الناقد محمد أشويكة لـ"العرب": السينما ترصد التفاعل الإنساني في كل التباساته الوجودية
كتب المؤلف مساحة فكرية للنظر في الفلسفة والسينما والجمال.
الجمعة 2024/06/14
ShareWhatsAppTwitterFacebook
ناقد ذو نظرة مميزة للسينما المغربية
فلسفة الجمال عميقة جدا لا يلحظها أغلب البشر بسهولة، ومن يلحظها قد يتجه إلى التعبير عنها عبر فنون متنوعة من بينها السينما التي تصور العالم من حولنا بطرق مختلفة تتنوع بتنوع رؤى وأفكار المخرجين. حول فلسفة السينما، يأتي كتاب الناقد المغربي محمد أشويكة الذي جمعنا به الحوار التالي لصحيفة “العرب”.
الرباط - شهدت الدورة الثالثة عشرة لمهرجان الرشيدية السينمائي بالمغرب التي انعقدت أواخر شهر مايو الماضي توقيع كتاب “فلسفة السينما: مدخل نظري تطبيقي” للناقد السينمائي محمد أشويكة، الذي يشكل إضافة قيمة لمكتبة الفن السابع، حيث يسعى لتقديم رؤى جديدة تعمق فهمنا لتأثير الثقافة السينمائية في المجتمع المغربي.
في هذا السياق كان لصحيفة “العرب” لقاء صحفي مع الكاتب حول محتويات الكتاب وأهميته في تعزيز الوعي من أجل خلق مساحة فكرية بين الفلسفة والسينما.
وعن سبل إدراك مفهوم الجمال في السينما بالنظر إلى مقارنته في فصول الكتاب بين صوت العندليب ومغنية الأوبرا ديفا، وكيفية تأثير هذا الفهم بالتفاعل بين الذكاء والإحساس والحلم، يقول أشويكة “انشغل الدرس الفلسفي ببلادنا بالأولويات الفلسفية الكبرى، ولم نستطع أن نتخلص من ثقله إلى الآن بالرغم من بعض المحاولات الجنينية التي تظل منفردة، يعود الفضل فيها للمنشغلين بها فقط. مثلا، لم نهتم بجماليات الأذن، بمعنى كيف أسمع؟ ماذا أسمع؟ هل كل ما أسمع جميل؟ هل يتم تعلم الاستماع؟ في فلسفة الصوت، وضمنه تندرج الموسيقى، ويشغلني سؤال الألحان والتنافر أكثر من الصوت الذي يمكن أن نبحث فيه عن الانسجام كما يتجلى ذلك في أصوات الأماكن الفارغة الفسيحة”.
ويشرح “لهذا، فالاهتمام بثقافة السمع، في زمن الضوضاء والتلوث الصوتي والنشاز، يقودني صوب الارتماء في عوالم الحس العليا التي تصدر عن بعض الذوات الصادحة الرقيقة، وفي هذا عمق يذكرني بما طوره الباحث ومهندس ومبدع الصوت الفرنسي دانييل ديشايس في مجالات السينما والمسرح، فضلا عما أبدعه العبقري الإيطالي إنيو موريكوني في مجال الموسيقى البصرية”.
قيمة الفن الأصيل تتجاوز طابعه الاستهلاكي لأن ما يخلد منه يكتسي طابعا استشرافيا لمستقبل الإنسانية
وفي ما يتعلق بفلسفة إيمانويل كانط وستانلي كاڤل، وربط مفاهيمهما بالفن السينمائي الحديث ومستجدات التكنولوجيا، يقول “من المعلوم أن ستانلي كاﭬل قد ربط كانط بالسينما، كما ربط فلاسفة آخرين بها، لم يعيشوا فترتها، بدءا من بعض الفلاسفة اليونانيين القدامى إلى فلاسفة النهضة وغيرهم، وهذا اجتهاد فلسفي يرقى إلى مرتبة الإبداع ما دامت الفلسفة إبداعا إنسانيا، مدونا تلك التجربة الفلسفية العميقة في كتابه الضخم ‘فلسفة القاعات المظلمة’. فقد رأى كاﭬل في كانط صوتا كونيا يلامس الجمال في بعده الفلسفي العميق. هكذا، حاول كاﭬل في فلسفته ولغته تضمين الصوت الكانطي بوصفه أحد الأصوات الفلسفية الكبرى التي تمثل شكلا من أشكال الحياة، صوتا عقلانيا مُوَحَّدا في اتفاقه مع الأصوات الأخرى”.
ويوضح “هنا يمكن كشف المعيارية المفاهيمية التي تندرج ضمن ترحال المفاهيم وتَصَادِيهَا أثناء ممارسة التفلسف. حاولت في كتابي ‘فلسفة السينما: مدخل نظري تطبيقي’ العمل وفق نظرة تسعى إلى تقديم المفاهيم الفلسفية الكانطية في سياقات تحقق التفكير المنسجم مع كاﭬل داخل منظور شامل يجعلها مُسْعِفَة في فهم وتحليل وتأويل التجربة السينمائية. وبهذا، نقترح فحص ما فكر به وفيه هذان الفيلسوفان حول عقلانية ومعيارية اللغة والصوت، مع العمل على تدليل أهم المفاهيم الكانطية، كي يصيرا متسقين – والسبق الكاﭬيلي علامة في هذا الباب – محتوى ومنهجا، نظرا وتطبيقا”.
ويمكن أن يسهم الفهم الثاني للجمال كما ورد في الكتاب في تطوير فهمنا للفن السينمائي والثقافة البصرية بشكل عام من وجهة نظر المؤلف الذي يقول إن “كاﭬل جعل المنهج الكانطي في صالح إظهار تجاربنا الحياتية ولو بشكل عام، فإذا كانت كلمات لغتنا العادية تخضع لشروط الإمكانية فاللغة السينمائية تُقَاسُ بمدى تعبيريتها الجمالية. وقد كان لأبحاث الفيلسوف ستانلي كاﭬل بالغ الأثر في توسيع دائرة الفهم الكانطية كي تشمل استخدام اللغة السينمائية لأن كانط يؤكد أن الجمال يرمز إلى الأخلاق، فما هو موجود في الجمال مترابط، بطريقة أو بأخرى، بما هو موجود في الأخلاق. إن حساسيتنا الجمالية تدفعنا نحو توحيد التنوع الذي يتحقق أثناء الوعي بأدائنا الأخلاقي، وهذا يخضع في جوهره للمصالح المتباينة لما هو كوني. إذا الجمال يعنينا لأنه يوقظ فينا الوعي بانتمائنا للإنسانية”.
ويضيف أن “التفكير في فلسفة السينما يمكن أن يؤثر على تفسير الأفلام المعاصرة حيث يعلمنا درس الفلسفة في شقه الجمالي، من بين ما يعلمنا إياه، أن الإنسان يبتعد عن الحيوانية كلما ارتقت حساسيته القيمية (الأخلاقية والجمالية)، فوصف الجمال لصيق بما نواجهه في الطبيعة، ولكنه فينا أيضا. هكذا، يتوافق الجمال مع الاستخدام أو الغاية التي نريدها من الأفلام. وبما أن الأفلام متنوعة فالأرجح أن فلسفة السينما معنية بالتذوق الفيلمي بغض النظر عن الحكم النهائي الذي يمثل ذلك الاستخدام أو تلك الغاية”.
سيظل في هذا العالم حيز للسينما لأن شاشاتها المبسوطة في شتى أنحاء المعمورة تقترح علينا مفهوما نقديا للحياة
ويشير أشويكة إلى أن “هذا الكتاب بعد ثلاثة أخرى سبقته في هذا الشأن وهي ‘التفكير في السينما.. التفكير بالسينما’، و’الإنسان الأيقوني’ (في طبعتين) و’العرض السينمائي تصورا للعالم’، بمعنى وروده ضمن تصور ابستيمولوجي يضع السينما والفلسفة في مضمار التبادل الخلاق، تحضرني فكرة إنكار هيغل لوجود الجمال الطبيعي لأنه، في نظره، اختراع للعقل. فهو مهما كان متواضعا يدل على القطيعة مع الطبيعة. أقصد أن الرغبة الشخصية في إيصال الأفكار يسبقنا إليها الحديث عن جمال الفن بوصفه الشهادة الملموسة والمشتركة عن حياة الروح وحريتها. ومن هنا يمكنني القول إن ارتفاع حساسيتنا تجاه أشكال الجمال ومنها السينما، يمكّنني من تذوق هذه الحرية التي أرغب في تقاسمها مع القراء المفترضين لكتبي”.
أما عن كيفية استخدام الفنانين والمخرجين لمفاهيم فلسفة السينما الكانطية والكاڤلية في تطوير أعمالهم، يقول الكاتب “تشير الباحثة الفرنسية إليز دوميناك في كتابها الصادر حديثا ‘شاشة أفكارنا: ستانلي كاﭬل، الفلسفة والسينما’ إلى ثلة من المخرجين السينمائيين العالميين الذين استفادوا من أفكار كاﭬل، ومنهم لوك داردين وأرنو ديبليشان، وكلير سيمون. إذا افترضنا أن للفنان والمخرج اطلاعا على النظريات الكبرى للجمال، وله حد أدنى من التكوين الأكاديمي أو الذاتي، فلا يمكن ألا يطلع على أفكار كانط الأساسية في الإستيتيقا أو بعض نصوصه المُؤَسِّسَة ولو في دروس الفلسفة المدرسية. أما تجربة ستانلي كاﭬل فهي رائدة لأنه بدأ بربط العلاقة بين الفلسفة والسينما حين تمَّ تعيينه وهو الفيلسوف الشاب بجامعة هارفارد أي عشرين سنة قبل جيل دولوز”.
أشويكة يعتقد أن قيمة الفن الأصيل تتجاوز طابعه الاستهلاكي لأن ما يخلد منه يكتسي طابعا استشرافيا لمستقبل الإنسانية
ويؤكد أشويكة أن “الحياة لا تستقيم دون حلم، فالإنسان حيوان حالم بل هو مدين للحلم في مواجهته للطبيعة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحس بالجمال الطبيعي وهو يعيش صيرورة الخلق الجمالي المتواصلة والمفتوحة من خلال الفنون التي ابتكرها ويبتكرها باستمرار. تظل تجربة المشاهدة السينمائية شخصية ومتفردة لأن الإنسان يعيشها بناء على خزان حلمه الذاتي. لكنه وحده يحكم على أن بعض الأعمال أجمل من غيرها. بمعنى أن حساسيته بالجمال تنطوي على حلم داخلي ينكشف بشكل نشيط أثناء انغماسه في تجربة المشاهدة السينمائية أو بعدها. لذلك، فالجمال الذي نحسه يمنحنا الفرصة لإعادة تشكيل الحلم، والدفع بأحلام أخرى نحو التشكل، ولو بشكل ضمني، وهذا دليل على تفردنا وعلى إدراك البعد الروحي لوجودنا”.
ويضيف “ليس هناك أفضل مما اقترحه كاﭬل عينه، فقد قدم سلسلة من المحاضرات الجامعية داخل هارفارد لبسط النصوص الفلسفية المُؤَسِّسَة للفلسفة الأخلاقية، ولعرض روائع العصر الذهبي للسينما الهوليوودية خلال ثلاثينات وأربعينات العصر المنقضي. وهي التجربة التي دَوَّنَهَا في كتابه وخَصَّصَ فصلا لأحد الفلاسفة مقابل فصل آخر لأحد الأفلام/المخرجين، وهي تجربة كاشفة عن مدى حيوية العلاقة بين الفلسفة والسينما. أعتقد أن هذه الطريقة أصيلة في تدريس الفلسفة، وهي أقرب إلى ذهنية طلبة اليوم لما فيها من تحفيز على التفاعل بين تلقي جماليات السينما ضمن أفق يلبي الانفتاح على الحياة واكتساب مهاراتها النقدية والتحليلية والقيمية”.
ويتابع “كانت إشارتي إلى الرأي الهيغيلي في الجواب السابق منسجمة مع ما طرحته في الكتاب، بمعنى أن السينما تقتطع الطبيعة كي تضعها داخل إطارها الخاص أو تصنع طبيعتها الخاصة. أظن أن الجمال يُدْخِلُ الإنسان إلى العَالَم كي تصير له قيمة غريبة عن الضرورة القصوى التي جاءت بها الطبيعة. فالجبل جبل لكن ذهابنا إليه وتصويرنا له يجعله رومانسيا أو سورياليا، الأمر الذي يجعله مُنْزَاحًا، ولو في الحد الأدنى، عن الوضع الذي هو موجود عليه. نحن من يجعله كذلك. هكذا إذا بدا لي أن فيلما أجمل من فيلم آخر، لأن كل فيلم ليس جميلا بالمطلق ولا رديئا بالمطلق لكن خصوصية الإنسان في العالم، تتجاوز حضوره الجسدي في الحياة”.
ويعتقد أشويكة أن “قيمة الفن الأصيل تتجاوز طابعه الاستهلاكي لأن ما يخلد منه يكتسي طابعا استشرافيا لمستقبل الإنسانية. وبما أن الفن السينمائي ينبني في جوهره على تطويع الصناعة لصالحه فإنه يظل كاشفا عن أزمات الإنسان المتعددة والمتجددة. سيظل في هذا العَالَم حيز للسينما لأن شاشاتها المبسوطة في شتى أنحاء المعمور تقترح علينا مفهوما نقديا للحياة، تدعونا إلى أن يتجدد الإنسان في سياقات معينة، تُلْزِمُهُ في غالبية الأوقات باستعادة السيطرة على ذاته ومحيطه: السينما فن يسعى إلى رصد هذا التفاعل في كل التباساته الوجودية”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عبدالرحيم الشافعي
كاتب مغربي
كتب المؤلف مساحة فكرية للنظر في الفلسفة والسينما والجمال.
الجمعة 2024/06/14
ShareWhatsAppTwitterFacebook
ناقد ذو نظرة مميزة للسينما المغربية
فلسفة الجمال عميقة جدا لا يلحظها أغلب البشر بسهولة، ومن يلحظها قد يتجه إلى التعبير عنها عبر فنون متنوعة من بينها السينما التي تصور العالم من حولنا بطرق مختلفة تتنوع بتنوع رؤى وأفكار المخرجين. حول فلسفة السينما، يأتي كتاب الناقد المغربي محمد أشويكة الذي جمعنا به الحوار التالي لصحيفة “العرب”.
الرباط - شهدت الدورة الثالثة عشرة لمهرجان الرشيدية السينمائي بالمغرب التي انعقدت أواخر شهر مايو الماضي توقيع كتاب “فلسفة السينما: مدخل نظري تطبيقي” للناقد السينمائي محمد أشويكة، الذي يشكل إضافة قيمة لمكتبة الفن السابع، حيث يسعى لتقديم رؤى جديدة تعمق فهمنا لتأثير الثقافة السينمائية في المجتمع المغربي.
في هذا السياق كان لصحيفة “العرب” لقاء صحفي مع الكاتب حول محتويات الكتاب وأهميته في تعزيز الوعي من أجل خلق مساحة فكرية بين الفلسفة والسينما.
وعن سبل إدراك مفهوم الجمال في السينما بالنظر إلى مقارنته في فصول الكتاب بين صوت العندليب ومغنية الأوبرا ديفا، وكيفية تأثير هذا الفهم بالتفاعل بين الذكاء والإحساس والحلم، يقول أشويكة “انشغل الدرس الفلسفي ببلادنا بالأولويات الفلسفية الكبرى، ولم نستطع أن نتخلص من ثقله إلى الآن بالرغم من بعض المحاولات الجنينية التي تظل منفردة، يعود الفضل فيها للمنشغلين بها فقط. مثلا، لم نهتم بجماليات الأذن، بمعنى كيف أسمع؟ ماذا أسمع؟ هل كل ما أسمع جميل؟ هل يتم تعلم الاستماع؟ في فلسفة الصوت، وضمنه تندرج الموسيقى، ويشغلني سؤال الألحان والتنافر أكثر من الصوت الذي يمكن أن نبحث فيه عن الانسجام كما يتجلى ذلك في أصوات الأماكن الفارغة الفسيحة”.
ويشرح “لهذا، فالاهتمام بثقافة السمع، في زمن الضوضاء والتلوث الصوتي والنشاز، يقودني صوب الارتماء في عوالم الحس العليا التي تصدر عن بعض الذوات الصادحة الرقيقة، وفي هذا عمق يذكرني بما طوره الباحث ومهندس ومبدع الصوت الفرنسي دانييل ديشايس في مجالات السينما والمسرح، فضلا عما أبدعه العبقري الإيطالي إنيو موريكوني في مجال الموسيقى البصرية”.
قيمة الفن الأصيل تتجاوز طابعه الاستهلاكي لأن ما يخلد منه يكتسي طابعا استشرافيا لمستقبل الإنسانية
وفي ما يتعلق بفلسفة إيمانويل كانط وستانلي كاڤل، وربط مفاهيمهما بالفن السينمائي الحديث ومستجدات التكنولوجيا، يقول “من المعلوم أن ستانلي كاﭬل قد ربط كانط بالسينما، كما ربط فلاسفة آخرين بها، لم يعيشوا فترتها، بدءا من بعض الفلاسفة اليونانيين القدامى إلى فلاسفة النهضة وغيرهم، وهذا اجتهاد فلسفي يرقى إلى مرتبة الإبداع ما دامت الفلسفة إبداعا إنسانيا، مدونا تلك التجربة الفلسفية العميقة في كتابه الضخم ‘فلسفة القاعات المظلمة’. فقد رأى كاﭬل في كانط صوتا كونيا يلامس الجمال في بعده الفلسفي العميق. هكذا، حاول كاﭬل في فلسفته ولغته تضمين الصوت الكانطي بوصفه أحد الأصوات الفلسفية الكبرى التي تمثل شكلا من أشكال الحياة، صوتا عقلانيا مُوَحَّدا في اتفاقه مع الأصوات الأخرى”.
ويوضح “هنا يمكن كشف المعيارية المفاهيمية التي تندرج ضمن ترحال المفاهيم وتَصَادِيهَا أثناء ممارسة التفلسف. حاولت في كتابي ‘فلسفة السينما: مدخل نظري تطبيقي’ العمل وفق نظرة تسعى إلى تقديم المفاهيم الفلسفية الكانطية في سياقات تحقق التفكير المنسجم مع كاﭬل داخل منظور شامل يجعلها مُسْعِفَة في فهم وتحليل وتأويل التجربة السينمائية. وبهذا، نقترح فحص ما فكر به وفيه هذان الفيلسوفان حول عقلانية ومعيارية اللغة والصوت، مع العمل على تدليل أهم المفاهيم الكانطية، كي يصيرا متسقين – والسبق الكاﭬيلي علامة في هذا الباب – محتوى ومنهجا، نظرا وتطبيقا”.
ويمكن أن يسهم الفهم الثاني للجمال كما ورد في الكتاب في تطوير فهمنا للفن السينمائي والثقافة البصرية بشكل عام من وجهة نظر المؤلف الذي يقول إن “كاﭬل جعل المنهج الكانطي في صالح إظهار تجاربنا الحياتية ولو بشكل عام، فإذا كانت كلمات لغتنا العادية تخضع لشروط الإمكانية فاللغة السينمائية تُقَاسُ بمدى تعبيريتها الجمالية. وقد كان لأبحاث الفيلسوف ستانلي كاﭬل بالغ الأثر في توسيع دائرة الفهم الكانطية كي تشمل استخدام اللغة السينمائية لأن كانط يؤكد أن الجمال يرمز إلى الأخلاق، فما هو موجود في الجمال مترابط، بطريقة أو بأخرى، بما هو موجود في الأخلاق. إن حساسيتنا الجمالية تدفعنا نحو توحيد التنوع الذي يتحقق أثناء الوعي بأدائنا الأخلاقي، وهذا يخضع في جوهره للمصالح المتباينة لما هو كوني. إذا الجمال يعنينا لأنه يوقظ فينا الوعي بانتمائنا للإنسانية”.
ويضيف أن “التفكير في فلسفة السينما يمكن أن يؤثر على تفسير الأفلام المعاصرة حيث يعلمنا درس الفلسفة في شقه الجمالي، من بين ما يعلمنا إياه، أن الإنسان يبتعد عن الحيوانية كلما ارتقت حساسيته القيمية (الأخلاقية والجمالية)، فوصف الجمال لصيق بما نواجهه في الطبيعة، ولكنه فينا أيضا. هكذا، يتوافق الجمال مع الاستخدام أو الغاية التي نريدها من الأفلام. وبما أن الأفلام متنوعة فالأرجح أن فلسفة السينما معنية بالتذوق الفيلمي بغض النظر عن الحكم النهائي الذي يمثل ذلك الاستخدام أو تلك الغاية”.
سيظل في هذا العالم حيز للسينما لأن شاشاتها المبسوطة في شتى أنحاء المعمورة تقترح علينا مفهوما نقديا للحياة
ويشير أشويكة إلى أن “هذا الكتاب بعد ثلاثة أخرى سبقته في هذا الشأن وهي ‘التفكير في السينما.. التفكير بالسينما’، و’الإنسان الأيقوني’ (في طبعتين) و’العرض السينمائي تصورا للعالم’، بمعنى وروده ضمن تصور ابستيمولوجي يضع السينما والفلسفة في مضمار التبادل الخلاق، تحضرني فكرة إنكار هيغل لوجود الجمال الطبيعي لأنه، في نظره، اختراع للعقل. فهو مهما كان متواضعا يدل على القطيعة مع الطبيعة. أقصد أن الرغبة الشخصية في إيصال الأفكار يسبقنا إليها الحديث عن جمال الفن بوصفه الشهادة الملموسة والمشتركة عن حياة الروح وحريتها. ومن هنا يمكنني القول إن ارتفاع حساسيتنا تجاه أشكال الجمال ومنها السينما، يمكّنني من تذوق هذه الحرية التي أرغب في تقاسمها مع القراء المفترضين لكتبي”.
أما عن كيفية استخدام الفنانين والمخرجين لمفاهيم فلسفة السينما الكانطية والكاڤلية في تطوير أعمالهم، يقول الكاتب “تشير الباحثة الفرنسية إليز دوميناك في كتابها الصادر حديثا ‘شاشة أفكارنا: ستانلي كاﭬل، الفلسفة والسينما’ إلى ثلة من المخرجين السينمائيين العالميين الذين استفادوا من أفكار كاﭬل، ومنهم لوك داردين وأرنو ديبليشان، وكلير سيمون. إذا افترضنا أن للفنان والمخرج اطلاعا على النظريات الكبرى للجمال، وله حد أدنى من التكوين الأكاديمي أو الذاتي، فلا يمكن ألا يطلع على أفكار كانط الأساسية في الإستيتيقا أو بعض نصوصه المُؤَسِّسَة ولو في دروس الفلسفة المدرسية. أما تجربة ستانلي كاﭬل فهي رائدة لأنه بدأ بربط العلاقة بين الفلسفة والسينما حين تمَّ تعيينه وهو الفيلسوف الشاب بجامعة هارفارد أي عشرين سنة قبل جيل دولوز”.
أشويكة يعتقد أن قيمة الفن الأصيل تتجاوز طابعه الاستهلاكي لأن ما يخلد منه يكتسي طابعا استشرافيا لمستقبل الإنسانية
ويؤكد أشويكة أن “الحياة لا تستقيم دون حلم، فالإنسان حيوان حالم بل هو مدين للحلم في مواجهته للطبيعة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحس بالجمال الطبيعي وهو يعيش صيرورة الخلق الجمالي المتواصلة والمفتوحة من خلال الفنون التي ابتكرها ويبتكرها باستمرار. تظل تجربة المشاهدة السينمائية شخصية ومتفردة لأن الإنسان يعيشها بناء على خزان حلمه الذاتي. لكنه وحده يحكم على أن بعض الأعمال أجمل من غيرها. بمعنى أن حساسيته بالجمال تنطوي على حلم داخلي ينكشف بشكل نشيط أثناء انغماسه في تجربة المشاهدة السينمائية أو بعدها. لذلك، فالجمال الذي نحسه يمنحنا الفرصة لإعادة تشكيل الحلم، والدفع بأحلام أخرى نحو التشكل، ولو بشكل ضمني، وهذا دليل على تفردنا وعلى إدراك البعد الروحي لوجودنا”.
ويضيف “ليس هناك أفضل مما اقترحه كاﭬل عينه، فقد قدم سلسلة من المحاضرات الجامعية داخل هارفارد لبسط النصوص الفلسفية المُؤَسِّسَة للفلسفة الأخلاقية، ولعرض روائع العصر الذهبي للسينما الهوليوودية خلال ثلاثينات وأربعينات العصر المنقضي. وهي التجربة التي دَوَّنَهَا في كتابه وخَصَّصَ فصلا لأحد الفلاسفة مقابل فصل آخر لأحد الأفلام/المخرجين، وهي تجربة كاشفة عن مدى حيوية العلاقة بين الفلسفة والسينما. أعتقد أن هذه الطريقة أصيلة في تدريس الفلسفة، وهي أقرب إلى ذهنية طلبة اليوم لما فيها من تحفيز على التفاعل بين تلقي جماليات السينما ضمن أفق يلبي الانفتاح على الحياة واكتساب مهاراتها النقدية والتحليلية والقيمية”.
ويتابع “كانت إشارتي إلى الرأي الهيغيلي في الجواب السابق منسجمة مع ما طرحته في الكتاب، بمعنى أن السينما تقتطع الطبيعة كي تضعها داخل إطارها الخاص أو تصنع طبيعتها الخاصة. أظن أن الجمال يُدْخِلُ الإنسان إلى العَالَم كي تصير له قيمة غريبة عن الضرورة القصوى التي جاءت بها الطبيعة. فالجبل جبل لكن ذهابنا إليه وتصويرنا له يجعله رومانسيا أو سورياليا، الأمر الذي يجعله مُنْزَاحًا، ولو في الحد الأدنى، عن الوضع الذي هو موجود عليه. نحن من يجعله كذلك. هكذا إذا بدا لي أن فيلما أجمل من فيلم آخر، لأن كل فيلم ليس جميلا بالمطلق ولا رديئا بالمطلق لكن خصوصية الإنسان في العالم، تتجاوز حضوره الجسدي في الحياة”.
ويعتقد أشويكة أن “قيمة الفن الأصيل تتجاوز طابعه الاستهلاكي لأن ما يخلد منه يكتسي طابعا استشرافيا لمستقبل الإنسانية. وبما أن الفن السينمائي ينبني في جوهره على تطويع الصناعة لصالحه فإنه يظل كاشفا عن أزمات الإنسان المتعددة والمتجددة. سيظل في هذا العَالَم حيز للسينما لأن شاشاتها المبسوطة في شتى أنحاء المعمور تقترح علينا مفهوما نقديا للحياة، تدعونا إلى أن يتجدد الإنسان في سياقات معينة، تُلْزِمُهُ في غالبية الأوقات باستعادة السيطرة على ذاته ومحيطه: السينما فن يسعى إلى رصد هذا التفاعل في كل التباساته الوجودية”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عبدالرحيم الشافعي
كاتب مغربي