يوم التروية:
هو يوم الثامن من ذي الحجة، وهو اليوم الذى جلس فيه سيدنا إبراهيم عليه السلام يتروىٰ -يفكر- فى أمر الرؤيا التى سماها الله سبحانه وتعالى بـ -البلاء المبين- لأن فكرة أن يذبح أب ابنه بيديه أمر فوق تصور البشر!
تخيل أن يجلس الأب ليفكر في أمر ذبح ابنه الذي رزقه الله به على كبر وبعد طول صبر وتمنٍ.. تخيل أنه بدلًا من أن يفكر في كيفية تزويج ابنه جلس ليفكر في كيفية ذبحه!
اليوم جاء الأب إلى مكة لم يحمل معه هدية لابنه كالعادة، بل حمل معه سكينًا حادًا ليذبحه بها، تخيل أن الرجل الرحيم الذي طلب من الله عز وجل أن يجعل ابناءه مقيمين للصلاة ولم ينسَ ذريته فقال " ربي اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي.. " بلغت رحمته ذريته التي لم يرها ولم تأتِ هذه الذرية إلى الدنيا أصلًا لكنه كان رحيمًا بها.. فما بالك برحمته بابنه،
كيف يخبر ابنه بهذا الأمر.. وماذا سيكون موقف اسماعيل؟
"إسماعيل" هو الإبن البكر والوحيد -وقتها- لسيدنا إبراهيم.. كان فتى جميلًا صبورًا وحليمًا، وكان أول فارس يستأنس الخيل في تاريخ البشرية.. ويقال أنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة.. كان صادق الوعد، ويأمر أهله بالصلاة والزكاة ولطالما نادى مع أبيه بعبادة الله ووحدانيته.. وهو من قام ببناء الكعبة مع إبراهيم.. تخيل بعد هذه العلاقة القوية والوطيدة التي تربطهما ببعضهما يؤمر الوالد بذبحِ ولده الفارس الصبور أحكم فتيان جيله وأجملهم.
-كانت حياة سيدنا إبراهيم سلسلة من الاختبارات العصيبة، منذ أن ألقاه قومه في النار.. وخذله والده فلم يحميه من قومه بل تآمر مع قومه على ابنه إبراهيم!
-ثم الاختبار الثاني، بأن جاء أمر الله لأبراهيم بأن يترك زوجته وولده في مكان مقفر موحش لا زرع فيه ولا ماء ولا بشر.. وعندما امتثل إبراهيم لأمر لله سألته زوجته في جزع:
آلله أمرك بهذا؟ فقال نعم فسكن خوفها!
لكن هو غَلبَ خوفه صبره فدعا ربه قائلًا " واجعل أفئدةً من الناس تهوى إليهم" فأصابت دعوة إبراهيم قلب كل مسلم على وجه الأرض.
-تخيل أن "هاجر" ظلت تركض بين جبلين سبعة مرات لأن الماء الذي معها قد نَفِذ.. تخيل امرأة وحيدة تركض بلا هدف في صحراء مقفرة تاركة ابنها الرضيع يصرخ خلفها لشدة عطشه لكن رحمة الله قريب من المحسنين. فانفجرت لهما بئر زمزم.
كبر إسماعيل وتعلق به قلب والده، هو بكره وابنه الوحيد والذي شهد معه المواقف كلها.. أيذبحه بيده بعد أن صار شيخًا طاعنًا يتكأ عليه.. أيذبحه بيده وهو أرحم قلب على وجه الأرض حينها..؟!
لم يسأل إبراهيم ربه لمَ يأمره بذبح وليده وما الحكمة من أن يختبره الله هذا الاختبار القاسي الذي سماه الله في كتابه بالبلاء المبين..!
أيخبر ولده بأمر ذبحه.. أم يأخذه قهرًا ويذبحه غدرًا.. لكنه في النهاية ذهب إليه.. تخيل والد يستشير ولده في أمر ذبحه.
ولكن الإبن الذى تربى على يد من قالت لن يضيعنا الله أبدًا!
قال:
ياأبتِ : أنا بارٌ بك
فافعل ماتؤمر : لو كان الأمر أكثر من الذبح افعله ولا تتردد ستجدنى إن شاء الله من الصابرين.. تخيل أن يجلس الأب مهمومًا ومتعبًا ليخبر ولده بأمر ذبحه.. فما كان من الإبن إلا هدأ من رَوعِ أبيه متذرعًا بالصبر في موقف يستحيل الصبر فيه.
يقول أحد السلف أن إبراهيم عندما خرج إلى الصحراء ممسكًا بالسكين في يده.. وولده باليد الأخرى ليذبحه وقفت الطيور والجبال في الأرض والسحاب في السماء والمياه في المحيطات، تتضرع إلى الله ليمنع إبراهيم من ذبح ولده، داعية الله عز وجل ألا تنتهي قصة الإبن وأبيه على هذه النهاية المؤسفة.. تخيل أن الكون كله بجماداته وطيوره رقَ لأمر الذبح فما بالك بالذابح والذبيح!
ياأبتِ :عندما تبدأ في ذبحي احكم قيدى حتى لا أتفلت منك، وشد وثاقى، وحد شفرتك، وألقني على وجهىي حتى لا تنظر في عيني فتأخذك الشفقة بي ويعز عليك ذبحي فتتراجع عن أمر الله، يا أبتِ خذ قميصي لأمي لا أملكُ غيره، صبرها به.
يصف الله سبحانه وتعالى لحظة ذبح إسماعيل.. كان الفتى راقدًا على الأرض ووجهه لها رحمة به فلا يرى نفسه وهو يُذبح، وإذا بإبراهيم يرفع يده بالسكين...
"فلمَّا أسلمَا".. استخدم القرآن هذا اللفظ ليؤكد تمام التسليم لأمر الله.. تهيأ الإبن للذبح وتهيأ الوالد لذبح ولده دون أن يعلم أي منهما أن هناك كبشًا يُربى في الجنة منذ خمسمائة عام لهذه اللحظة!
وفي اللحظة التي رُفِع فيها السكين لإمضاء أمره نادي المنادي جل جلاله"أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ".
فهتف "جبريل" فَرحًا في السماء.. "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله".. فرد عليه إبراهيم مطمئنًا أخيرًا بعد هذا الاختبار العصيب" الله أكبر الله أكبر ولله الحمد".
ومنذ هذه اللحظة وصار هذا اليوم عيدًا لقوم لم يولدوا بعد ليذكِّرهم الله أن في هذا التوقيت جلس شيخ رحيم وقور ليذبح ولده وصديقه الوحيد..!
إنه نعم الفتى.. قمة الاستسلام والتسليم لله رب العالمين
لذلك كان الجزاء وفديناه بذبح عظيم.
وكانت عظمة الذبح ليس في أنها أصبحت شعيرة للمسلمين من بعده ولكن فى كلمة "وناديناه"جل جلال المُنادى.. وسلامُ على ابراهيم الذى وفَّى ، وإسماعيل الذي أسلم واستسلم.
كل عام ونحن وأنتم مسلمون.. لا تنسونا من دعائكم.. ولا تنسوا أن تخبروا أبنائكم قصة الأب الذي ابتليَّ بذبح ولده فكانت لهما بلاء ولنا عيدا.