصر فاعل في حياة عائلة فنية بصدى المجد الذي نصّبها سفيرة النجوم، بل كإنسانة بسيطة تشبه حياة البسطاء حتى في أخيلتهم تغيب كثيرا وتحضر كثيرا بكثافة تحتل المسام التي تعيدنا إلى أولنا وتهرب بنا أبعد مما نتخيل.
فكرة الانتماء تتواتر بتعبيرات متنوعة عند أبوالرب فلا تنفصل عن فكرة الفن لأنها صقلت مسيرته وشكلت لديه هاجسا في فنه ليعبّر عن العودة واللجوء والحرية والاستشهاد، فهي تتجاوزه كفرد لتعبر عن الإنسانية، لأن تفريغ شعب من أرضه وإحلال شعب آخر مكانه يعتبره أبوالرب أوجع وأهم حدث عرفه تاريخ البشرية، وأبشع إبادة حضارية وصراع إنساني لا ينتهي، وهذا إحساس يتجاوز عنده الجغرافيا والتاريخ لذلك عبّر عنه بسريالية اعتمدت مرجعيات تاريخية ويومية وفنية تجاوزت الحصار والتعتيم والطمس.
أما الرموز فهي جوانب مرئية وحسية في المنجز تتشكل تصاعديا زاحفة نحو النور والحرية والأمل فالشهيد خالد عنده وظل ثورته محفور على جدران الإنسانية وقضيته التي كان لها شاهدا وشهيدا تبقى فكرتها قائمة لا تزول.
ثلاث مراحل
يعتمد أبوالرب على عدة تقنيات لتشكيل الرمز والفكرة التي يبثها، منها حجم الفرشاة المستخدمة وحركاته السريعة اللاإرادية مع انفعالاته المتداخلة في صخب الألوان المتنافرة، التي تتناقض بدورها بين الأحمر والأزرق والأبيض والأسود، فيعتمد على الألوان الزيتية والأكريليك والفحم كخامة تتجاوز السوداوية في التعبير لتخترق بمرونة الفكرة المقصودة.
يستحضر الفنان الفلسطيني كل شيء يعنيه كإنسان وذات بالرمز والحرف العربي في الكلمات، كما الخطوط والأشكال التي تعمّق فكرته في توترها وهدوئها وفي دورها داخل ذلك الصراع الملحمي، لتعبر عن اندماجه داخل الجدارية، وهو ما ساعده على تخليد فكرة الشهيد ليجسد انتصار الشرفاء في معارك الظلم من خلال رمزية المومياء، وبتحديه الظاهر للمساحة الشاسعة التي تقود المشاهد إلى السفر داخل تضاريسها التي تثبت حالة اللاشعور، والتي تدفع الحدث والإحساس للالتقاء في صراع فني تتشابك فيه الذات والحدث والفن.
ينفجر الفن ثورة داخل الجدارية عن طريق اللون والحركة والرؤية، ليتحول الإنجاز الفني عنده إلى حالة تجلّ صعبة يتصارع فيها الحضور الذهني والفني وترفرف فيها أغاني فيروز التي تزيد من التصعيد ومن حالة الهيجان الفني والعنف التعبيري، ويقول أبوالرب واصفا هذا التجلي “التدفق الهائل.. ناتج عن وتيرة معينة هي امتزاج الحالة والحدث وصوت فيروز. فكلما كانت مساحة اللوحة أكبر كلما ازددت توترا وتحديا، وفيروز مرتبطة بحالة التجلي والاندماج.. عندي نوع من الترابط بين الرسم وفيروز، إذا استمعت لفيروز فهذا يعني أنني سأرسم…”.
القوة التي تحققها فيروز في أعمال أبوالرب لا كفنانة وعنصر فاعل في حياة عائلة فنية بل كإنسانة بسيطة
هي الأغاني التي كلما بدأناها لا تنتهي وكلما انتقلنا عبرها قلبت صفحات السنين بشجن لا يعتقه بل ينضجه ويضاعف الطفولة في ثناياه التي نحاول إخفاءها فنبتسم مرغمين على الفرح على الذوق الذي التقط الجمال فينا.
فيروز ليست ظرفا صباحيا باكر الصحو ولا حالة عابرة في العاطفة ولا انكسارات متقلبة في التلقي، فيروز عبورنا نحو عوالمنا السرية تلك التي نحتفظ بتفاصيلها خوفا عليها من التشوه، تفاصيل مكثفة اللون تندمج مع مراحل عمرنا.
تجسد الجداريات التي ينفذها أبوالرب تاريخا إنسانيا يتجاوز الصراع بل يتمرد بكل عنف على أشكال الإبادة الحضارية، تجربته تسرد على ثلاث مراحل كبرى شكلت عنده صراعا بين الذات في الوطن، والوطن في الذات، المرحلة الأولى من سنة 1970 إلى سنة 1980 كانت مرحلة الظهور وبداية بلورة الفكرة والتمرد على الكلاسيكي فهي مرحلة التحدي الأولى التي انفصل فيها عن قاعدة التقليد للمدارس الغربية، وهو ما كان يحاول تجاوزه راسما لذاته أسلوبا يعكس انتماءه وهويته التي ساعدته على البروز في محيطه الأكاديمي بشكل مدهش واكتساب الحرفية و الميزة الفنية.
المرحلة الثانية من 1980 إلى 1990 هي مرحلة الثورة والنضج والموهبة الفنية العميقة في الألوان والمساحات والتداخل التشكيلي والرمزي لتتحول مساحات الجداريات المنجزة إلى مشهد ملحمي ثوري تميزه الكتل البيضاء ورمزية الشهيد والكفن والموت الخالد دون أن ينعكس فيها ببكائية أو سوداوية بل بحسية ذهنية عاقلة البقاء والخلود، فمن خلال رمز المومياء بسيقانها الطويلة وخطوطها المتداخلة في شكل لولبي أراد أن يثير حيرة تتشابك في رؤية بصرية داخل مسطح واحد وتدوير متشابك، فرغم التشابه البادي بين الجداريات المميزة لتلك المرحلة إلا أن المتعمق فيها يتمكن من فهم الفرق الجلي والواضح داخل كل مساحة، فالأفكار ناضجة ومصقولة بجماليات بصرية صامدة في وجه الصراعات، التزمت بها جميع الفنون التشكيلية وخاصة الفن التشكيلي الفلسطيني الذي برز عالميا من خلال تلك البصمة.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة ما بعد سنة 1990، مرحلة التحدي الذاتي ومنهجية الاستمرار في ظل الخيبات والتغيرات والتحدي حتى يزداد اندماجا مع ألوانه وتوترا جماليا، كما وصفه الكاتب والشاعر إبراهيم نصرالله “لا يملك إلا أن يجد نفسه داخل هذه الأعمال لأنها وجهه الآخر ولون دمه وخطوط حياته”.
بشرى بن فاطمة
كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
إبراهيم أبوالرب يغازل الجحيم الكثيف في واقع الملاحم.
الأحد 2024/06/30
الإنجاز الفني حالة تجل صعبة
ماذا عسى الفنان الفلسطيني أن يقدمه في مواجهة حالة الإبادة التي تسلط على شعبه المهجّر من أرضه؟ سؤال طرحه الكثير من الفنانين الفلسطينيين ليقود بعضهم إلى عوالم فنية مختلفة تماما وخارجة عن المألوف، ممثلين بذلك مساحات لأصوات شعبهم ولسرديتهم التي أخذت تتوسع رغم الحصار. ومن هؤلاء الفنان إبراهيم أبوالرب الذي بدأ رسالته الفنية من فيروز.
“أنا لا أنقل الموضوع في المنجز الفني للمتلقي، بل أنقل له إحساسا يحوّله بدوره إلى جزء من عملي الفني، كما هي فيروز، تغمر الوجدان بتصعيد التوتر وتحرك الذاكرة في تمجيد اللحن على إيقاع اللون وهذا ليس بالأمر السهل، لأنه يتطلب السيطرة بقوة متكاملة والتفاعل أثناء الإنجاز دون المزج بين الأيقونة والفن ودون أن يؤثر أحدهما على الآخر”.
هكذا يقول إبراهيم أبوالرب، وهو فنان تشكيلي فلسطيني ولد بمدينة القدس سنة 1949، خرج منها إثر نكسة 1967 متوجها إلى الأردن ثم إلى مصر، وفيها تحصل من جامعة حلوان بالقاهرة على بكالوريوس الفنون الجميلة و ديبلوم الدراسات التربوية سنة 1976، والماجيستير في الفنون الجميلة سنة 1982 عن دراسة “فن التصوير المعاصر في الأردن”، و الدكتوراه سنة 1987 عن “الفن الإسلامي وأثره على التجريد العربي المعاصر”.
أقام الفنان عدة معارض فنية منفردة ومشتركة وجماعية وعامة، وتحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من الأردن سنة 1995، قام بالعديد من البحوث في مجال الفنون الجميلة والتربية الفنية والمحاضرات والندوات، وله بحث عن الفن الأردني المعاصر – أليكسو – تونس سنة 1998 وقد اقتنى منه متحف فرحات للأعمال الإنسانية 13 جدارية.
الحركة والرمزية
الفنان ينجذب إلى المساحات الممتدة ليمارس داخلها طقوسا فنية ينفعل من خلالها بمراقصات روحانية وأفكار متناغمة
تدفع أعمال إبراهيم أبوالرب من يشاهدها للمرة الأولى للغوص داخلها وعدم الاكتفاء بمجرد المشاهدة، بل التمعن والاندماج مع تلك الملحمة الفنية والفكرية والحسية وذلك الزخم الهائل من التراكم العاطفي والانفعالي مع الفكرة، تشعرك وكأنك في مهب عاصفة تنطلق من حدث أو واقع أو ذكرى، فالتساؤلات التي تنتاب المتلقي مجازا في اللون والحركة السريعة تعيد البحث بين الثنايا عن التفاصيل الانفعالية بين الفن واللغة حيث تلتقي لترمم الأجساد الصاعدة بين الضوء والظل، وكأنه يضمد جراح العقل في التماهي مع نقطة الصمت الأولى، فيتحسس تلك الإرادة المتحدية وذلك الإصرار القوي والتعبير الذي يتملّك مشاعره وذهنه منذ الألم الأول، الرحيل عن الوطن، الذي خلق تلك البحثية الوجدانية التي حوّلت لديه اللوحة الجدارية إلى أغنية يتزاوج فيها الوجع بالعناد حتى يصبح فكرة محلقة بسرعة.
تجربة الألم تلك جعلت من أبوالرب فنانا مميزا عالميا بتلك الحركة في تكوين لوحاته، وهو هاجس الدوران والتدوير بين الكل والبين وبين والهناك في تجليات حسية ذهنية وتعبيرية رمزية لها مقاماتها الصوفية وموازينها التكوينية الثقيلة والخفيفة تطوع الخطوط لتقول شكلني بعقلك اللاعاقل، أو هب لي جنون مراحل الصمت الصاخب، فكأنه يغازل الجحيم الكثيف في واقع الملاحم بأشواق الوطن التي تتجلى في تلك الموسيقى التي يعزفها في أوتار مشاعره وحنينه وتفاصيله صوت فيروز.
“علمتني قضية شعبي معنى الصبر والتضحية وحتمية الوصول، علمتني مآسي الخروج من الوطن كيف أتشبث به رغما عن الواقع والأحداث”، هكذا يقول الفنان، فقد تمكن من اختراق الفضاءات الواسعة للوحة بتفجير أفكاره داخلها بشكل دقيق حسي خارق الانفعالات بين صخب وضجة وبين هدوء سابق لتلك الانفعالية، وهذا الأسلوب منحه ميزة وتفردا، خاصة وأنه ينجذب إلى المساحات الممتدة ليمارس داخلها طقوسا فنية ينفعل من خلالها بمراقصات روحانية الإيقاع وأفكار متناغمة في صخبها وهدوئها المنسجم مع أحاسيسه التي يبعثها ألوانا تتجادل مع الخطوط والشخوص والرموز.
يعيش أبوالرب فنه باعتباره قضية وطن وشعب وإنسان، فيستلهم من وحي كل هذا جرأته الفنية، ويبني ملاحم تستهويه ليغامر داخل المساحات ويبني رؤاه ويتوغل في فضاءاتها الشاسعة، يقتحمه التشكيل جداريات ملحمية سريالية التعبير رمزية المعاني الإنسانية، وهي حالة لا تكتمل إلا بفيروزه كما يراها بأحاسيسه الذهنية، تواقيع ملونة وميلوديا خطوط وأشكال تنبعث من الصوت واللحن في التصعيد الحسي لها، فهو يتجلى معها ويتماهى في درجاتها مع الإيقاع ويسافر داخلها أعمق، حتى أنه يجرّدها من حضورها ويخلق لها وجودا آخر وتلك هي الميزة التي تفرّد بها، فكلما تصاعدت حالاته الفنية اشتعلت تفاصيلها بصوت فيروز وهي تردد انبعاثها من تلك المنطقة بكل تفاصيلها.
لكل منا فيروزه
ملحمة فنية وفكرية وحسية
“‘ع خيوط الشتي وفي أيام تشرين وزهر نيسان وشجن أيلول‘، مواسم الرحلة من قسوتها وتشريدها وفقدانها والقبض عليها رمزا وحسا هي الرحلة التي أسكنت فيروز القلب والوجدان، سكنت بيوتنا وأوطاننا لنضحك ونبكي لا حزنا ولا فرحا.. عاشقون ملأى بكل ما نحمل ونحلم عبر رحلة عمر جمالية الحضور فيها وفينا منذ جيلنا إلى أجيال قادمة وليس عبثا أن أسمي ابنتي فيروز”.
لم تكن المحبة صدفة بل نورا انتشر مع اللوحة في معنى صادق حتى آخر الغفوات، فلو سألت أبوالرب عن أي الأغاني التي صنعت فيها اللوحة الجدارية أو كيف تجلت فيها العناصر؟ سيجيبك إنها فيروز تملأ المكان والذاكرة والصمت والصخب لأن لكل منا فيروزه فلا أغنية تحدد تفصي البدء ولكنها الحالة الوجدانية والاحتراق بالحنين.
إدمان صارخ يسكن اللون يراها في تجليات التراكيب الحسية للمفهوم التشكيلي، حالة توتر وحنين يحتل المحتوى والوقع والموازين فكل موسيقى تصاحبه وكل فيروز تدفعه حسب فترات التوقيع اللوني والخطي والانكسار والانحناء وقطع ثنايا الذاكرة التي تعتق حضورها “سنة عن سني” بل لحظة بلحظة ولونا بلون، اندماج متنافر ومتجانس ومتباعد ومتقارب، حتى تبقى كل القصص الساذجة والبسيطة حكايات وطن، فلا فرق بين لبنان أو الأردن وسوريا أو فلسطين ففيروز جعلت الوطن كله الذي يشبه كل الأرض و”الأرض لنا” في اللون والعشق في الذاكرة والحنين في الفراق والانتظار.
يقول الفنان “ما كنا في أوطاننا جبل وغيم أزرق برد ودفا وسيارة تحاول السير حتى ‘آخر أيام الصيفية‘، شمسية وأبواب، زعل وعتب، وضحكات ولدنة وخوف وبكاء، شجار وأطيار، ورد وطرقات ومدى واسع وأفق وأحلام أوطان يعتم ليلها أكثر ليجعل قناديلنا الصغيرة تضيء، صوتها الضاحك في جديته وابتسامتها الحزينة في وقارها تسكن هلوساتنا بوشوشات الحنين في ما يطالعنا من بكاء في الثقوب عن رحيل شادي وعن جدائل يارا وأسفار القمر التي تملأ الذاكرة في الأحداث التي تحتل مراتب الوجع في ما يجادل نكهة القهوة حتى لو لم نشربها أولم نحب يوما إدمان شربها لكننا نتذوق مزاجها”.
لدى تجريب أبوالرب التشكيلي استقلالية في توجيه اللوحة لأن فيروز الحالة لا تغير مساراتها الانبعاثية ولا تكونها بل تتماهى وتتشابه بعيدا عن كل شيء عاطفي اللوحة هي التي توجه فيروز عنده وهي التي تحدد عمرها في الصمت فكل صمت الجداريات واللوحات أغنيات تطرب حالات التذكر والمواقف البصرية والإنسانية.
أعمال إبراهيم أبوالرب تدفع من يشاهدها للمرة الأولى للغوص داخلها وعدم الاكتفاء بالمشاهدة بل التمعن والاندماج
لكل منا فيروزه يحبها على طريقة تعامله مع حواسه ومحبته لوطنه وبكائه على حالاته وحرائقه ومذابح الوحدة وفراغ المجازر ووحدة السؤال، وتلك القوة التي حققتها فيروز في أعمال أبوالرب لا كفنانة ولا كمغنية ولا كعنصر فاعل في حياة عائلة فنية بصدى المجد الذي نصّبها سفيرة النجوم، بل كإنسانة بسيطة تشبه حياة البسطاء حتى في أخيلتهم تغيب كثيرا وتحضر كثيرا بكثافة تحتل المسام التي تعيدنا إلى أولنا وتهرب بنا أبعد مما نتخيل.
فكرة الانتماء تتواتر بتعبيرات متنوعة عند أبوالرب فلا تنفصل عن فكرة الفن لأنها صقلت مسيرته وشكلت لديه هاجسا في فنه ليعبّر عن العودة واللجوء والحرية والاستشهاد، فهي تتجاوزه كفرد لتعبر عن الإنسانية، لأن تفريغ شعب من أرضه وإحلال شعب آخر مكانه يعتبره أبوالرب أوجع وأهم حدث عرفه تاريخ البشرية، وأبشع إبادة حضارية وصراع إنساني لا ينتهي، وهذا إحساس يتجاوز عنده الجغرافيا والتاريخ لذلك عبّر عنه بسريالية اعتمدت مرجعيات تاريخية ويومية وفنية تجاوزت الحصار والتعتيم والطمس.
أما الرموز فهي جوانب مرئية وحسية في المنجز تتشكل تصاعديا زاحفة نحو النور والحرية والأمل فالشهيد خالد عنده وظل ثورته محفور على جدران الإنسانية وقضيته التي كان لها شاهدا وشهيدا تبقى فكرتها قائمة لا تزول.
ثلاث مراحل
يعتمد أبوالرب على عدة تقنيات لتشكيل الرمز والفكرة التي يبثها، منها حجم الفرشاة المستخدمة وحركاته السريعة اللاإرادية مع انفعالاته المتداخلة في صخب الألوان المتنافرة، التي تتناقض بدورها بين الأحمر والأزرق والأبيض والأسود، فيعتمد على الألوان الزيتية والأكريليك والفحم كخامة تتجاوز السوداوية في التعبير لتخترق بمرونة الفكرة المقصودة.
يستحضر الفنان الفلسطيني كل شيء يعنيه كإنسان وذات بالرمز والحرف العربي في الكلمات، كما الخطوط والأشكال التي تعمّق فكرته في توترها وهدوئها وفي دورها داخل ذلك الصراع الملحمي، لتعبر عن اندماجه داخل الجدارية، وهو ما ساعده على تخليد فكرة الشهيد ليجسد انتصار الشرفاء في معارك الظلم من خلال رمزية المومياء، وبتحديه الظاهر للمساحة الشاسعة التي تقود المشاهد إلى السفر داخل تضاريسها التي تثبت حالة اللاشعور، والتي تدفع الحدث والإحساس للالتقاء في صراع فني تتشابك فيه الذات والحدث والفن.
ينفجر الفن ثورة داخل الجدارية عن طريق اللون والحركة والرؤية، ليتحول الإنجاز الفني عنده إلى حالة تجلّ صعبة يتصارع فيها الحضور الذهني والفني وترفرف فيها أغاني فيروز التي تزيد من التصعيد ومن حالة الهيجان الفني والعنف التعبيري، ويقول أبوالرب واصفا هذا التجلي “التدفق الهائل.. ناتج عن وتيرة معينة هي امتزاج الحالة والحدث وصوت فيروز. فكلما كانت مساحة اللوحة أكبر كلما ازددت توترا وتحديا، وفيروز مرتبطة بحالة التجلي والاندماج.. عندي نوع من الترابط بين الرسم وفيروز، إذا استمعت لفيروز فهذا يعني أنني سأرسم…”.
القوة التي تحققها فيروز في أعمال أبوالرب لا كفنانة وعنصر فاعل في حياة عائلة فنية بل كإنسانة بسيطة
هي الأغاني التي كلما بدأناها لا تنتهي وكلما انتقلنا عبرها قلبت صفحات السنين بشجن لا يعتقه بل ينضجه ويضاعف الطفولة في ثناياه التي نحاول إخفاءها فنبتسم مرغمين على الفرح على الذوق الذي التقط الجمال فينا.
فيروز ليست ظرفا صباحيا باكر الصحو ولا حالة عابرة في العاطفة ولا انكسارات متقلبة في التلقي، فيروز عبورنا نحو عوالمنا السرية تلك التي نحتفظ بتفاصيلها خوفا عليها من التشوه، تفاصيل مكثفة اللون تندمج مع مراحل عمرنا.
تجسد الجداريات التي ينفذها أبوالرب تاريخا إنسانيا يتجاوز الصراع بل يتمرد بكل عنف على أشكال الإبادة الحضارية، تجربته تسرد على ثلاث مراحل كبرى شكلت عنده صراعا بين الذات في الوطن، والوطن في الذات، المرحلة الأولى من سنة 1970 إلى سنة 1980 كانت مرحلة الظهور وبداية بلورة الفكرة والتمرد على الكلاسيكي فهي مرحلة التحدي الأولى التي انفصل فيها عن قاعدة التقليد للمدارس الغربية، وهو ما كان يحاول تجاوزه راسما لذاته أسلوبا يعكس انتماءه وهويته التي ساعدته على البروز في محيطه الأكاديمي بشكل مدهش واكتساب الحرفية و الميزة الفنية.
المرحلة الثانية من 1980 إلى 1990 هي مرحلة الثورة والنضج والموهبة الفنية العميقة في الألوان والمساحات والتداخل التشكيلي والرمزي لتتحول مساحات الجداريات المنجزة إلى مشهد ملحمي ثوري تميزه الكتل البيضاء ورمزية الشهيد والكفن والموت الخالد دون أن ينعكس فيها ببكائية أو سوداوية بل بحسية ذهنية عاقلة البقاء والخلود، فمن خلال رمز المومياء بسيقانها الطويلة وخطوطها المتداخلة في شكل لولبي أراد أن يثير حيرة تتشابك في رؤية بصرية داخل مسطح واحد وتدوير متشابك، فرغم التشابه البادي بين الجداريات المميزة لتلك المرحلة إلا أن المتعمق فيها يتمكن من فهم الفرق الجلي والواضح داخل كل مساحة، فالأفكار ناضجة ومصقولة بجماليات بصرية صامدة في وجه الصراعات، التزمت بها جميع الفنون التشكيلية وخاصة الفن التشكيلي الفلسطيني الذي برز عالميا من خلال تلك البصمة.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة ما بعد سنة 1990، مرحلة التحدي الذاتي ومنهجية الاستمرار في ظل الخيبات والتغيرات والتحدي حتى يزداد اندماجا مع ألوانه وتوترا جماليا، كما وصفه الكاتب والشاعر إبراهيم نصرالله “لا يملك إلا أن يجد نفسه داخل هذه الأعمال لأنها وجهه الآخر ولون دمه وخطوط حياته”.
بشرى بن فاطمة
كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية