الكوازيط المغربية هي الصحافة المكتوبة..وبالعصر الرقمي الميديولوجيا.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الكوازيط المغربية هي الصحافة المكتوبة..وبالعصر الرقمي الميديولوجيا.


    فوائد جمة في استعمال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي

    السوق الرقميةأحمد بلخيري
    الأحد 2020/04/05م
    وصف بعض الرحالة المغاربة، الذين سمحت لهم ظروفهم بالسفر، ضمن بعثات دبلوماسية، إلى فرنسا في القرن التاسع عشر ما شاهدوه في هذه البلاد، أسوة بما قام به رفاعة رافع الطهطاوي في كتابة “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. وكان مما شاهدوه حينئذ الصحافةَ المكتوبة التي كانت غير موجودة في ذلك العهد في المغرب. فقد وصف محمد الصفار بعد عودته من فرنسا، على سبيل المثال، بعد رحلة قام بها في ديسمبر سنة 1845 إلى هذه الأخيرة الصحافة. وقد كانت من جملة مشاهداته وموصوفاته في رحلته المطبوعة حيث قال عنها “ولأهل باريز كغيرهم من أهل سائر الفرنسيس بل وسائر الروم، تشوف لما يتجدد من الأخبار ويحدث من الوقائع في سائر الأقطار، فاتخذوا لذلك الكوازيط، وهي ورقات يُكتب فيها كل ما وصل إليهم علمه من الحوادث والوقائع في بلدهم أو غيرها من البلدان النائية أو القريبة".

    الكوازيط هي، عنده، الصحافة المكتوبة، التي تحدث عنها الصفار في فقرات أخرى في رحلته. في هذا الإطار، ذكر طريقة توزيعها، وكيفية اشتغال العاملين فيها. ولم تفته الإشارة إلى أنه “ليس كل ما فيها صحيح، بل ربما كان الكذب فيها أكثر من الصدق”. وقد بين دورها في نقل ما يتمخض عنه نقاش أهل السياسة والتشريع حينما يجتمعون “لتدبير قوانينهم”. وقد حذا حذوه بعده ابن إدريس العمرواي في رحلته الموسومة “تحفة الملك العزيز بمملكة باريز”.

    كانت الصحافة المكتوبة في منتصف القرن التاسع عشر هي الجديد حينئذ. في ذلك التاريخ، لم يكن قد تم اختراع الكهرباء بعد، ولم تكن قد ظهرت الصورة الفوتوغرافية، ولا السينما والصورة المتحركة. كما لم يكن مفهوم العولمة متداولا، ولا ثقافتها منتشرة في الواقع وعلى شكل دراسات ومقالات وأبحاث. ساعتها كان الصحافي هو الشخص الذي يمتهن مهنة الصحافة، العامل في جريدة لها خط تحريري معين. لذا، كان نقل الأخبار والمعلومات في الجريدة الورقية متحكما فيه.

    أما اليوم، ومع اكتساح العولمة لكل دروب الحياة ومناحيها، والانفجار الرقمي، فقد تغيّر الأمر تماما بما في ذلك مفهوم الصحافي ذاته، حيث صار بمقدور كل شخص يتوفر على هاتف محمول، لا أن يعلق على حدث ما فقط، بل وأن يصوره، فتكون الصورة ثابتة أو متحركة وبالألوان. الصورة هنا ليست خرساء، فقد تكون كذلك وقد لا تكون. إنه عصر الصورة بامتياز.

    لهذا العصر الرقمي وضع رجيس دوبريه (Regis Debray) مصطلحا محددا يشخص الوضع الراهن. إنه مصطلح علم الوسائط الميديولوجيا (La médiologie) الذي حدده في كتابه “Cours de médiologie générale”. وقد تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة العربية. والميديولوجيا “ليست بحثا في الصورة ولا في السمعي البصري أو الوسائط الجماهيرية الإعلامية فقط. وإنما هي بحث في الوساطات التي تتكفل بإرسال وتناقل وتواتر المعلومات والكائنات والحالات المادية والذهنية. وبهذا المعنى تصبح منظورا جديدا لمعطيات الحياة والوجود يتخذ من تراكم الاهتمام بالوساطات مركزا منهجيا له”.

    وحسب رجيس دوبريه، فقد مرت البشرية بثلاثة عصور وسائطية هي: عصر اللوغوسفير (Logosphere) عصر الكتابة، ثم عصر الغرافوسفير (Graphosphere) عصر الطباعة، فعصر الفيديوسفير (Videosphere) عصر الشاشة. بناء على هذا التقسيم، فإن الصحافة في القرن التاسع عشر تنتمي إلى عصر الطباعة.

    في هذا العصر الأخير، عصر الشاشة، تعددت الوسائط وشملت كل مناحي الحياة، العامة والخاصة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الجريدة المطبوعة في القرن التاسع عشر تجعل قارئ الجريدة مجرّد مستهلك لمنتوج صحافي، فقد صار بإمكان الإنسان غير الصحافي أن يكون “صحافيا” بالهواية وليس بالاحتراف. إذ بإمكانه أن يحدد الحدث، سواء أكان عاما أم خاصا، ويقوم بتعميمه، بكل سهولة ويسر ، من أجل الاستهلاك بسرعة قصوى، ودون حدود جغرافية، صوتا أو صورة، أو كلاهما معا، أو كتابة. وقد يجتمع الصوت والصورة والكتابة.

    أمام هذا الانفجار الرقمي، في هذا العصر الرقمي، عصر الصورة والشاشة، لم يعد “الحدث” مرتبطا بالأحداث العامة، كتلك التي أشار إليها محمد الصفار في رحلته، والحوادث التي يعج بها المجتمع. إذ صار بمقدور أيّ شخص، بغض النظر عن مستواه التعليمي، أن يعبّر عن رأيه تجاه هذه القضية أو تلك، أو هذا الحدث أو ذاك، عامّا كان أو خاصا. لذا، أضحت الشبكة العنكبوتية فضاء للتعبير عن الرأي السياسي، مثلا، لعدم وجود عدد من الموانع والحواجز التي كانت، ومازالت في البلدان غير الديمقراطية، تحول دون الإفصاح والتعبير عنه. لهذا تعج هذه الشبكة بالتعليقات على هذا الحدث السياسي، أو غيره، أو ذاك، والتعبير عن الآراء السياسية بلغة ورسوم وصور وفيديوهات يمكن اعتبارها موضوعا ومقياسا لتحديد اتجاهات الرأي العام.

    ليس هذا فحسب، بل غدت هذه الشبكة فضاء لاستعراض الذات وتحويلها أحيانا إلى “فرجة” و”عرض”. لكن الذات لم تقتصر على تحويل نفسها أحيانا في الشبكة العنكبوتية إلى “فرجة” و”عرض”، بل أضحت هذه الشبكة تقوم بوظائف، بالنسبة إلى الذات، حلّت محل وظائف أساسها العلاقات الإنسانية المباشرة مثل التعزية.

    وخلف “الفرجة” و”العرض” تقف أهداف متباينة. فقد تعرض الذات نفسها في صور ثابتة أو فيديو، وربما في وضعيات مختلفة، وفي فضاء تختاره هذه الذات، الذي قد يكون فضاء مهنيا، أو فضاء خاصا، أو فضاء طبيعيا.. هذا مع إمكانية تحليل مجموعة من العلامات الخاصة بصورة الذات ومحيط هذه الصورة من أجل تحديد الهدف من النشر أو ما يمكن اعتباره هدفا. وعليه، فحين اتخاذ هذه الصور الثابتة أو الفيديوهات موضوعات للتحليل، يمكن تحديد الغاية من النشر، والتي قد تكون نفسية أو غير نفسية.

    بناء على هذا، يبدو مفيدا أن تُطوّر العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، بعد ما ظهرت وسيلة جديدة للتعبير الاجتماعي والتعبير النفسي؛ لاسيما وأن هذا التعبير قد يكون حتى في الفضاء الحميمي حيث يتم عرض الجسد، برغبة ذاتية ودون إكراه، للفرجة. في هذه الحالة، يتحرر الجسد من قيود وإكراهات المجتمع فيعبر عن نفسه؛ والنتيجة هي الفرجة.


    العولمة اكتسحت كل دروب الحياة ومناحيها


    هكذا صار الفضاء الرقمي يتوفّر على كمّ هائل من المعلومات، سياسية، فكرية، اجتماعية، بما فيها الحميمية أحيانا، عن الأشخاص التي يمكن استغلالها من لدن هذه الجهة أو تلك. هذه المعلومات تم تقديمها عن طواعية ودون إكراه أو إجبار، وقد يكون العكس، لكي تكون متاحة للجميع في هذا العالم المعولم دون قيود جغرافية. لذا، صار من السهل جدّا التعرف على تلك المعلومات سواء بترك الأثر، بواسطة التعليق أو أيّ علامة أخرى تدل على هذا الأثر، أم بغيره. وهذا يفتح المجال واسعا للتلصص وإمكانية الإضرار بالآخرين، لاسيما وأنه بالإمكان فتح حساب مزيّف من خلاله يتجوّل صاحبه دون معرفة هويته الحقيقية. ليس فتحه فقط، بل واختراق المواقع الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي، وسرقة الصور والمعلومات الشخصية جدا.

    ففي المغرب – على سبيل المثال – تفجرت في الآونة الأخيرة قضية جنائية بسبب ما يعرف إعلاميا بـ”حمزة مون بيبي” (Hamza Mon Bébé)، حيث تخصص حساب مزيف، تحت هذا الاسم، بسرقة وتشويه سمعة الفنانين المنافسين والانتقام من الأشخاص. وبسبب ظهور جريمة جديدة هي الجريمة الإلكترونية، وبفضل تطور علم الإجرام مواكبة لمستجدات العصر، تمكن القضاء من وضع اليد على من يقف خلف ذلك الحساب المزيف، الذي كان سببا في أضرار نفسية واجتماعية بالغة الخطورة وصلت إلى حد الطلاق.

    وشخصيا كنت قد عبرت عن رأي في الفيسبوك، يتعلق بمشاركة ناقدين مسرحيين مغربيين في مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي في دورة سابقة. كان موضوع الناقدين اللذين شاركا به في المهرجان المذكور معروفا جدا ومستهلكا في المغرب وخارج المغرب، حيث عُقدت من أجله ندوات، ونُشرت عنه مقالات. يتعلق هذا الموضوع بالتعريف بمشروع باحثة مسرحية ألماني نشرت تدوينة في الفيسبوك تزامنت مع انعقاد المهرجان المذكور، قلت فيها إنه كان من الأفضل المشاركة في هذا المهرجان المهم، دون ذكر اسم أي ناقد مسرحي، بموضوع جديد بعيدا عن التكرار. هذه الكلمة الأخيرة أثارت حفيظة الناقدين المسرحيين. لذا، وفي اليوم الذي رجعا فيه من مصر مباشرة، بدأت تصلني شتائم، وسب، وقذف على حسابي في الفيسبوك. التحليل اللغوي لتلك الشتائم لا يفضي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنها لا تصدر إلا عن المراهقين.

    قضيت زهاء ثماني ساعات، وقد تابع البعض ذلك في الحين، وأنا أحذف تلك الشتائم التي لم تسلم منها حتى أمّي المتوفية وقت ذاك. بعد منتصف الليل، كف المعني بالأمر عن فعله. لم أكن أعرف اسم صاحب الحساب.

    الذي تصلني منه الشتائم، وهو وليس من أصدقائي. في الصباح الموالي، فتحت بريدي الإلكتروني، فإذا بي أفاجأ باسم الشخص الحقيقي وصورته. إنه واحد من الناقدين المسرحيين المغربيين، الذي كنت قد أهديت له كتابي “المصطلح المسرحي عند العرب”. كان يرسل “مقذوفاته” و”بذاءاته” مستعملا اسما مستعارا وحسابا مزيفا. وقد كشفت عن اسمه الحقيقي في الحين. لم أرد أن ألجأ إلى القضاء، تركته وضميره. هذا علما بأنه يستعمل في كتابته النقدية، ويا للمفارقة، مفاهيم مثل “الحداثة”، “الاختلاف”، “المثقف العضوي”، ومفاهيم مأخوذة من كتب إدوارد سعيد.

    ورغم ذلك، أنا مقتنع بأن الوسائط الرقمية مفيدة جدا. فعن طريقها أتمكن من متابعة جديد أصدقائي وصديقاتي في البحث والإبداع المسرحيين، وغير الأصدقاء والصديقات. كما أنني أستطيع أن أتجوّل في مواقع الصحافة الوطنية والعالمية الإلكترونية حسب رغبتي. زد على هذا الاطلاع على أبحاث ودراسات من حقول معرفية شتى، وحتى إمكانية تحميل كتب. وبطبيعة الحال، لا توجد في الإنترنت الثقافة فقط، فهي مثل “سوق” توجد فيها معروضات مختلفة الأنواع والأشكال، وكل واحد يختار جهته المفضلة في هذه “السوق”. وهي تشترك مع الصحافة المكتوبة، كما أشار إلى ذلك، محمد الصفار، في وجود الصدق ووجود الكذب كذلك.

    بناء على ما سبق، يبدو لي أن هناك فوائد جمة في استعمال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الفوائد هي التي يجب تثمينها والإشادة بها. فمن خلالها يكون نشر الثقافة وتعميم الفرجة والتواصل الرقمي السريع. ولها كذلك أضرار لاسيما على نفسية وتنشئة الأطفال إذا لم يتم توجيههم ومصاحبتهم. أما الجرائم الإلكترونية فالقانون الجنائي، وعلم الجريمة، ومنه الجريمة الإلكترونية، والقضاء فكفيلون بها.

    * ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد بلخيري
    باحث مسرحي وكاتب مغربي
يعمل...
X